نوافذ

فراغُ الرّوح

اليمامة كوسى

مثقلاً بأطنانٍ من الحزن والألم والوحدة، صعد درجات البناء بصعوبة وهو يشعرُ بأنّه يدوس على قلبه مع كلّ خطوة، وصل إلى الباب وبقي عدة دقائق يحدّق فيه كأنه يراه للمرة الأولى، أدارَ المفتاح الذي نادراً ما كان يستخدمه، ودخل، لم يعتريه شعورُ الألفة الذي يغلّفُ عادةً روحَ من يعود إلى بيته، على العكس؛ كان يشعرُ بأنّ كلّ شيء حوله غريبٌ عنه، بما فيه نفسه. كانت تلك هي المرة الأولى التي يتذوّق فيها مرارة ألّا يعرف المرء بيته.

صمتٌ رهيب ابتلع كلّ الأصوات التي كان يودّ سماعها؛ أحاديثم، ضحكاتهم، مشاجراتهم، كلّها أصبحت من الماضي ولم يتبقّ منها شيء سوى الفراغ. فراغٌ شاسعٌ يملأ المكان، يتسلّق الجدران والسقوف، يخترق البلاط، يجلس فوق الأرائك والطاولات، وينفذ إلى صدره ليجثم فوق أضلاعه.

أخذ يتجوّل في الحجرات وهو يقلّب ذكرياتِ كلّ زاوية فيها، كان يحاول عبثاً أن يمسكها بين يديه لكنها كانت تتسرّب من بين أصابعه كالماء، تمنّى بشدّة لو كان بإمكانه أن يخزّنها في قوارير يحملها معهُ أينما ذهب، إلا أن تلك القوارير كانت تتحطّم في مخيّلته قبل أن تكتمل، كانت تتحطّم وتغرز قطعها الحادّة في قلبه لتقول له: كلّ شيء قد انتهى، لا يمكنك أن تعيد أية لحظة معهم إلى الوجود!

كان يصحو على تلك الجملة وهي تصفعُ وجهه كلّما حلّقت به الذكريات بعيداً، لم يستطع أن يتصوّر كيف سيعيش على ذلك الجسر المتهالك بين الماضي والحاضر، وبين الواقع والخيال، وكيف سيعود إلى حياته ويفكر في الغد دون أن ترعبه فكرة أنّ كلّ شيء يفعلهُ بات بلا معنى ما دامت عقارب تلك الساعة الجداريّة قد توقّفت عند اللحظة التي فقد فيها أعزّ ما يملك؛ مرّة واحدة وإلى الأبد.

تراخت قدماه من ثقل الشعور فرمى بظهره إلى الأريكة وإذ بصورة عائلته المعلّقة على الحائط تنظرُ إليه وتدعوه لكي يتأمّلها، كانوا يبتسمون له بحنان وفي عيونهم رجاءٌ استطاع أن يسمعه: كُن بخير لأجلنا.

شعر وكأنّ هناك مَن اقتلع قلبه من جذوره، وأخذت الدموع تندفع من عينيه كحمم بركانيّة طالَ همودها. فجأة سمع صوتاً بعيداً خرق ذلك الصمت الخانق، كان صوت جرس الباب، ورغم أنّ قرعه كان بطيئاً لكنّه شعر به كما لو أن فأساً تضرب رأسه، لم يستطع أن يتمالك نفسه، انتابته نوبة بكاء أقوى من سابقتها فقد أفاقه ذلك الصوت على حقيقة لم يكن يودّ سماعها؛ حقيقة صرخت بقوّة في قلب ذلك الفراغ: أياً كان طارقُ ذلك الباب؛ يستحيلُ أن يكون واحداً منهم!!

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى