لعل تلك النشأة التي عاشها الكاتب الفرنسي غي دو موباسان (1850-1893) ضمن أسرةٍ غير مستقرة، دفعته إلى الكتابة الواقعية، والميل لمصلحة الأبطال المنبوذين وضحايا العنف الاجتماعي. الشاب الذي تتلمذ على يد غوستاف فلوبير، وخضع لتوصياته في الكتابة برع في سرد القصص القصيرة، إلا أن له جانباً روائياً لم يسلّط الضوء عليه بما يكفي. وتعدّ «قلبنا» (1890)، الصادرة بترجمة عربية عن «دار فواصل» (ترجمة سلمان حرفوش) آخر رواياته التي كتبها وهو في أشد حالات مرضه.
تأخذ الرواية طابعاً واقعياً ورومانسياً، وتضمر أعجوبة من العواطف والأحاسيس، ويمكن أن تؤخذ كوثيقة ترصد التحولات الاجتماعية، وكدراسة في الكشف عن أسباب انقلاب الأفراد وخضوع المجتمعات للتحول، من خلال مجموعة من الرجال والنساء في باريس، تجمعهم امرأةٌ اشتهرت بالسيدة «ميشيلا دو بورن»، تكشف الرواية عن حياتها كسيدة جميلة وتحفة يتراكض الجميع لطلب ودها. وهي كأرملةٍ عاشت زواجاً عنيفاً، يأتيها خبر موت الزوج نجاةً، ويدفعها إلى وصف حياتها السابقة بالعبودية التي أسّست خوفاً فريداً في القول والفعل، إلى جانب رغبة للانطلاق، وقرار بعدم التفريط بالحرية.
سرعان ما يبدأ الحديث عنها، وتمسي امرأة مرغوبة محاطة بمجموعة من المثقفين بما يشبه كنيسة صغيرة يرأسها الموسيقي ماسيفال والروائي لامارت. تشتهر ميشيلا بجمالها الذي لا يضاهى، وتجسّد لكل من رآها ما وصفه موباسان «الكريزا» وتتمثل بعدم الحديث إلا عنها، ما يحتم وقوع الجميع في حبها، ويصير كل روّاد صالونها عبيداً لجمالها: «وكانوا أن شكلوا شيئاً فشيئاً ما يشبه كنيسة صغيرة كانت هي عذراؤها..».
عبر تلك الأجواء الغارقة بالأبهة الفرنسية والأحاديث حول الموسيقى والفن والأدب، تقع في عالم الشاب أندريه ماريول صدفة الحضور إلى صالون ميشيلا الكبير. وهناك يحدث شغف غرامي عنيف بينهما. فالشاب الذي اتخذ من عزلته عالماً، يُقاوم حضور المرأة على النقيض من كل ضحاياها، ولعل ذاك ما دفعها لجعله فريستها الأثيرة، إلا أنه بعد ثلاثة أشهرٍ من المقاومة، تحتجزه بأفضل ما لديها من لطفٍ ورقّة، وينتهي به الأمر للاستسلام، بينما تحيا ميشيلا حالة من الضجر المرح من دون أن نشعر بسعادتها بما تفعله.
يعرض الكاتب هنا نموذجاً لامرأةٍ عاشت منزوعة الإرادة، وانتهى بها الأمر لخلق تسلياتٍ تُنسيها آلامها. غير أن رغبتها في النظر إلى ذاتها بعين الرضا وإيمانها بفرادتها وانفتاحها، يدفعها لتمنح أندريه ما لم تمنحه لأي من معجبيها. تقع العلاقة بينهما؛ يحركها ضجر امرأة صاغتها التناقضات، وتغذيها لهفةُ شابٍ ولِه. ولعل غاية الكاتب تكمن في رصد التحول على شخصية المرأة في تلك الفترة، كأنه يهتف عبر خطابه المضمر في الرواية: وداعاً لتلك الرقة والشاعرية التي عاشها الأسلافُ الغابرون. ندرك قلقه إزاء التحول الطارئ بانتهاج الروح العصرية وولادة جيلٍ جديدٍ من النساء الفرنسيات.
«لكنها وهي فريسة المخاوف الحذرة، وفي تردّدها وانغلاقها المعتم، عرفت دائماً كيف تحافظ على نفسها إلى أن يكون آخر العاشقين قد أصبح غير ذي تأثير عليها». من هنا تبدو ميشيلا امرأة تهوى التعبيرات الحساسة والتلميحات المبطنة، وهو ما يبرع فيه أندريه، ومع مرور الوقت، يتحكم حبها بحياته، ذلك أنه يشعر بوطأة الحبس الذي شيدته حوله كلما اقترب منها، وأدرك مكانهُ الهامشيّ من غير أن تمنحه سوى فضولٍ خبا بعد انطفاء نشوة البدايات. ربما كانت الحياة الحافلة بالسرية هو ما جذب ميشيلا إلى أندريه، لكننا نكتشف لاحقاً، أنها لم تقع في حبه، ليس بقدر الرقة المتعاظمة لديه، ما يجعل العلاقة بينهما تأخذ شكل السيد والضحية، وهو ما يدفعه إلى الانعزال والرحيل في محاولة للخلاص من رهبة الحب في داخله.
في جانب آخر، تنغمس الرواية في عالم الأدب والفن، ولا تبتعد الأحاديث والتجمعات فيها عن السياسة لقاء تناول قصص الفضائح الاجتماعية. مع الوقت، نكتشف أنّ ميشيلا لا تلعب دور المرأة اللعوب، إنما هي امرأة أمات العنف قلبها، في وقت انغمس أندريه في صراعه لتصيده عبر التهور والتهويمات الصبيانية. نقع هنا على حالة من تبادل الأدوار في ما يخص النماذج الروائية السابقة لتلك الحقبة، إذ تنحو المرأة إلى التعقل فيما يتلبّس الجنون والهوس حال العاشق الشاب، ونجده دوناً عن غيره من عشاقها، تأخذهُ الصور المسبقة للبهرجة بينما حضرت ميشيلا بتماسك وثباتٍ غير معهودَين. أمر دفع الأجواء الختامية إلى حالة من اليتم والهجر، يرحل على إثرها الشاب، ويهرب من الحب خوفاً من ثقل المعاناة، إلا أن الشفاء يأتيه في اللحظة الأخيرة في منفاه بعيداً عن باريس، ويتخذ من إليزابيث، الفتاة العابرة، زوجةً يتشافى بها من جرحهِ السابق. ما يحلق بالرواية إلى ذروة الإبداع في الأدب والتحليل النفسي، ويجعلها رواية عن القلب في صراعه الأبدي بين التهور والجنوح لقاء التعقل والثبات. «كان يخيل إليها في بعض الأوقات بأن قلوب جميع الناس لا بد أن لها أذرعاً حانية ومفتوحة، تجتذبُ، تحتضنُ، تعانقُ، بينما قلبها مقطوع الذراعين، فقلبها لم يملك سوى عينين».