غاز الأبيض المتوسّط.. هل يُشِعل المنطقة؟

 

وقَّعت تركيا أواخر الشهر الماضي على اتفاقياتٍ هامةٍ مع دولتين في المنطقة، إحداهما الحليف العقائدي قطر، والأخرى تشكّل العُمق الاستراتيجي لأنقرة في شمال إفريقيا وهي ليبيا التي تشهد حرباً طاحِنة بين فريقين، أحدهما مدعوم من أنقرة والدوحة، والآخر من القاهرة والرياض وأبو ظبي.

إذا تجاهلنا الجوانب العقائدية والأمنية والعسكرية والمالية للعلاقة بين أنقرة وكل من طرابلس والدوحة، فالغاز الطبيعي هو القاسَم المُشترك لعلاقات إردوغان مع الدولتين الغنيّتين نفطًياً.

قطر هي الدولة الثالثة في العالم من حيث احتياطيات الغاز بعد إيران وروسيا، فيما تُعدّ ليبيا الدولة الثامِنة غازياً وفق الاحتياطيات المُعلَنة عالمياً والتي تُقدَّر بنحو 200 تريليون متر مكعب، تقع نحو 80 تريليون منها في منطقة الشرق الأوسط.

ويُقدِّر العديد من الدراسات الأميركية والأوروبية احتياطي الغاز في شرق المتوسّط أي مصر وفلسطين (غزَّة) و”إسرائيل” ولبنان  وسوريا وقبرص بحوالى 50 تريليون متر مكعب. كان هذا الغاز وما زال سبباً لصراعاتٍ صعبةٍ ومُعقَّدةٍ مع استمرار الخلافات السياسية والعسكرية والاستراتيجية بين كل الأطراف مع انضمام تركيا إليها.

أنقرة أعلنت أكثر من مرة أنها لا تعترف بالاتفاقيات التي وقَّعت عليها قبرص مع مصر و”إسرائيل” ولبنان في ما يتعلَّق بترسيم الحدود البحرية وتقاسُم المناطق الاقتصادية بينها، كما هدَّدت وتوعدَّت الشركات التي وقَّعت على اتفاقيات مُتعدِّدة مع الدول المذكورة للتنقيب عن الغاز واستخراجه وتسويقه.

وجاء اتفاق أنقرة مع حكومة الوفاق الليبية (تسيطر على حوالى 8% فقط من مساحة ليبيا) في ما يتعلّق برسم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا في البحر الأبيض المتوسّط ليُثير نقاشاً جديداً في المنطقة، بعد أن اتّهمت تركيا سابقاً القبارصة اليونانيين واليونان بالسيطرة على مساحاتٍ واسعةٍ في البحر على حساب مصر ولبنان و”إسرائيل” وسوريا. فبعد أن ناشد الجنرال خليفة حفتر مجلس الأمن للتدخّل ضدّ تركيا تحدَّث وزير خارجيّته عبدالهادي حويج للإعلام الإسرائيلي وعبَّر عن استعداد بلاده للتعاون ضدّ تركيا، فيما اعتبرت أثينا الاتفاق مُخالِفاً للقانون الدولي وعملاً استفزازياً كون المنطقة التي اعتبرتها تركيا ضمن حدودها البحرية، شملت جزءاً من المياه الإقليمية والجرف القاري للجزر اليونانية وأهمّها كريت التي كان من المُقرَّر أن يصلها الأنبوب الذي سينقل غاز قبرص إلى اليونان ومنها إلى إيطاليا.

وكانت أنقرة قد أعلنت قبل ذلك من جانبٍ واحدٍ عن خارطةٍ تُبيِّن حدودها البحرية في البحر الأبيض المتوسّط، ليزيد ذلك في الطين بلّة في ما يتعلّق بالتوتّر الموجود أساساً والمُستَنِد إلى عددٍ من الأسباب السياسية والتاريخية.

ففي تموز/يونيو 1974 تدخّلت تركيا في قبرص بحجَّة الانقلاب الذي وقع آنذاك ضدّ الرئيس مكاريوس وقالت عنه إنه يُهدِّد القبارصة الأتراك في الجزيرة التي سيطر الجيش التركي آنذاك على ثلث مساحتها. وترفض أنقرة أيّ اتفاق يوقّعه القبارصة اليونانيون باعتبارهم لا يمثّلون الجزيرة بأكملها، فأرسلت أربعاً من سفنها المحمية بالبوارج والطائرات إلى محيط الجزيرة للتنقيب عن الغاز واستخراجه.

