غضبت أمي عليّ ، فصرت صحفيا!

عندما اُعلِنت معدلات القبول في الجامعة، لم تؤهلني العلامات التي جمعتها في الشهادة الثانوية، إلا للدخول في واحد من الفروع التالية، وبطريق المفاضلة : الطب البيطري، و(ر، ف، ك)، و (الجيولوجيا) ..ولأن أختي سخرت من الطب البيطري، وسخر أخي من مستقبلي كأستاذ مدرسة، اخترت الجيولوجيا، فأبي كان يعمل في المؤسسة العامة للجيولوجيا، ويمكن لي متابعة الدراسة فأصبح مهندس نفط !
وبعد سنتين، لم أستطع الاندماج مع محاضرات قسم الجيولوجيا الصعبة، وخاصة ميكانيك التربة التي دونتُ محاضراتِها حرفياً دون فائدة، وكنتُ أعودُ إلى البيت لأقرأ الصحف التي يأتي بها أبي أو أخي، أو أقرأ رواياتٍ موجودةً عندي، وكأن الأقدار تدفعني باتجاه طريق الصحافة الذي فُتح أمامي فعلا بعد عامين من الفشل، ثم غادرت إلى بيروت لأعمل مع صحافة المقاومة لأندمجَ مع صحافةِ بيروت الجميلة وأجواءِ الفاكهاني التي لاتنسى!
في بيروتْ عشتُ الصحافة فعلا (هذه فكرة برنامج)، وكنتُ آتي منذ الصباح الباكر إلى مكتبِ المجلة التي أعمل بها فأشرب القهوة وأنا أقلّبُ أكداسَ الصحف أمامي، وكان تفاعلي مع رئيس التحرير (أ. محمد عادل) وهو كاتب فلسطيني معروف ومع كل من تعرفت عليهم في الوسط الصحافي الفلسطيني واللبناني دافعا لتكبر طموحاتي وتتأصل في المهنة . لكن فجأة وكنت وحيداً في المكتب سألتُ نفسي عن خيارات الجامعة التي كانت أمامي ، وماذا لو مضيت بها ؟!
تصورت أنني طبيب بيطري، أي أن تعاملي كان مع (الحيوانات) والاهتمام بصحتها، وتذكرتُ فيلم رشدي أباظة (آه من حواء) وكيف كانت حاله مع لبنى عبد العزيز التي يعمل في مزرعة جدها كطبيب للحيوانات، وسريعا صرت أضحك فقد كان يمكن أن أتركَ الدراسة وأشتغل أي عملٍ إلاّ عمل الطبيب البيطري.
وتصورت أنني أستاذ مدرسة للكيمياء أو الفيزياء أو الرياضيات، فتذكرت أحد أساتذتنا في الكيمياء ، وكان ذا شخصية طريفة ، وكان المشاغبون يسألونه . هل صحيح أن أستاذ الكيمياء يعمل في تحليل البول في المخابر؟ وسريعا أقلعت عن استكمال تصوراتي وقلت في نفسي: “بقيت الجيولوجيا”..
و لاأخفيكم، فقد عملت في التنقيب الجيولوجي عدة أشهر، فضعت في الجبال وكدت أموت من العطش أنا والمهندس المختص لأن السائق تأخر علينا ، وعندما وصلت إلى أول مكان فيه ماء، وكان في محجر للرمل ، شربت من نصف جرة فخارية فكاد بطني أن ينفجر، وسريعا أقلعتُ عن فكرة أن أكون مهندسا جيولوجيا في الصحراء ..
لم يخطر ببالي وقتها ما الذي سيحصل معي في مهنة الصحافة . لو أني تصورت ماحصل معي لكنتُ اخترتُ أي عمل آخر في مهنة البيطرة أو التدريس أو تحليل البول أو مع الجيولوجيين في الصحراء بدلا من أن تموت كل طموحاتي وأنا صحفي ..
نعم ماتت طموحاتي وطموحات الآخرين، وانتهى العمر، واُحلتُ على التقاعد مقابل راتب لايكفي لتكاليف اتصالاتي واتصالات زوجتي وابنتيّ بالهواتف الخليوية إضافة إلى ثمن كيلو لحم شهريا أشتريه من تقاعد اتحاد الصحفيين ..
في كل مرة وأنا أستعيدُ أحلامي وواقعي أسألُ نفسي جدياً : هل غضبتْ أمي عليّ حتى اخترت مهنة الصحافة في بلد من الصعب فيه أن تكون صحفياً ؟!