غضب الضفة لا يهدأ: المواجهة الشاملة أقرب
لا تزال تداعيات العدوان الذي شنّه جيش الاحتلال الإسرائيلي على مدينة جنين، الأربعاء الماضي، وارتقى فيه أربعة شهداء، تلقي بظلالها على الضفة الغربية، حيث يتنامى الغضب الشعبي من الجرائم الإسرائيلية، وتتصاعد توازياً العمليات الفدائية. ونفّذ مقاومون من مجموعات «عرين الأسود»، صباح أمس، عمليّتي إطلاق نار، الأولى قرب بلدة بيت فوريك شرقي نابلس، استهدفت مركبة وحافلة للمستوطنين، وأصيب فيها مستوطن، والثانية عند مدخل قرية سالم. وفُرِض على إثر العمليتَين إغلاق كامل للبلدتَين، حيث شنّت قوات الاحتلال عمليات مداهمة وتفتيش، تخلّلتها مواجهات مع الشبان.
وشهدت الضفة الغربية، خلال الساعات الماضية، مواجهات عنيفة في أعقاب استهداف مركبة إسرائيلية قرب مدينة يطا جنوبي الخليل، ونقطة عسكرية لجيش الاحتلال في جبل جرزيم، وإطلاق نار في اتجاه مستوطنة «بيت إيل» شمالي رام الله، فيما استهدف مقاومون حاجز الجلمة قرب جنين بعبوات محليّة الصنع من طراز «كواع». وعاد زخم المواجهات الليلية في أكثر من منطقة في مدينة القدس، كان أبرزها استهداف مكتب عضو «الكنيست» المتطرّف، إيتمار بن غفير، في حي الشيخ جراح، بزجاجة حارقة، ما أدّى إلى احتراقه. وعلى إثر الاستهداف، قام بن غفير – برفقة مجموعة من المستوطنين – بتنظيم مسيرة عدوانية في الحي، حيث تصدّى الأهالي لهم. كذلك، شهد حيّ الطور في المدينة مواجهات عنيفة، ألقى خلالها شبان زجاجات حارقة في اتجاه مستوطنة «بيت أوروت»، فيما اندلعت مواجهات مع قوات الاحتلال في بلدة سلوان، وشهدت بلدة العيزرية، مساء السبت، اشتباكاً مسلّحاً أعقب تشييع الأهالي جثمان الشهيد فايز دمدوم، الذي ارتقى برصاص جنود الاحتلال، إضافةً إلى مواجهات وعمليات إلقاء حجارة في العديد من المناطق في بيت لحم ورام الله وقلقيلية. وفي موازاة هذا الزخم، يفرض العدو حالة تأهُّب قصوى في الضفة والقدس المحتلّتَين، مع ازدياد الإنذارات الساخنة بتنفيذ عمليات فدائية، بالتزامن مع «الأعياد اليهودية» («عيد العرش»، و«عيد الغفران»)، المستمرّة لغاية الـ 17 من الشهر الجاري، والتي يُتوقّع أن يقوم المستوطنون خلالها باقتحامات واسعة للمسجد الأقصى، فيما أعلنت «جماعات الهيكل» عن مكافآت مالية للذين يتمكّنون من نفخ البوق داخل «الأقصى»، أو إدخال القرابين النباتية إلى ساحاته.
في هدا الوقت، تشخص الأنظار نحو مخيم جنين، الذي تحوّل، خلال الأيام الماضية، إلى قبلة الفلسطينيين، من مواطنين عاديين وقيادات سياسية وشخصيات وطنية، لتقديم العزاء بشهداء المخيّم، ومناصرة المقاومين، وتحديداً فتحي خازم أبو الرعد، الذي بات أيقونة المقاومة في الضفة وجنرالها. وقالت مصادر خاصة، لـ«الأخبار»، إن قيادات من أعضاء اللجنة المركزية لحركة «فتح»، مثل عباس زكي وتوفيق الطيراوي وعزام الأحمد ودلال سلامة، قدِموا إلى بيت العزاء لمقابلة أبو الرعد، وبعضهم صرّح علانية بمواقف غير معهودة تدعم المقاومة. وأعربت المصادر عن خشيتها من أن بعض تلك الزيارات ربّما تهدف إلى ممارسة الضغوط على أبو الرعد من أجل احتواء التصعيد في المخيّم، وبحْث إمكانية تسليم نفسه للأجهزة الأمنية الفلسطينية، في ظلّ تلويح الاحتلال بشنّ عملية واسعة في مخيم جنين، أو حتى في شمال الضفة الغربية. وجاءت هذه الزيارات في أعقاب اجتماعَين عقدهما رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس: الأوّل مع قادة الأجهزة الأمنية ومحافظي الضفة، طالبهم في خلاله بـ«فرض الأمن والأمان وتطبيق سيادة القانون»؛ والثاني مع اللجنة المركزية لحركة «فتح». ويحظى أبو الرعد بمكانة مرموقة ليس في جنين ولدى المقاومين فحسب، بل في الضفة الغربية وقطاع غزة، حيث وُضعت صورة عملاقة له على أحد المباني، فيما رُفعت صوره في مهرجان حاشد نظّمته حركة «حماس» في القطاع. وقد اكتسب الرجُل مكانته تلك بعد استشهاد نجلَيه رعد وعبد الرحمن، والصلابة التي ظهر فيها خلال تشييع أحدهما في مخيم جنين، وموقفه الوحدوي وانحيازه إلى خيار المقاومة. لكن تصريحه الذي دعا فيه أبناء الأجهزة الأمنية إلى الانخراط في المقاومة وترْك خيار العبث والوهم، أثار مخاوف الاحتلال من اتّساع ظاهرة انخراط عناصر الأمن الفلسطيني في عمليات المقاومة. وفي هذا الإطار، كتب الصحافي الإسرائيلي، أوهاد بن حمو، في «القناة 12» العبرية، أن قادة الأجهزة الأمنية الفلسطينية التقوا مع رئيس السلطة للاستفسار عمّا يمكن فعله في حالة فقدان السيطرة على عناصر الأجهزة الذين يذهبون إلى تنفيذ عمليات. وجاء الرد من أحد قادة الأجهزة، الذي قال لعباس: «لا يمكن السيطرة على عامّة العناصر والجنود في الأجهزة الأمنية».