وأعلنت واشنطن، التي تشهد علاقاتها توتّراً جدِّياً مع أنقرة على خلفيّة صفقة صواريخ  أس 400، رفضها للموقف التركي ووصفته بأنه استفزازي فيما فرض الاتحاد الأوروبي عدداً من العقوبات الاقتصادية والمالية والسياسية ضد تركيا باعتبار أن قبرص التي يمثّلها القبارصة اليونانيون عضو في الاتحاد.

وشكّل التعاون القبرصي مع “إسرائيل” واليونان من جهة، ومع مصر واليونان من جهةٍ أخرى، سبباً آخر في ردّ فعل أنقرة على هذه التحرّكات ذات الطابع السياسي والعسكري والأمني ووصفته بأنه يستهدف أمن تركيا القومي.

ويُفسّر ذلك ردّ فعل الدول المذكورة على اتفاق أنقرة مع طرابلس باعتبار أن الوضع الحالي في ليبيا لا يسمح لها بالتوقيع على مثل هذه الاتفاقيات، لاسيما وأن تركيا لم توقّع على معاهدة الأمم المتحدة الخاصة بترسيم حدود البحار المفتوحة بين الدول المُتشاطِئة. لذلك فهي على خلافٍ دائمٍ مع اليونان في ما يتعلّق بتقاسُم الجرف القاري ورسم حدود المياه الإقليمية في بحر إيجة الذي يحتضن عشرات الجزر اليونانية القريبة من الشواطئ التركية والتي ترى فيها أنقرة خطراً على أمنها الاستراتيجي.

دفع ذلك إردوغان أكثر من مرة إلى الحديث عن ضرورة إعادة النظر في اتفاقية لوزان لعام 1923 التي اعترفت باستقلال تركيا، فالاتفاقية اعترفت لليونان بمساحاتٍ أوسع من مياه بحر إيجة أي 43.5% لليونان و 7.5% لتركيا والباقي مياه دولية.

ويزعج ذلك أنقرة كما يزعجها الوضع في قبرص التي تحوّلت إلى قاعدةٍ مشتركةٍ لتحالفاتٍ إقليميةٍ ودوليةٍ مُعاديةٍ لها بالإضافة إلى صراعاتها الاقتصادية بعد اكتشاف الغاز فيها. فقد قامت نيقوسيا بترسيم حدودها البحرية مع مصر عام 2004 ومع لبنان عام 2007  ومع “إسرائيل” عام 2010، كما وقَّعت العديد من الاتفاقيات مع الشركات الأوروبية والأميركية والروسية وحتى القطرية، للتنقيب عن الغاز واستخراجه ونقله إلى أوروبا.

ومن هذه الشركات شركة “أيني” الإيطالية و”توتال” الفرنسية و”نوبل إنيرجي” و”أكسون موبيل” الأميركية و”وود سايد” الأسترالية و”بي بي” البريطانية و”روسنفت” الروسية.

وقد وقَّعت “روسنفت” على اتفاقٍ هامٍ مع مصر ولبنان وسوريا كما سبق لها أن وقَّعت على اتفاقيات مُماثلة مع العراق وإيران وكردستان العراق.

ويرى كثيرون في التواجُد الروسي في سوريا ذات الاحتياطي الكبير جداً (أكثر من قطر) سبباً هاماً في الحسابات الروسية الخاصة بالغاز، لأن موسكو لا تريد لغاز الأبيض المتوسّط أن يُنافِس غازها في أوروبا وبشكلٍ خاص في ألمانيا وإيطاليا التي يصلها الغاز الروسي عبر أنابيب يمرّ بعضها عبر  الأراضي التركية التي يصلها الغاز الإيراني والأذربيجاني والتركمنستاتي، فيما تغطّي تركيا 60% من استهلاكها للغاز من روسيا.

ويُفسّر ذلك مع عناصر أخرى العلاقة الاستراتيجية بين موسكو وأنقرة بانعكاسات ذلك سلباً كان أو إيجاباً على الوضع السوري.

وكانت أنقرة قبل تدهور علاقاتها مع تل أبيب قد بذلت مساعي مُكثّفة لإقناع الأخيرة بمدّ أنابيب تنقل الغاز الإسرائيلي والقبرصي إلى تركيا، مقابل أنابيب للمياه التركية تصل قبرص ومنها إلى “إسرائيل”.

فشل هذا المشروع بسبب تدهور العلاقات التركية- الإسرائيلية كما فشلت مباحثات توحيد شطريّ الجزيرة القبرصية وهو المشروع الذي لو تحقّق لكان ساعد أنقرة على تحقيق أهدافها الاستراتيجية عبر قبرص طالما أنها دولة ضامِنة لاستقلال الجزيرة وفق اتفاقية 1960، حالها حال اليونان وبريطانيا التي تمتلك قاعدتين هامّتين في قبرص.

وكان لـ”إسرائيل” ومن قبلها اليهود منذ بدايات العهد العثماني أطماع مُثيرة في الجزيرة باعتبارها بوابة الانفتاح البحرية الوحيدة لنجاة اليهود من الطوق البري العربي في حال تفعيله.

وجاءت التطوّرات اللاحِقة في المنطقة لتضع أنقرة أمام تحدّيات جديدة بعد خلافها العقائدي أي الإخواني مع مصر، الدولة الأهمّ في حسابات الغاز بسبب تقارُبها مع قبرص واليونان ومجاورتها لقطاع غزَّة الذي يذخر أيضاً باحتياطي هام من الغاز.

وتُبيّن كل هذه المُعطيات مدى صعوبة الحسابات الوطنية والإقليمية والدولية لكل الأطراف بخصوص الغاز الذي يبدو أنه سيحرق شرق الأبيض المتوسّط حاله حال البترول الذي كان ومازال سبباً لكل مشاكل المنطقة العربية منذ استقلالها وحتى اليوم.

ومع استمرار الحرب في سوريا وانعكاساتها الإقليمية والدولية، لاسيما في ما يتعلّق بالتواجُد الروسي والدور التركي هناك وهو ما يؤجِّل حسم ملف الغاز السوري بحرياً، فقد وقَّعت بيروت على اتفاقيّتين مع شركات “توتال” الفرنسية و”إيني” الإيطالية و”نوفاتك” الروسية للتنقيب عن البترول والغاز واستخراجهما في منطقتين يقع جزء من إحداهما في المياه المُتنازَع عليها مع تل أبيب.

ومع استمرار مساعي الوساطة الأميركية التي بدأها ديفيد ساترفيلد وهو الآن سفير أميركا في أنقرة، فقد قدَّرت الدراسات حصَّة لبنان من الغاز الطبيعي في  المتوسّط بنحو 11 تريليون متر مكعب وهي كافية لإنهاء جميع مشاكل لبنان.

وكان الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصرالله قد تحدَّث في 16 شباط/فبراير من العام الماضي عن معركة الغاز في المنطقة وقال “إننا نستطيع تعطيل العمل بمحطّات الغاز الإسرائيلية في البحر المتوسّط في حال اتّخذ مجلس الدفاع اللبناني الأعلى قراراً بذلك”. بالمقابل أعلنت تل أبيب أنها طوَّرت درعاً صاروخية أسمتها “مقلاع داوود” الصاروخي لصدّ أيّ هجوم من حزب الله يستهدف منصّات الغاز.

ويعكس ذلك بكل وضوح الوضع المُعقَّد والصعب والخطير في قضية الغاز وانعكاساتها على حسابات الدول المعنية مباشرة أولاً. وثانياً الدول ذات العلاقة ومنها أوروبا وأميركا وروسيا وبالطبع تركيا التي يريد لها إردوغان أن يكون لها باع وذراع طويلة في جميع أنحاء العالم لأنه يريد لتركيا أن تعود إلى أمجاد الدولة العثمانية التي حكمت العالم فانتهى بها المطاف بحدودها الحالية فخسرت جميع مناطق الغاز والبترول في المنطقة التي كانت تحت حُكم الدولة  العثمانية. ويؤمِن إردوغان أنه وريث هذه الدولة بعقيدتها وقوميّتها، وهو ما يُفسِّر ما قام ويقوم به في سوريا وليبيا والمنطقة عموماً منذ ما يُسمَّى بالربيع العربي.

فقد اعترض إردوغان على التدخّل الأميركي والأوروبي في ليبيا في 28 شباط/فبراير 2011 إلا أنه عاد وأعلن تأييده لذلك في 21 آذار/مارس، أي بعد عام من القمّة العربية في سرت التي حضرها بدعوةٍ من معمّر القذافي. ولولا الدعم الذي قدَّمه القذافي للثنائي أجاويد وأربكان لما استطاعت تركيا ربما من السيطرة على قبرص عام 1974 لتصبح الآن طرفاً أساسياً في كل مُعادلات المتوسّط بغازه الذي قد يحرق الجميع وهذه المرة “إسرائيل” أيضاً.

الميادين نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى