كتب

فانتازيا واقعية في ‘يوتيوب’

الدخول الى  فانتازيا واقعية في رواية “يوتيوب” للروائي خضير فليح الزيدي الصادرة عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق 2022، يضعنا أمام رواية تعتمد الفانتازيا، سواء عبر الرموز الكونية التي يستعملها الروائي في تقنية السرد، أو المعلومات التي تخبرنا بوصول عبد الكريم علوان المتهم الهارب الى كوكب المريخ، كما تعلمنا أنه يحمل اسما شعبيا(كريم قدحة)، واسما برمجيا (عبقرينو)… هذا الهارب ذو الأسماء الثلاثة، عالم فلك عراقي، اكتشف قرب نهاية البشرية مع اقتراب كويكب سيصطدم بالأرض وحدد ذلك باليوم والساعة والدقيقة، كما تذكر مقاطع الفيديو الأربعة التي نشرها عبر اليوتيوب بانتظار المقطع الخامس الذي ربما يحمل طريقة الإنقاذ، لكن العالم العبقري اختفى والجميع يبحث عنه.. في الحقيقة انه وصل الى كوكب المريخ !…

توقعاتنا باستمرار السرد وفق الرؤية الفنتازيا التي تجمع الخيال العلمي، بالوقائع المعلنة سرعان ما تصطدم بالتحول الى رؤية الواقع في ظلّ خبر نهاية الأرض، وهنا يمزج الكاتب بين الخيال العلمي المتمثل بفكرة نهاية البشرية، بالواقع المتمثل بالشخصيات التي تتعامل مع الحدث على ارض الواقع.

ورغم أن فكرة نهاية البشرية واصطدام كويكب قادم من الفضاء الخارجي بالأرض ليست بالفكرة الجديدة وسبق أن تم تناولها سواء بمقالات وأخبار صحفية، أو عبر أفلام سينمائية، إلا أن الجديد عنا تناولها من زاوية تعامل الناس معها، ناس من الواقع، يرسم الكاتب شخصياتها بشكل دقيق بعد أن يستمدها من معايشته للمجتمع العراقي، في الشارع، أو المقهى، أو العمل، او الحي الشعبي الذي يعيش بين أهله. وهنا يهتم السارد بوصف شخصياته بشكل دقيق ليضعنا أمام الواقع، والحياة الحقيقية، رغم طغيان فكرة اقتراب النهاية.

واذا كانت شخصية “المقدم عبدالله” ضابط التحقيق المكلف بالبحث عن عبد الكريم علوان، تصبح الشخصية الرئيسة التي نعرف عبرها سيرة العالم الهارب والذي تبحث عنه وكالة ناسا وتطالب العراق بالكشف عن مصيره، من خلال التقارير التي يطالعها عن تاريخ الهارب وسيرته الذاتية، وما يحصل عليه من معلومات عنه. الا أن المخبر “حمدالله” المتسلل عبر الناس البسطاء في المقهى والجامع، هو من يضعنا أمام حقيقة الناس، وتعاملهم مع بعضهم، والتغيرات التي تطرء على تصرفاتهم بعد شيوع خبر النهاية الحتمية، من خلال التقارير التي يرفعها الى الضابط.

وفي الحقيقة نحن إزاء صورة واقعية لما يتعامل به الناس في حياتهم اليومية، انقيادهم الأعمى الى رجل الدين “شيخ قرطاس”، الذي يسيرهم بالاتجاه الذي يريده هو، وفي الوقت الذي يتعاملون وفق ما يريده ويردده في خطبه وأحاديثه، يتصرف هو بشكل مغاير ولا سيما مع ابنته. إذ السرد يضعنا بمواجهة” الحياة البغدادية قبل أيام من حلول الكارثة المحتملة” و هي حياة تبدو “محض كوميديا” ص 102 ، وهنا يدفعنا السارد للعودة الى التساؤلات التي طرحها في بداية الرواية تحت عنوان “الأسئلة الأبدية” ولنا أيضا أن نتساءل كيف يفكر الناس أمام الكارثة؟. هل تنحصر الكارثة بالحدث الذي رسمه لنا السارد لنهاية الأرض، ام أنها تلك الأحداث التي نمرّ بها يوميا، وتشكل بمجموعها كوارث محتملة تحمل النهاية في طياتها؟..

يضعنا السارد اما الشيخ قرطاس وهو حسب تقرير حمدالله” رجل متدين جدا. وهو خطيب متحدث بلباقة عالية. لديه موهبة في اللباقة العالية والإقناع بطريقة ذكية” ص121

كما نتعرف على جبار الأملس الذي “لا يؤمن بعلوم ناسا.. ولا يعترف مطلقا بوجود قدحة.. ولا يعرف معنى يوتيوب.. ويؤمن بأن العلوم وجدت لدحض الدين وهي مؤامرة من مؤامرات المستكبر”.. انه شخص يؤمن فقط بما يمليه عليه الشيخ قرطاس ويعمل وفقه. لذلك يصاب بالحيرة وتتغير تصرفاته بشكل يثير الاستغراب ما أن اخبره الشيخ قرطاس بقابلية موضوع ناسا  للتصديق.