وإزاء الضغوط التي تمارَس واشنطن وتل أبيب على السلطة للقيام بدورها في ملاحقة المقاومين، وعدم قدرتها على ذلك نظراً إلى ارتداداته الشعبية، نقلت «شبكة قدس» المحليّة عن مصادر لم تسمّها، قولها إن الأجهزة الأمنية الفلسطينية في مدينة نابلس تتواصل مع مطاردين من «عرين الأسود» لإقناعهم بتسليم أسلحتهم والحصول على تفريغ في الأجهزة الأمنية، وضمان عدم ملاحقة قوات الاحتلال لهم، في مقابل عزوفهم عن المشاركة في عمليات المقاومة. ولفتت إلى أن جهود الأجهزة تكثّفت في أعقاب الاحتجاجات التي شهدتها المدينة على إثر اعتقال المطارَد مصعب اشتية، والذي كان منضوياً في إطار «عرين الأسود»، وإدراكها أن أيّ اعتقال آخر مشابه ستكون له ارتدادات أكبر. لهذا، ذهبت في اتجاه تكثيف مساعيها لإقناع المطارَدين بتسليم سلاحهم، وهو ما فشلت في تحقيقه، بينما شنّت حملة اعتقالات في الأيام الأخيرة في منطقة نابلس، ضدّ أشخاص قد تكون لهم علاقة بإمداد المجموعة بالسلاح أو المال.
ويعيد هذا التحرك الذاكرة إلى ما قامت به السلطة الفلسطينية عام 2005، حين عقدت صفقة مع إسرائيل، منحت بموجبها مئات المسلّحين من كتائب «شهداء الأقصى» عفواً كاملاً، وتعهّدت بالتوقّف عن ملاحقتهم، في مقابل تسليم أسلحتهم وتفريغهم في الأجهزة الأمنية الفلسطينية. ويضع التصعيد الميداني والعسكري ضغوطاً متزايدة على أجهزة الاحتلال الأمنية والعسكرية، إزاء كيفية التعامل مع ما بات مخيّما جنين ونابلس يشكّلانه من قاعدة لانطلاق العمليات الفدائية ضدّ المستوطنين، وجذباً لكلّ المقاومين، وتحويل أيّ اقتحام للمخيّم ولنابلس إلى «جحيم» لجنود الاحتلال، على غرار الاجتياح الأخير للمخيّم الذي وصفه قائد وحدة المستعربين الإسرائيليين بـ«مصيدة موت حقيقية».
وبين استمرار عمليات المقاومة واتّساع رقعة الاشتباكات في الضفة عسكرياً وجماهيرياً، وشَنّ جيش الاحتلال عمليات مركّزة قصيرة لا تستطيع إنهاء ظاهرة المقاومة، والتماهي مع شهيّة المستوطنين والأحزاب الصهيونية المفتوحة على تهويد القدس والمسجد الأقصى، يبدو خيار شنّ عملية عسكرية واسعة في شمال الضفة الغربية وارداً لدى أجهزة الاحتلال الأمنية وإنْ كان بتحفّظ شديد، لما قد يثيره اجتياح كهذا من إشعال النار في قطاع غزة وفي مدن وبلدات الداخل المحتلّ. ويقرّب اشتعال الأوضاع في الضفة الغربية واستمرار عمليات المقاومة من اندلاع مواجهة جديدة مع قطاع غزة، في ظلّ تهديدات رئيس «الشاباك» رونين بار، لقائد «حماس» في غزة يحيى السنوار، من أن استمرار التحريض على العمليات في الضفة، وتجنيد خلايا المقاومة وتسليحها وتشكيلها، سيدفع الجيش إلى «العمل في غزة». من جهته، أفاد عضو المكتب السياسي للحركة، روحي مشتهى، في مهرجان أقيم السبت في القطاع، بأن ممارسات الاحتلال في الأقصى وفي الضفة وفلسطين، «تُنذر بانفجار غضب كبير نصرةً للأقصى»، وبأن «انتهاكات الاحتلال في الأقصى تجعله في عين الخطر، وتجعل المنطقة كلّها في عين العاصفة».
صحيفة الأخبار اللبنانية