غسان كنفاني 45 عاماً بعد استشهاده| وما زلت في دمنا السهل والصوت والمنحنى
36 عاماً هي كل حياة غسّان كنفاني (عكا 8 نيسان/ أبريل 1936 – بيروت 8 تموز/ يوليو 1972). 12 عاماً (1960-1972) منها هي كل ما قضاه في بيروت. لا يعرف كثيرون عن الرجل سوى بضع جملٍ يرونها على مواقع التواصل الاجتماعي من قبيل «الغزلان تحب أن تموت عند أهلها، وحدها الصقور لا يهمّها أين تموت»، أو بعض ما نشرته غادة السمّان في رسائله «الرومانسية» إليها من نوع: «إنك تعنين بالنسبة لي أكثر بكثير مما أعنى لك وأنا أعرف ولكن ما العمل؟».
أضف إلى ذلك بعض ما يرميه بعض المثقفين هنا وهناك من استعمالاتٍ أدبية وإشاراتٍ لجمل من رواياته وقصصه: «الوطن يعني ألا يحدث كل هذا يا صفيّة» أو «لماذا لم تدقوا جدران الخزّان؟».
كل هذه الأمور أبقت – من دون منة أحد – كنفاني أحد أشهر الكتّاب والصحافيين والروائيين الفلسطيينين حياً بعد وفاته بسنواتٍ طوال رغم غيابه عن الساحات الثقافية والأدبية لعقود.
يبدو الأمر قاسياً حين يقرأ المرء الأمر هكذا: كيف يمكن قبول هذه الصورة المجتزأة التي وضع بها الناطق الرسمي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الرسام الماهر، رئيس تحرير «الهدف»؛ الغزير القلم، وصاحب الأسماء المتعدّدة «فارس فارس» (الأنوار/ الصياد/ المحرر)، ربيع مطر (الحوادث)، المدخن الشره، المصاب بمرض السكري منذ الطفولة؟
ولد كنفاني في عكّا، عاش في يافا، وكلتاهما مدينتان ساحليتان. لذلك، كان عشقه لبيروت سريعاً. انتقل إلى دمشق المدينة الداخلية، لكنه لم يطل البقاء. درس وحصل على البكالوريا (الشهادة الثانوية عام 1952)، ودخل «جامعة دمشق» ليدرس الآداب، وبقي حتى السنة الثانية. لكن الحياة الأكاديمية لم تستهوه أبداً، فالأدب لا يدرّس، الأدب يبدع. بعدها، رحل إلى الكويت، مدرّساً للرياضة والرسم في مدارس الـ «أونروا». وسرعان ما انخرط في العمل السياسي في العام الذي تلاه. في 1953، ضمّه «الحكيم» جورج حبش إلى حركة القوميين العرب. وبعد سنة، ستبدأ رحلة الأدب مع الرجل الذي سيضحي واحداً من علامات الأدب الفلسطيني الرئيسية. تباهى الفلسطينيون دوماً بوجود ثلاث دعاماتٍ كبيرة بني عليها الأدب الفلسطيني الحديث: غسان كنفاني روائياً وقاصاً، محمود درويش شاعراً، وناجي العلي رساماً. اسمان من الثلاثة سيرحلان شهيدين: مثقفان مشتبكان، غاضبان دوماً. أما الثالث، فكان يعرف الطريق أكثر منهما – إنما على طريقته – سيقول ما يريده، لكن «بشاعرية» أكثر.
قبل أي شيء، قدّم كنفاني نفسه مثقفاً مشتبكاً، على طريقة غرامشي و«المثقف العضوي» أي أن «المثقف يكون جزءاً لا يتجزأ من مجتمعه، ومؤثراً ومتأثراً به إلى الحد الكامل». قارب الأمر كما فهمه، فكانت معظم كتاباته أي مئات المقالات و18 عملاً مطبوعاً (جمعت بعد وفاته ما عدا النقد منها) قاربت القضية الفلسطينية بشكلٍ متواصل، فمن مرتحلي الخزان في «رجال في الشمس» إلى الطفل المفقود في «عائد إلى حيفا»، إلى الأم وارتباط الأنثى المصيري بالنضال وارتباطه بها في «أم سعد»، إلى الأرض كبوصلةٍ رئيسية للعائدين في «أرض البرتقال الحزين»، وصولاً إلى التكامل مع البندقية الواعية المثقفة في «عن الرجال والبنادق» حين تصبح البنادق امتداداً للرجال وعنواناً لهم. لم يكتفِ غسان بالكتابة، بل كحال المثقف العضوي، انضم إلى حملة البنادق على طريقته. انتسب إلى «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» حتى غدا عضو مكتبٍ سياسي فيها، ثم ناطقاً رسمياً باسمها، فبات يتحدّث عن القضية، لا عبر كتاباته، بل عبر منبرٍ يمثل «اليسار» العالمي، اليسار المقاوم، اليسار الذي «يحارب» بالقلم، كما بالسيف. آنذاك، بدا رحيل كنفاني بديهياً بالطريقة التي رحل بها: متفجرة وضعت تحت سيارته أودت بحياته وحياة لميس (ابنه شقيقته الأثيرة فايزة) التي كانت تتحضّر للدخول إلى الجامعة الأميركية في بيروت.