لقد فشل المقدم عبد الله في الوصول الى عبد الكريم علوان، لكنه لم يعدم الوسيلة في إرضاء مسؤوليه ومعالي الوزير بتقديم شخص بديل على انه الشخص الهارب حسب المقترح الذي قدمه احد الضباط في خلية الأزمة، وقبل به ف”مثل هذه الخطط الخبيثة والمراوغة تم تطبيقها كثيرا في حياتي المهنية، فعندما يعجز فريق البحث والتحري في القبض على الهدف الأصلي، يتم استبداله بآخر كي يتفادى الفريق قضية العقوبة والتكاسل المتعمد” ص185.

لم يكن يهم الضابط المسؤول عن قضية عبد الكريم قدحة الكارثة الكونية التي تهدد البشرية، بقدر ما يهمه تفادي تقريع الوزير واتهامه بالتقصير، او حصوله على عقوبة تشوه سيرته المهنية المليئة بالإنجازات. ربما كانت إنجازات وهمية هي الأخرى، ولكن الناس تتعامل بما هو موجود.

لقد وضعت الكارثة الجميع أمام حقيقتهم التي يحاولون إخفائها عن الآخرين، الحقيقة التي لا تظهر الا عند الشدائد التي ” فيها تجلي غبرة الصمت الذي يغلفهم ويبدأ البوح الخجول وتنكشف الأسرار العميقة فيها ندرك محتوى كل واحد منهم، فيها ندرك كيف يتصرفون إزاء العلم والدين والخرافات وما بينهما؟ كيف ينظرون الى رموزهم المقدسة؟”.ص106

هذه التساؤلات وغيرها تجعل من السرد يغوص في محاولة استكشاف حقيقة النفس البشرية أثناء الكوارث، وكيف يتغير سلوك الأفراد، تعاملهم مع بعضهم، وقبل ذلك مع انفسهم، وأفكارهم التي يتداولونها.

ولو شئنا الذهاب الى الأعمق نجد أن السارد لا يتحدث إلا عن الحياة اليومية التي نعيشها، عن الذوات التي نتعامل معها، ونصادفها يوميا ونحن ذاهبون الى العمل، أو عند جلوسنا في المقهى، أو نلتقي بها في مكان ما، تحمل توجهات مختلفة، تفترض وتبني تصوراتها على ضوء ما يمليه الآخرون عليها، وحين تحين لحظة الحقيقة تلتجأ الى ذواتها نفسها، ولكن مدفوعة بتصور جمعي، تحاول الحياة منفردة، ولكن في ظل المجموع، ما يعيدنا ثانية الى التساؤل الذي يطرحه الكاتب في بداية الرواية. لماذا نموت مع الجماعات، ونحن ولدنا أفرادا؟.. بصيغة معكوسة لماذا علينا أن نعيش في ظلّ  القطيع وروح الجماعات، في الوقت الذي نحن أفرادا..لنا أن نفكر ونؤسس ذواتنا بشكل بعيد عن رؤية الآخرين وأفكارهم وتصوراتهم؟..

التساؤلات التي ينطلق منها السارد قبل الولوج الى مجريات الرواية ترسم لنا رؤية وجودية ترتكز على ثنائية الفرد- المجموع، ثنائية لا يفك أواصرها إلا الموت وحده. نعم نحن الذين نعيش معا ونفكر معا، ونتعامل في الحياة بروح الجماعات، حين نموت نموت فرادا ولا نجتمع إلا في السماء… وهذا ما يجعلني اذهب الى تأويل سفرة عبد الكريم علوان العالم الهارب الذي لا يعرف له مكان، الى المريخ ، بأنه الموت.

الموت وحده من يغيب العالم الذي وحده يعرف سرّ إنقاذ الأرض من الكويكب القادم نحوها، والذي يترك خلفه اربعة مقاطع محفوظة على موقع يوتيوب. هذا ما يجعلنا نعود مجددا الى البداية لفك اللغز عبر الإشارات التي يضعها الكاتب في ثنايا السرد على شكل الغاز يمكن أن نفكها بإكمال الرواية حتى نهايتها. تقول الإشارة الأولى ” إن تاريخ المهمشين والمنفيين الى الفضاء هو ما يسجله ويحفظه لهم برنامج اليوتيوب العظيم. سيحفظ حيواتهم من الاندثار حتما. بذلك يصبح سجل التاريخ رهين اليوتيوب”ص7.

وهذا ما يفك لنا أيضا العنوان الذي وضعه الكاتب لروايته “يوتيوب”.. انه الذاكرة التي تبقى بعد أن يفنى الإنسان، وهذا ما يقودنا اليه أيضا تأويل المفتتح المشابه للإهداء والذي كان ” الى الروائيين الذين رحلوا نحو جوف الأبدية الرطب “محمد علوان. حميد الربيعي. أسعد اللامي”.. والذي اجد في قراءته إشارة أخرى للمعنى الكامن في الرواية والذي كما ذكرنا يتعلق بالواقع لا الفانتازيا ” إياكم من كتابة الملاحظات اليومية عن الحياة على حافات صفحات الكتب العظيمة. لا تيأسوا قط من هذا الواقع الرث، فالمستقبل أقل رثاثة”، ولكن عن أي مستقبل يتحدث الراوي؟ النهاية الحتمية؟! ام الواقع المتغير؟!

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى