عولمة الإرهاب ومعضلة التوازن بين الأمن والديموقراطية
مركّبة هي العلاقة ما بين تحقيق الأمن وحماية الديموقراطية، فعندما ينصرف الحديث باتجاه الأمن القومي للدولة، تبرز أهمية الديموقراطية بوصفها ركيزة محورية لترسيخ دعائم ذلك الأمن، خصوصاً لجهة أبعاده غير العسكرية كتلك السياسية والإنسانية والمجتمعية. أما حينما ينصب الاهتمام على الأمن الداخلي، فإن الأمر يتمحور حول كيفية الموازنة بين ضمان حقوق الأفراد وحرياتهم الأساسية من جهة، والتدابير والإجراءات الخاصة بحماية وتعزيز ذلك الأمن من جهة أخرى، مع الأخذ في الاعتبار أن المؤسسات التي يرتكن إليها النظام الديموقراطي، سواء الرسمية منها كمؤسسات الإدارة والقضاء والبرلمان وغيرها، أو غير الرسمية، كالأحزاب السياسية والنقابات المهنية ومنظمات المجتمع المدني، تحتاج جميعها إلى بيئة آمنة ومستقرة لكي تستطيع الاضطلاع بمهامها والقيام بالدور المنوط بها ضمن سياق دولة القانون.
وتمخضت عولمة الإرهاب، بشتى صوره، وتعاظم التهديدات الإرهابية وتطور آلياتها وإمكاناتها إلى حد جعل منها خطراً يحاصر العالم أجمع ويهدد الحضارة الإنسانية برمتها، إلى اتساع نطاق التداخل بين متطلبات الممارسة الديموقراطية وموجبات تحقيق الأمن، حتى أضحى جلّ المجتمعات والنظم السياسية المعاصرة يواجه ما يمكن أن نطلق عليه «معضلة الأمن و الديموقراطية»، والتي تتأتى من الاتساع المستمر في التناقض ما بين المتطلبات المتغيرة والمتزايدة لتحقيق الأمن، وموجبات ضمان الديموقراطية بمحتواها المتطور وآليات ممارستها المتجددة، والتي قد تفسح بدورها المجال لبروز مصادر تهديد مستحدثة للأمن القومى. وبناء عليه، أمسى التحدي المشترك الذي يواجه حكومات العالم وشعوبه على السواء متجسداً في كيفية تحقيق المعادلة الصعبة المتمثلة في تحري الإجراءات والتدابير الكفيلة بمحاربة الإرهاب واستئصال شأفته من جانب، مع عدم المساس بالديموقراطية أو الافتئات على حقوق الإنسان وحرياته على الجانب الآخر. أو بصيغة أخرى، كيفية الوصول إلى أقرب نقطة للتوازن يتحقق عندها أقصى قدر ممكن من متطلبات تحقيق الأمن، وأقصى قدر ممكن من موجبات تحقيق الممارسة الديموقراطية الفعالة.
وتبدو جليّة ملامح تلك المعضلة أو المعادلة الصعبة، في سياق الوظيفة الأساسية للدولة الوطنية والمتمثلة في تأمين المصلحة العامة، من خلال الاضطلاع بأربع مهام محورية: أمنية، اقتصادية، اجتماعية، سياسية.
وكي تنجح الدولة في أداء وظيفتها الأساسية تلك، حريٌّ بها أن تتوخى تحقيق التوازن، قدر المستطاع، عند مباشرتها لمهامها الأربع المحورية الأخرى، بحيث لا تطغى مساعيها وجهودها لبلوغ إحداها على الأخرى. وربما لا يتأتى التوازن ما بين الديموقراطية والأمن إلا عبر تحقيق معادلة صعبة تتمثل في الوصول إلى نقطة توازن بين المهام الأمنية والسياسية للدولة.
وهكذا، يتجلى الشق الأول من تلك المعادلة في إطار ما يعرف بالوظيفة الأمنية للدولة، إذ تسعى الأخيرة لتحقيق أمن الوطن والمواطن بشقيه الخارجي والداخلي. فخارجياً، ينصرف تحقيق الأمن إلى ضمان وحدة وسلامة أراضي الدولة ودرء العدوان الأجنبي عنها من خلال إعداد قوات مسلحة مؤهلة وقادرة على إنجاز المهام الملقاة على عاتقها، مع مراعاة تطبيق مبدأ تبعية المؤسسة العسكرية للسلطة المدنية المنتخبة. وداخلياً، تلتزم الدولة بحفظ الاستقرار والأمان والسلم الأهلي وكفالة أرواح وأموال المواطنين من خلال إعداد قوات شرطة منظمة تكون مؤهلة لمكافحة الجرائم وتعقب مرتكبيها.
ومن هنا، جاء احتكار الدولة وحدها من دون سواها، الحق في امتلاك واستخدام القوة والعنف بموجب الدستور والقانون، توخياً لغاية محددة تتمثل في إنفاذ القوانين، وفرض النظام العام ومعاقبة المخالفين، إذا ما تطلب الأمر ذلك، على النحو المبين بالقانون. حيث يعهد إلى السلطة التشريعية بوضع الأطر القانونية المتعلقة بالأجهزة الأمنية، كما تتولى مساءلة ومحاسبة تلك الأجهزة، بحكم ما تتمتع به من مهام رقابية على السلطة التنفيذية وأجهزتها المختلفة. ومن ثم، فكلما التزمت هذه الأجهزة في أدائها لأعمالها بالقواعد المنظمة لعملها على النحو المبين بالقانون كانت أقرب إلى نقطة التوازن المطلوبة لتحقيق متطلبات الأمن والديموقراطية.
