فاروق مردم بك لصحيفة «لوموند»: رواية السجون السورية تصيبني بالهلع
يحلّ لبنان وسورية ضيفي شرف على مهرجان «الماراثون الفرنسي للكلمات»، الذي يُقام في منطقة تولوز وجوارها من 25 إلى 28 الشهر الجاري. ويُشارك في الدورة الحادية عشرة من هذا المهرجان الكتّاب شعراء وروائيون لبنانيون وسوريون ضمن برنامج خاص عنوانه «من بيروت إلى دمشق». ومن المشاركين اللبنانيين والسوريين: أمين معلوف، صلاح ستيتية، فاروق مردم بك، فنينوس خوري غاتا، جبور الدويهي، ألكسندر نجار، شريف مجدلاني، ديان مظلوم، جورجيا مخلوف، هيام يارد، هدى بركات، نجوى بركات، هالة قضماني، ميريام إنطاكي، سمر يزبك وروزا ياسين الحسن.
فاروق مردم بك، المؤرخ والكاتب السوري الذي يكتب بالفرنسية والعربية، والذي كانت له مواقف ونصوص مهمة مؤيدة للثورة السورية ومناهضة للنظام السوري والقوى الظلامية، هو احد المتابعين عن كثب للأعمال الأدبية، الشعرية والروائية التي واكبت الثورة السورية وسائر الثورات العربية، علاوة على الأعمال الأدبية الشابة التي نشأت خلال الثورات. ولئن كان فاروق يعيش في باريس منفاه القديم (مواليد دمشق 1944) فهو على بينة من الحركة الأدبية العربية الراهنة نتيجة عمله مديراً لسلسلة «سندباد» – دار «أكت سود»، التي تهتم بترجمة الأدب العربي الى الفرنسية ونشره. ولعل الحوار الذي اجراه معه ملحق الكتب في صحيفة لوموند الفرنسية في هذه المناسبة يقدم صورة بانورامية عن الحراك الأدبي «الثوري» في سورية وارتباط هذا الأدب بمدينة بيروت. ونظراً الى اهمية الحوار نقلناه الى العربية افساحاً للقراء ليطلعوا عليه.
> هل تبقى بيروت أرضاً مستضيفة للإنتاج الأدبي السوري؟
-نعم، فمعظم النصوص التي أقرأها تصدر من بيروت، وفي بعض الأحيان من القاهرة. وليس هذا بالأمر الجديد، فطوال عقود، عمد مؤلّفون سوريّون كثيرون، تعذّر عليهم نشر مؤلّفاتهم في دمشق، إلى القيام بذلك في بيروت، شأنهم شأن عدد من الكتّاب العراقيّين، والسعوديّين… وحتّى خلال الحروب المتتالية التي شهدها لبنان. وعلى رغم سيطرة حزب الله على البلاد منذ بضعة أعوام، تبقى في لبنان فسحة حرّية لا وجود لها في أيّ مكان آخر من العالم العربي. وفي لبنان أيضاً دراية فنّية، كما أنّ المحررين اللبنانيين أكثر نشاطاً في مجال النشر وقد نجد في الدار البيضاء كتاباً صدر قبل شهر في بيروت.
إلّا أنّ بيروت، وعلى رغم كونها مكان عبور، لم تتحوّل إلى منصّة للمؤلّفين السوريّين المنفيّين… بسبب القيود التي فُرِضت اخيراً على تأشيرات الدخول، فاضطرّ عدد من المؤلّفين إلى الرحيل، على مضض، وذلك بعد أن كانوا قد وطّدوا علاقاتهم مع المحيط الفنّي الأدبي اللبناني، وباتت الحياة اليوميّة بنظرهم أكثر تماشياً مع توقّعاتهم بالمقارنة بأوروبا. وفي هذا السياق، يخطر ببالي الكاتب المسرحي محمّد عطّار الذي أنتج عملاً مميزّاً كيّفه عن «أنتيغون» من تأليف سوفوكليس، وتمّ عرضه في بيروت بالتعاون مع لاجئات سوريّات، أو الروائي عمر قدّور.
> كشفتَ أخيراً أنّك تبكي كلّما فكّرتَ في سورية. أيّ مشاعر تنتابك حيال الروايات السوريّة التي تقرأها اليوم؟
-ينتابني أوّلاً شعور بالهلع إزاء روايات السجن، وقد تطوّر هذا الشريان منذ تسعينات القرن العشرين وينطوي على نصوص مؤثّرة جدّاً، ومنها كتاب «القوقعة» لمصطفى خليفة الذي أمضى ثلاثة عشر عاماً في السجون السوريّة، وسواه من المؤلّفات التي برع ياسين الحاج صالح في تحليلها في كتابه، «سرديّات من سورية منسيّة: إخراج الذاكرة من السجون». لكنّي أشعر أيضاً بالابتهاج حيال تفجّر الإبداع الحاصل اليوم. ولا شكّ في أنّ النجاح لم يكن حليف كل الأعمال على الساحة الأدبيّة اليوم، لكنّ شبّاناً كثيرين يشعرون بالحاجة إلى التعبير عن أنفسهم. وما من كتاب كبير، حتّى الساعة، على مستوى الحدث، إلاّ أنّه أمر طبيعيّ، لأنّ ما يحصل في سورية مريع فعلاً، ولا بدّ للوقت أن يمرّ قبل أن يُترجَم إلى أعمال أدبيّة.
> إلى جانب الرقابة الشديدة المفروضة على الأعمال الأدبيّة في سورية، هل عانت أيضاً من قلّة اهتمام في الخارج؟
– في ستّينات القرن العشرين، كنّا نقول دوماً إنّ الشعر قادم من سورية، والعراق ولبنان، في حين أنّ الرواية قادمة من مصر. والواقع أنّ الأدب السوري كان يبدو محظوراً ومكبّلاً. إلى ذلك، حدّت أسباب سياسيّة من انتشاره في فرنسا، علماً أنّ الروايات الجيّدة التي صدرت ما بين سبعينات القرن العشرين وتسعيناته تمتد في صفحات هائلة، لتكون بالتالي غير قابلة للترجمة. وأفكّر في هذا الصدد في كتاب «الوباء» بقلم هاني الراهب، الذي يستكشف أعماق التغييرات الاجتماعيّة في قلب المجتمع العلوي، أو «قصر المطر»، لممدوح عزّام، الذي أعتبره من أفضل الروايات العربيّة الصادرة في التسعينات.
> تمت دعوة كاتبات سوريات إلى «الماراتون الفرنسي للكلمات: من بيروت الى دمشق». ماذا غيّرت المرأة في عالم الكتابة؟
– لا يقتصر وجود المرأة المتزايد في عالم الكتابة على الكاتبات السوريات. فالظاهرة واسعة النطاق إذ يتم تقديم نحو 200 رواية سنوياً لمسابقة الجائزة العالمية للرواية العربية المعروفة باسم «بوكر العربية». ومنذ بضع سنوات، تصل ثلاث أو أربع نساء إلى النهائيات من أصل ستة مشتركين في اللائحة القصيرة. وليس ذلك لدواعي المساواة، بل لأن المرأة فرضت نفسها على الساحة الثقافية العربية، من المغرب إلى العراق، وحتى في شبه الجزيرة العربية. فالمرأة ثاقبة الفكر وتتمتّع بما يكفي من حرّية في الرأي لتندد بالقمع الأبوي، والسياسي، والجنسي، إضافة إلى سيطرة الدين على الحياة العامة.
> هل يشكّل التمرّد نواة الكتابة الروائية اليوم؟
– لا شكّ في أن الثورة هي محور التعبير لدى الكتّاب، أكانوا في سورية أو في أي بلد آخر: سمر يزبك في باريس أو روزا ياسين حسن في ألمانيا، وهي أنهت لتوّها رواية عن الانتفاضة السورية. ونرى في المقابل كتّاباً في الداخل السوري لم يكتبوا البتة عن الموضوع: فالكتابة تعني الاعتقال، أو الاضطرار إلى مغادرة البلد، أو الابتعاد عن المجتمع عندما يكون الكاتب مقرّباً من السلطة. ولا أعرف كتّاباً مهمين يدافعون فعلاً عن النظام السوري؛ لكنّ بعض المؤلّفين يمتنعون عن الكتابة وحسب.
> هل تعتقد أن الوضع في سورية سيخلق أدب حرب كما حصل في لبنان؟
– بالطبع. لقد حرّرت الحرب الأدب اللبناني من النماذج الواهية التي كانت متجذّرة في الكتابة العربية أو الفرنسية، على نحو: لبنان بلد الضيافة والتعايش بين الطوائف… لقد كشفت الحرب الجانب المعتم والقذر من المجتمع، الموجود في كل دول العالم. لقد اضطر الأدب إلى الكشف عن الفظاعات المرتكبة. فما من أمر أسوأ من حرب أهلية. وفي سورية، الوضع أسوأ، إذ إنّ ما يحصل مدمّر للغاية. وأعتقد أنه سيضفي بُعداً مأسوياً على الأدب السوري.
> هل يساهم الأدب في ولادة الحياة السياسية الجديدة التي اختفت في ظل نظام الأسد؟
– لا شكّ في أنّ الأمر كذلك. فالانتفاضة أعادت السياسة إلى سورية، والكتّاب يساهمون في الأمر. واليوم، وعلى غير عادة، يتكلّم السوريون حتى التنافر عن مشاكلهم، وحكاياتهم، وكل ما كانوا يخبئونه، لعدم جرأتهم على التكلّم عنه منذ زمن بعيد. والحال أنّ السوريّين أُجبِروا على السكوت لمدة أربعين عاماً، ولم نكن نراهم. وكانت سورية هي «سورية الأسد» ولم يكن العالم ينظر إليها سوى من موقعها الجغرافي السياسي. لم يكن السوريون، بمشاكلهم اليومية وتمنياتهم، موجودين، حتّى لو كتب عنهم الشعراء والروائيّون والكتّاب. ولكن، من كان يقرأهم في الخارج؟
صحيفة الحياة اللندنية