قديما قالوا ، الشعر ديوان العرب ، للمكانة الكبرى التي كان يقوم عليها الشعر في تاريخ الفن العربي . وللشعر في الحضارة العربية منابر ومواسم . كانوا يجتمعون فيها ويقدمون ما جادت بها قرائحهم على جموع المهتمين ، ويسمع الناس هذا الشعر ، ثم يتدارسونه تحليلا وتعليلا .
مع ظهور الإسلام ، وبناء الدولة العربية القوية في العصرين الأموي والعباسي ، وكذلك الدولة الأموية في الأندلس ، تابع الشعر في مكانته التي كان عليها . بل إن الشعر بما يحمله من فكر وفن ظل موجودا بقوة على ساحة الوجدان العربي حتى عصور متأخرة نسبيا ، وهي العصر الحديث ، فقصائد أحمد شوقي ومعروف الرصافي و الأخطل الصغير وعمر أبو ريشة ومحمد مهدي الجواهري وغيرهم كانت تتلوها الجماهير العربية من المحيط للخليج . ولكن وأسفا على هذه ال لكن . لم يحتفظ الشعر العربي بمكانته تلك . وبالتالي سقط مكان التميز في وجه الحضارة العربية . ألم يقل هيغل مرة ” أما الشعراء فهم العرب ” جملة قاطعة مانعة ، تصدر عن عقل بحجم هيغل هي دليل حسي هام على القامة التي كان يتمتع بها الشعر العربي على صعيد الأدب العالمي . ومع إنحسار دور العرب الحضاري ، أنحسر دور الشعر وصار تكلفا لفظيا وهرطقات مشوشة إلا لدى الندرة .
منذ عقود قال الشاعر الكبير عمر أبو ريشة .
أمتي هل لك بين الأمم منبر للسيف أو للقلم
أتلقاك وطرفي خجل من أمسك المنصرم
فكر المعري ، ألهم دانتي شاعر إيطاليا الأكبر مؤلفه الشهير الكوميديا الألهية ، رواية ألف ليلة وليلة ، وبسبب ترجتمها للعربية أنتشرت في العالم وألهمت موسيقي كبير مثل رميسكي كورساكوف السيمفونية الشهيرة التي سماها شهرزاد . أفكار الدولة الكاملة ، درستها أكابر قامات الحقوق في العالم من خلال فهم الخليفة عمر بن الخطاب لمسؤولية ودور الدولة في خدمة مواطنيها . نظريات ابن الهيثم تعتبر حتى الآن العصب الأساس في علم الضوء في كبريات المؤلفات الفيزيائية التي تتابع الموضوع ، وغير ذلك كثير مما يطول الحديث عنه في هذا المقال .
بعض أدبائنا ، يتحصنون الآن برغبات جامحة للتحصل على بعض الجوائز العالمية ، للوصول إلى العالمية الأدبية والفكرية ، كبديل عن الوجود الفعال الحقيقي في الضمير الشعبي للناس .
هذه الجوائز الهامة والعالمية ، لا تحكمها دائما وللأسف الشديد معايير الموهبة والمكانة الحقيقية للشاعر ، بل وكما العادة تدخل الإعتبارات السياسية والمواقف من مواضيع فكرية مفصلية ، كطريق ممهد أو حجر عثرة في الوصول لهذا المنابر . من أهم هذه الجوائز بل أهمها جائزة نوبل للآداب . التي نالها حتى اللحظة عربي واحد هو الروائي المصري الكبير والهام نجيب محفوظ ، رغم رغبة البعض منهم الجامحة للفوز بهذا اللقب ولو على حساب تقديم تنازلات فكرية ووطنية كبرى . وهذا ما ينسحب على متورطين من المبدعين العرب في جائزة البوكر العربية للرواية .
مشروع ومبرر ، بل وضروري أن يحتفى بالإبداع العربي على ساحة العالم ، لأن في هذا وضع الأمة العربية في سكة الحضارة العالمية مجددا بعد طول غياب ، ولكن الأهم من هذا التيقن ، أن هذا الكسب أو التميز إنما تحصل عليه صاحبه بسبب من علو قامته الأدبية والمعرفية وليس بسبب تنازلات قدمت ، أو يطلب تقديمها .
سنعود مرة جديدة إلى نظريات المؤامرة التي ليست خافية على أحد هنا ، أن هذه الجوائز الأدبية العالمية إنما تتجه إلى أسماء بعينها ، هم اللذين يتأطرون بنهج أو محور محدد ، يطابق أو يقارب وجهة نظر عالمية قوية ومهيمنة . وعلى العكس ، لا يمكن لهذه الجوائز أن تلحظ في حيثياتها و ترشيحاتها أسماء عرفت بمواقف فكرية ووطنية مشهورة ، تطابق أو تماثل وجهات نظر فريق ما . من هذه الأسماء محمد الماغوط ، حنا مينه ، يوسف إدريس ، الجواهري وغيرهم .
عندما كان للأدب فعل حقيقي في الشارع العربي ، وخاصة في الجانب الشعري منه ، كان صاحب حضور طاغ ، يؤكد ذلك ، صراع خفي وأحيانا علني بين بعض الشعراء العرب وبعض الحكام . مثلا الجواهري ونوري السعيد في العراق ، نزار قباني وسلطة البعث في سورية ، عمر أبو ريشة و الوزير مردم بيك في سورية . مظفر النواب وصدام حسين في العراق أحمد فؤاد نجم والسادات في مصر . وغيرهم .
عندما انحدرت مكانة الأدب والشعر في الحضارة العربية ، وغابت الأسماء الكبيرة ، لم يعد ممكنا الحديث عن تميز أدبي يمكن أن يحققه أديب عربي يكون له تأثير على ساحة الشارع العربي محليا و يمكنه من محاورة الآخر ، كما كان يفعل بودلير و هيغل وكافكا .
لذلك . كان محقا الشاعر السوري الكبير عمر أبو ريشة عندما أطلق حسرته المدوية تلك ، عاتبا على أمته العربية بين ماض مجيد كان ، وحاضر مشرذم محبط .
أمتي هل لك بين الأمم منبر للسيف أو للقلم
أتلقاك وطرفي خجل من أمسك المنصرم