يشير الكاتب الصهيوني بوعز أبل باوم بأن اسم كنفاني كان على رأس قائمة الاغتيالات التي سمّيت بـ «قائمة غولدا» (نسبة لرئيسة وزراء العدو آنذاك غولدا مائير) ووضعتها كانتقام لتنفيذ المقاومة الفلسطينية (أيلول الأسود) لعملية ميونخ (وقتل الفريق الأولمبي الصهيوني في مدينة ميونخ الألمانية). يروي آخرون أنَّ ابتسامة مائير يوم اغتيال كنفاني كانت كبيرة لدرجةٍ مخيفة. كان منطق كنفاني الأدبي كما الثقافي مؤثراً للدرجة التي جعلته لا مصدر إزعاجٍ للصهانية فحسب، بل أيضاً «مصدراً لثقافةٍ لا نريدها أن تكون» بحسب آبا إيبان (وزير تعليم وثقافة وخارجية صهيوني).
في البنية الأدبية والتقنية، امتازت نصوص كنفاني بسهولتها الممتنعة وبصوره المستقاة من الواقع المعاش، لا يجمّلها، لا يضيف إليها مساحيق الكتابة، بل يتركها كما هي. لذلك، كان أسلوبه الأدبي سباقاً وممهداً للمرحلة الحالية من الرواية العربية كما هي معروفة اليوم. كانت شخوصه قاسية، فجةً، ذات واقعية تضع القارئ أمام السؤال الأهم لصانع الرواية: هذا الشخص أنا أعرفه، أنا متأكدٌ أنني رأيته من قبل. هنا تكون رسالة غسان قد وصلت. اعتبر أن القلم بقوة السيف، فدار حول القضية ودارت حوله، جعلها بمثابة الشمس التي يدور كوكبه حولها، لم يقارب «الخلبية» التي كانت سائدةً آنذاك، فلم يتحدّث عن بطولاتٍ لا تعد ولا تحصى، ولم يتحدّث عن المقاوم «الخارق» الذي يقتل عشرة صهاينة بطلقةٍ واحدة. حكى عن أبطال مهزومين، يوميين، عاديين، قابلين للكسر في لحظةٍ ما، قادرين على المقاومة والحياة وحتى الانتصار في قمّة الهزيمة. تلك الشخوص القريبة جعلت أدب كنفاني هو الأقرب إلى الأجيال الأكثر فتوةً وشباباً (لا ننسى أنه رحل في ثلاثينياته) فظل «عنفوان» الكتابة لديه أعلى من غيره.
اليوم تمر ذكرى كنفاني، ولا يزال هو في ذات مكانه، حيث أراد وأحب أن يكون، في قلوب محبيه، هو كان يخجل كثيراً من محبّة الناس وتقديرهم له. كان يتوتر كثيراً حين يمدحه أحد. كان يعتبر بأنه هو من يجب أن يشكر الناس على السماح له بأخذ مقاطع من حياتهم كي يكتبها ويصوّرها ويخلّدها في كتاباته. لذلك، كانت الخسارة بغسان كنفاني كبيرة. خسارةٌ تتجدد كل عام؛ وليس أبلغ من من قصيدة الشاعر الكبير عز الدين المناصرة (صديق غسان التي أبّنه بها) «تقبل التعازي في أي منفى»: «نقيم العزاء على التلّ، ﻓﻲ النهر، ﻓﻲ جبلٍ من رجوعْ/ نقيم العزاء أمام سُرادق هذا البقيعْ/ ﻭﻓﻲ أيّ منفى … نقيم العزاء./ لماذا إذا الوجه منك انحنى/ نبيع الدموع لساقي السرابْ/ وما زلتَ ﻓﻲ دمنا السهل والصوت والمنحنى/ وما زلتَ .. ما زلتَ خفقةَ أجنحة الشعراء الغِضابْ / وما زلتَ كنعانُ أرجوحةَ الميجنا».
صحيفة الأخبار اللبنانية