أما الشق الثاني من المعادلة الصعبة، فيأتي في سياق الوظيفة السياسية للدولة، والتي يتصدرها التزام الدولة بإرساء دعائم الممارسة الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان من خلال انتهاج مبدأ «أمن الديموقراطية ومقرطة الأمن»، والذي يتضمن بناء الأجهزة الأمنية ذات القدرات المهنية والتقنية المتقدمة التي تخولها التعامل مع التهديدات الأمنية التي تواجه المجتمعات الديموقراطية بأعلى مستوى من الكفاءة والفعالية، كما يستوجب بالتوازي تطوير التشريعات المنظمة لعمل الأجهزة الأمنية بما يتواءم وأية مستجدات، مع ترسيخ مبادئ وسلوكيات التزام الأجهزة الأمنية بأحكام القانون لأقصى قدر ممكن، علاوة على توسيع نطاق المشاركة في تحقيق أمن المجتمع من جانب جميع مؤسساته ومواطنيه، وذلك باعتبار أن الأمن قضية مجتمع، لا يتحقق إلا من خلال التعاون بين جميع مكوناته. ومن هذا المنطلق، يرى كل من هانس بيتر- مارتن وهارالد شومان في كتابهما «فخ العولمة»، أن المهمة الأساسية للدولة مستقبلاً، إذا ما أرادت الاستمرار، يجب أن تنصرف إلى استعادة أولوية السياسة على الاقتصاد والأمن.
طغيان الوظيفة الأمنية
غير أن معضلة كثير من الدول النامية، ومن بينها مصر بالطبع، تكمن في طغيان الوظيفة الأمنية للدولة على وظائفها الأخرى، لا سيما السياسية منها، بدعاوى من قبيل أن الوطن مستهدف ومحاصر بتحديات جسام وأعداء كثر في الداخل والخارج، إلى الحد الذي يجبر الدولة على إعطاء الأولوية للوظيفة الأمنية على حساب باقي الوظائف، فتتعطل الديموقراطية وتتأجل التنمية لمصلحة تحقيق الأمن، ومن ثم تتضخم الأجهزة الأمنية، وتتنوع مسمياتها، وتتعاظم نفقاتها، وتتسع صلاحياتها، على حساب السلطتين التشريعية والتنفيذية، حتى إن أعداد قوات الأمن وتجهيزاتها ومخصصاتها المالية في بعض الدول العربية يمكن أن تفوق مثيلاتها لدى القوات المسلحة.
وبناء عليه، بات من المثير في أمر تعاطي دول العالم مع معضلة الأمن والديموقراطية، جنوح الكثير منها لإدراك التوازن المطلوب بهذا الصدد على مستوى التصريحات والأقوال من دون السياسات والأفعال. فما إن بدأت تتوالى انتهاكات الحكومات لحقوق الإنسان في دول عدة، بما فيها تلك التي عرفت طريقها منذ وقت مبكر إلى الديموقراطية المستقرة، تحت دعاوى توقيف الإرهابيين وتطويق الإرهاب، حتى هرعت أنظمة وحكومات شتى تتبارى في إبداء حرصها البالغ على الديموقراطية وحقوق الإنسان وسط مساعيها الدؤوبة لمحاربة الإرهاب، خصوصاً بعدما تخطى الاهتمام العالمي بقضايا حقوق الإنسان حدود السيادة التي غدت نسبية للدولة الوطنية. فقبل نهاية شهر آذار (مارس) المنقضي.
وفي خطاب ألقاه أمام كبار ضباط الجيش في مقر الأكاديمية الحربية بأنقرة، وبعدما لفت إلى أنّ العمليات الإرهابية التي بدأت تستهدف العديد من دول العالم أجبرت تلك الدول على اتخاذ تدابير صارمة، باتت تلاحقها انتقادات جمة تتمثّل في إعطائها الأولوية للأمن على حساب الحريات، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أنّ بلاده تأتي في مقدم الدول التي تمكنت من تحقيق التوازن بين التدابير الأمنية المتخذة تجاه الإرهابيين، والحفاظ على حرية المواطنين.
وفى 19 آذار (مارس) الماضي، وخلال استقباله نائب رئيس وزراء سلوفاكيا؛ ميروسلاف لايتشاك، تعهد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي المضي بخطوات ثابتة على درب إرساء دعائم الديموقراطية. وأثناء لقاء له بعدد من الكتاب والمثقفين المصريين، بعدها بأيام، أكد السيسي تبني حكمه مقاربات توازن بين تحقيق الأمن وترسيخ الحريات واحترام حقوق الإنسان. وإبان زيارة وفد الكونغرس الأميركي القاهرة قبل نهاية الشهر ذاته، قال السيناتور ليندسي براهام، رئيس الوفد ورئيس اللجنة الفرعية للعمليات الخارجية في لجنة الاعتمادات، عضو لجنة القوات المسلحة، إن الإدارة الأميركية ستدعم جهود الرئيس السيسي في محاربة الإرهاب، على رغم وجود بعض الانتهاكات لحقوق الإنسان، متوقعاً أن تستجيب مصر لما سمّاه «المخاوف الشرعية للمجتمع الدولي في ما يتصل بحقوق الإنسان»، مع ضمان استمرار الأمن. معرباً عن رغبة بلاده في رؤية تقدم ملموس بهذا الخصوص. هذا؛ بينما لم تتورع صحيفة «نيويورك تايمز»، مطلع الشهر الجاري، عن دعوة الإدارة الأميركية إلى مراجعة العلاقة الخاصة مع القاهرة، ووقف مساعداتها السنوية لها بقيمة 1.3 بليون دولار، على خلفية السجل الأمني والحقوقي المقلق للسلطات المصرية الحالية.
صحيفة الحياة اللندنية