«غداً نلتقي»: محطّة فارقة في الدراما العربيّة
تتزاحم الأعمال الدراميّة على صدارة موسم رمضان، بعدما تحوّل شهر الصوم إلى استعراض مكثّف لأبرز إنتاجات الدراما العربيّة خلال سنة كاملة.
بين عشرات الأعمال، قليلة هي المسلسلات التي تحفر مكانةً لها في الذاكرة، وتصنع فرقاً على مستوى الصناعة الدراميّة، وتتحوّل إلى مرجعيّة يبنى عليها لسنوات قادمة، أو تقاس الصناعة بما قبلها وما بعدها. وضمن هذه الخانة، برز خلال عام 2015 مسلسل «غداً نلتقي» من تأليف إياد أبو الشامات ورامي حنا وإخراج حنا، بتقديمه مقاربة جديدة وذكيّة للأزمة السوريّة.
يسود شبه إجماع على أنّ المسلسل كان أفضل إنتاج عربيّ هذا العام، وبين أفضل ما أنتج خلال السنوات العشر الماضية. قدّم مبتكرو العمل معالجة إبداعيّة متميّزة لحدث راهن، على صعيد الكتابة والنصّ والتمثيل، رفعت سقف الصنعة، ويبنى عليها لترقّب أعمال بالجودة ذاتها خلال العام 2016.
في العام 1940، توّج جوزيف باربيرا ووليام هانا شغلهما في مجال التحريك بخلق شخصيتي توم وجيري. وعلى امتداد 161 حلقة، تحوّل الكرتون البسيط إلى سلسلةٍ عالميّةٍ ذائعة الصيت. تقوم دراما توم وجيري على خطّ بسيط جدّاً: «هناك قط يُدعى توم، يطارد فأراً يُدعى جيري»؛ لكنّ تلك الفكرة السهلة، عولجت بصورة استثنائية. فحين نشاهد المسلسل نعلم أنّ توم لن يصطاد غريمه مهما حدث، فهو إن اصطاده جعل الحكاية تنتهي. ونستطيع أن نقول، اصطلاحاً، إنّ توم هو «الجلّاد» وإنّ «جيري» هو الضحيّة، لكنّ إخفاقات الجلّاد المتكرّرة تجعلنا نتعاطف معه على حساب الفأر الداهية. كما أنّ كلّ فعلٍ حركيّ نشاهده، ترافقه موسيقى تصويرية فيها مزيجٌ من الجاز والبوب والكلاسيك، ألّفها سكوت برادلي ليستكمل باقة العناصر المُدهشة في تلك التحفة الكرتونيّة.
وعلى الرغم من احتواء العمل على أكثر من دلالةٍ رمزيةٍ تحتمل تأويلاتٍ وتفسيراتٍ كثيرة، إلّا أنه لم يتصدَّ لقضية ثقب الأوزون، ولم يلتفت لمواعيد فناء العالم، بل اكتفى بافتراضٍ درامي بدائيّ للغاية، جرت معالجته بطريقة أقلّ ما يقال فيها إنّها استثنائية إلى عتبة الإبهار.
اعتماداً على ما سبق، وتماشياً مع القاعدة الّتي كرّسّها نموذج توم وجيري، نستطيع أن نقول، على سبيل القياس لا المقارنة، إنّ مسلسل «غداً نلتقي» اشتغل على المنهج ذاته.
الحكايات المتوازية في «غداً نلتقي» لم تقتحم ملعباً بكراً، فكلّ العوالم الّتي جرى الحديث عنها في العمل، باستثناء المرور على شغل وردة في «تغسيل الموتى»، كانت الدراما السورية قد تطرّقت إليها في السابق. لكنّ الاستثناء الّذي جعل المسلسل محطّ إعجاب الجمهور والنقّاد على حد سواء، يتمثّل بطريقة المعالجة التي تعامل بها المخرج رامي حنّا مع كلّ عنصرٍ من عناصر الصنعة.
فوزي بشارة ممثّل سوري صاحب حضورٍ خجول، له مشاركاتٌ متواضعة على مستوى الدراما المحلية، ولم يحصل في تاريخه على فرصٍ استثنائية ولم يقدم ما يمكن أن نعتبره إنجازاً تمثيلياً يذكر. لكنّه في «غداً نلتقي» بدا مختلفاً للغاية، واستطاع أن يحقّق حضوراً لافتاً من خلال أدائه شخصية أبو رياض سائق سيّارة دفن الموتى. هذا التطوّر الملحوظ في أداء ممثّل، يمكن أن يشرح السبب الذي جعل الجمهور ينظر بعين الإعجاب إلى الشغل الفريد الذي قدّمته كاريس بشّار، ومن خلفها كلّ من مكسيم خليل وعبد المنعم عمايري. فالثلاثي الذي شكّل النواة الحكائية الحقيقية في العمل، استطاع أن يُجسّد الانقسام السياسي السوري، بكلّ ما فيه من بشاعاتٍ وعفونة، ضمن حكاية حبّ ثلاثية تدور في فلكها أقاصيص جانبية جذّابة. كما قدّم عبد الهادي الصباغ واحداً من أفضل أداءاته في مسيرته الفنية، وكذلك فعل تيسير إدريس الذي جسّد، من خلال شخصية أبو ليلى، نموذجاً من المحاربين الفلسطينين القدماء.
كتب الممثل السوريّ إياد أبو الشامات نصّ العمل بالشراكة مع المخرج رامي حنّا، وهذا أمرٌ لم تألفه الدراما السوريّة، ولعل بعضاً من مزايا سينما المؤلّف يمكن أن تظهر في هذا الشكل من البناء الدراميّ، فالمخرج يشارك في كتابة مشهدٍ شبه مُنجز في ذهنه، والورق يعكس التصميم الحركي والشكل الفنيّ الذي افترضه حنّا سلفاً. ظهر ذلك التجانس في صورةٍ استعارت بعضاً من سحر السينما، وعلى الرّغم من المخاطرة في اختيارِ شرطٍ لونيّ لا يبدو مألوفاً بالنسبة لجمهورٍ اعتاد على صورةٍ كلاسيكية لا اجتهاد فيها، إلا أنّ «غداً نلتقي» استطاع أن يظلّ قريباً من الجمهور على امتداد حلقاته الثلاثين.
يؤخذ على العمل أنّ تهالك شخصياته في الحلقتين الأخيرتين جاء سريعاً للغاية، وغير متناسبٍ مع الإيقاع المضبوط للحكاية، ولعلّ شرط الكتابة لصناعة ثلاثين حلقة متّصلة يُبرّر هذا الإرباك في خواتيم الحكاية، ولكنّ هذه الملاحظة تبقى تفصيلية جداً، وثانويةً للغاية إذا قيست بمفاعيل النجاح التي أرساها المسلسل السوريّ.
نادراً ما تحوّلت الموسيقى التصويرية الخاصة بعملٍ دراميّ إلى ترنيمة نردّدها من دون أن نشعر، وقلائلٌ هم المؤلّفون الموسيقيّون الذين يُدركون أنّ شغلهم يعادل عملية إخراجٍ صوتيّ للعمل، ويبدو أنّ فادي مارديني نجح، مبكّراً، في الإحاطة بمحدّدات وظيفته واستطاع أن يقدّم، من خلال شراكته مع رامي حنّا، نموذجاً بسيطاً أثبت أن الموسيقى التصويرية الجيدة لا يجب أن تكون أوركسترالية بالضرورة، وفي المحصلة، استطاع المؤلّف الموسيقي الشّاب أن يقدّم نفسه، من بوّابة هذا العمل، كواحدٍ من الأسماء الوازنة على مستوى المهنة.
الدراما السورية مهدّدة اليوم، أكثر من أيّ وقتٍ مضى، بفقدان هويّتها، ولسنا نتحدّث الآن عن هويّة وطنيّة، بل عن همّ فكري يتجسد من خلال تقديم طروحات تلامس النّاس بعيداً عن ميلودراميات الحبّ العابر للجنسيات. «غداً نلتقي» استطاع أن يعيد لهذه الدّراما بعضاً من تماسكها، واستطاع أن يضع الصنّاع، مجدداً، أمام مسؤوليّتهم اتجاه المهنة. ويبدو أنّ إنتاجات العام المقبل المرتقبة، مثل «أهل الغرام» و«أحمر» و«النّدم» و«نبتدي منين الحكاية» تمثّل شكلاً من أشكال الاستجابة لنداء الصنعة الّتي شكّلت، خلال العقدين الماضيين، جواز سفر الهويّة السورية إلى العالم العربيّ كلّه.
جدل اللاجئين
يتابع مسلسل «غداً نلتقي» قصص لاجئين سوريين في لبنان، ينتظرون الخروج منه. يتركّز السرد على جابر (مكسيم خليل) وشقيقه محمود (عبد المنعم عمايري)، الأوّل موالٍ للنظام، والآخر معارض، والاثنان مصابان بالسكري. يعيش محمود الروائي على أمل استعادة طليقته التي تركته و»هجّت» إلى الولايات المتحدة، في حين يعمل جابر بما تيسّر لتأمين الدواء اللازم له ولأخيه. يتشاجر الأخوان طوال الوقت، خصوصاً أنّ جابر يحبّ وردة وهذه الأخيرة تحبّ محمود. يعيش الثلاثة في بناء يجمع عائلات نازحة أخرى، لكلّ منها قصّتها ومعاناتها، وسط بيئة طاردة ورافضة للوافدين.
نقل المسلسل واقع اللجوء السوري بواقعيّة جارحة، ما جعل البعض يتهّمه «بإهانة اللبنانيين»، كما حصل في تقرير إخباريّ عرضته قناة «أم تي في»، افترضت فيه أنّ عدم رغبة وردة بالاستماع لفيروز في أحد المشاهد، «إهانة لرموز لبنان»، مطالبةً بوقف عرضه. مؤلّف العمل إياد أبو الشامات ردّ على القناة، في حديث لموقع «سي أن أن» في حينه، وقال: «من المعيب أن يحاول معدّو النشرة (أم تي في)، حشرنا في زاوية ضيقة بغيضة كهذه، لا تشبهنا ولا تشبه عملنا، بل إنها تعاكس تماماً مقولة عملنا ورسالته، وتتفارق معنا بشكل شخصي، أنا ومخرج العمل، والشركة التي قامت بإنتاجه». وأضاف مخاطباً معدّ التقرير: «كان يكفيك أن تستيقظ في أي مدينة سورية، وفي أي صباح سوري على فنجان قهوة في نصف القرن المنصرم، لتدرك أن فيروز شريكة السوري في صباحه، وفي أيامه، وأننا أجيال خلف أجيال كبرنا عليها، وأنها جزء من ذاكرتنا الجمعية، وربما من الأشياء القليلة التي ما زلنا نجمع عليها نحن السوريين جيرانكم الساخرين».
دَوْر العمر
لم تحصر كاريس بشار نفسها في نمط معيّن من الأدوار خلال مسيرتها، أدّت شخصيّات «خيّرة» وأخرى «شريرة»، نجحت في الدراما والكوميديا، في الأعمال المعاصرة والتاريخيّة. منذ منتصف التسعينيات، بدأت الممثلة السوريّة مسيرتها بأدوار صغيرة في مجال الكوميديا، وتكرّست من نجمات الصفّ الأوّل بعد أدوارها في «نساء صغيرات» (1999)، و «سيرة آل الجلالي» (2000)، و «ليالي الصالحيّة» (2004)، و «ليس سراباً» (2008) و «تعب المشوار» (2011) و «قلم حمرة» (2014). نادراً ما دخلت بشار في دوّامة التكرار، لكنّ أداءها لدور وردة في «غداً نلتقي» أظهر اختماراً واضحاً في تجربتها، وقدرةً على إعطاء الشخصيّة حساسيّة خاصّة.
وردة لاجئة سوريّة في لبنان، تعمل في غسل الموتى، وحين تعود إلى منزلها، ترتدي زيّاً خاصّاً بالرقص، وتتمايل على أغاني نانسي عجرم. حين تمشي وردة تجد صعوبة في تثبيت كتفيها، وتعرج قليلاً. تحتفظ في عينيها بنظرة ذاهلة، يتصاعد منسوب الحزن فيها مع مرور الحلقات. تفاصيل تظهر الكثير من جوانب الشخصيّة المهزوزة، كما قدّمتها بشار، ما يشي بثقافة أدائيّة غنيّة راكمتها خلال سنوات عملها. تنجو وردة في نهاية المسلسل، وتعبر إلى أوروبا، وتحاول أن تبدأ حياة جديدة. وكذلك بشار، فإنّها عبرت بدورها في «غداً نلتقي» إلى مرحلة متقدّمة في المهنة، وبلغت مصاف الممثّلات القديرات، عربيّاً وعالميّاً.
صحيفة السفير اللبنانية