فريدة مصر.. أسرار ملكة وسيرة فنانة

عندما اختارت الدكتورة لوتس عبدالكريم لكتابها، الصادر في القاهرة عن الدار المصرية اللبنانية، عنوانًا “فريدة مصر.. أسرار ملكة ومسيرة فنانة” كانت تقدم كتابًا احتفاليًا يشتمل على بهجة الشكل, وأهمية المضمون، لاسيما وأنها تتناول جزءًا من تاريخ مصر الذي مهما قيل عنه، سيظل كل ما يرتبط به شيء ذا قيمة.

لذا جاء الكتاب أنيقًا في طباعته وإخراجه، محتويًا على تغطية واسعة للمراحل الفنية التي مرت بها الملكة الرسامة، كما ضم آراء رجال العصر الذي عاشت فيه، والذي انتقلت إليه بعد أن تحولت إلى إنسانة عادية كغيرها من البشر.

ففي الكتاب آراء كتاب عايشوها ملكة مثل: محمد التابعي، ومصطفى أمين، وفنانون كبار عايشوا تجربتها الفنية ووجهوها نحو ما يجب أن تتطور إليه كالفنان السكندري محمود سعيد، الذي استضافها في قصره بالإسكندرية، وهيأ لها جوًا فنيًا تبدع فيه.

وكذلك من كتبوا عنها بعد قيام الثورة مثل: المؤرخة الدكتورة لطيفة سالم، والروائي محمد جلال، والناقد التشكيلي الدكتور صبحي الشاروني، والكتاب: إبراهيم سعده، وصلاح منتصر، وعبدالمنعم سليم، وحلمي النمنم، ورئيس الوزراء الأسبق الدكتور عاطف صدقي, ووزير الثقافة الأسبق الفنان فاروق حسني.

وقد تمتعت الملكة فريدة بحميمية الشعب المصري ومحبته له وهي تتريع على عرش مصر، وبعد أن طُلقت من الملك فاروق، وكانت تبادل الشعب المشاعر حتى أنها تألمت كثيرًا عندما قيل لها إن طلاقها كان سببًا في إنهاء الملكية في مصر إذ أضعف صورة الملك فاروق، وشوهها في نظر الناس، بعد أن نشر عنه أنه يعيش حياة لهو، وعبث، ومجون، رغم أنها نفت عنه الكثير من الصفات السيئة، باستثناء لعب القمار.

وكان الشيء المؤلم في حياة الملكة، بعد طلاقها وتخلي الملك عن العرش واصطحابه بناته الثلاث منها معه هو حرمانها من الإحساس بالأمومة نحوهن، مما ضاعف من إحساسها بألم الغربة والوحدة!

وفي كتابها تذكر لوتس عبدالكريم أن الملكة فريدة عاشت آمنة في مصر بعد قيام الثورة حتى صدمتها الأحداث فاستأذنت من الرئيس جمال عبدالناصر في الخروج من مصر لرؤية بناتها، فسمح لها، وسافرت إلى فرنسا، وهناك لم يكن حالها أسعد، إذ فاجأتها حقيقة جديدة وهي أن بناتها اللائي تركنها إلى المنفى مع أبيهن، وهن في سن الطفولة، إذ لم يكن عمر أكبرهن قد تجاوز الثلاث عشرة سنة وعشن بعيدًا عنها في مغتربهن حتى ألتقت بهن وكانت كبراهن في الثالثة والعشرين من العمر، وهي التي تتحدث العربية، كان شعورهن نحو أمهن فاترًا، مما ضغط على مشاعر الأم التي جاءت بحلم لقاء بناتها، وربما زاد من ألمها رهافة حس الفنانة فيها، فكانت سنوات حياتها في فرنسا صعبة إلى أن تدخل شاه إيران لمساعدتها، واشترى لها شقة في شارع الشانزليزيه، كما كان ينفق عليها حتى أطاحت به الثورة الإيرانية.

ومن المعروف أن شاه إيران كان زوجًا لشقيقة مطلقها الملك فاروق “الأميرة فوزية” التي أصبحت إمبراطورة لعرش الطاووس قبل أن تطلق منه وتعود إلى مصر.

والملكة فريدة صاحبة الاسم الحقيقي “صافيناز ذو الفقار”، كانت والدتها وصيفة للملكة نازلي، أم الملك فاروق، وكان والدها من باشوات ذلك العصر.

وقد وضعت همها في فنها وقدمته إلى جمهور غربي، رغم أن لوحاتها تتحدث عن البيئة المصرية؛ مثل لوحة: الفلاح، وحاملة الجرة، ولوحتها عن إدفو في صعيد مصر التي تعد من أجمل ما رسمت، وقد لفتت الانتباه إليها في فترة مبكرة.

كذلك لها لوحات عن جني القطن الذي كان يعرف بالذهب الأبيض، ولوحات أخرى عن الأفراح والأحزان في القرية المصرية. كما أنها رسمت العديد من اللوحات ذات الطابع التجريدي.

والطريف أن الملكة فريدة رسمت لوحة عن بناء السد العالي جمعت فيها بين بساطة المصري، وصلابته في تفاعله مع الظاهرة الطبيعية وترويضها.

وقد عرضت الملكة فريدة لوحاتها في العديد من القاعات في: إيطاليا وفرنسا وغيرهما من الدول، وفي مصر استضافت لوتس العديد من معارض الملكة في جاليري “الشموع” بضاحية المعادي في جنوب القاهرة.

وقد أفادت فريدة من نصائح محمود سعيد في أن تغرق همها في الفن، فكان الرسم بالنسبة لها هو العالم الإفتراضي البديل عن الواقع الحزين، على الرغم من أنها لم ترسم أحزانها ومعاناتها لأنها جعلت الفن حياتها وروحها تستمد منه سر العفوية والبراءة التي تجعلها دائمة التوهج كطفل مندهش من كل ما يراه تاركًا جانبًا سنوات العمر التي تهزم من يحملها ويضعف أمامها.

لهذا لم تظهر الملكة فريدة في مناسبة اجتماعية بصورة امرأة منهزمة، أو فقيرة، أو وحيدة، أو غريبة على الرغم من أنها، في واقعها، كانت منهزمة وفقيرة ووحيدة! وهكذا صنع الفن من الملكة أسطورة فنية لها بريق لم ينطفيء على الرغم من كل ما ضربتها به الأيام من محن، وآخرها إصابتها بالمرض الذي لا شفاء منه.

وربما أتاحت صداقة الملكة فريدة ولوتس عبدالكريم، التي اقتربت منها كثيرًا في سنواتها الأخيرة، أن تهديها مجموعة من أندر صورها التي نشرتها لوتس على صفحات هذا الكتاب ومنها: صورتها في زي رئيس الكشافة، وصور لها أثناء زياراتها الملكية، وأخرى وهي ترسم إحدى لوحاتها، وصورة لها في حوار مع الشيخ عيسى بن راشد وكيل وزارة الإعلام بالبحرين وقتذاك في معرضها بالمنامة، ولوحتان لوجهها بريشة الفنانين: عبدالعال، ومحمد الطراوي.

فضلاً عن صورة زفافها إلى الملك فاروق، وصورتهما وهي تحمل ابنتها الأولى فريال، وصورتها مع بناتها الأميرات: فادية وفريال وفوزية.

وربما تكون أكثر صفحات الكتاب التي أثرت فيَّ تلك التي تناجي فيها المؤلفة صديقتها الملكة الفنانة، بعد رحيلها قائلة: “هذا الكتاب هو هدية ميلادك، وها أنا أضع – ومن قاموا بجهد فيه- اللمسات الأخيرة ليكون كما أردت تمامًا.

لقد اخترت أعز لوحاتك إليك، لوحة رأيتك ترسمينها، ولوحة حدثتيني عنها، ولوحة أخفيتها عن عيون المشترين لصعوبة فراقك لها، وأخرى رسمتها في ظروف خاصة، ولوحات كثيرة رسمتها أثناء مرضك أو ألمك وانفعالك، فجاءت جميعها قطعة منك، من حياتك، ومن مشاعرك.

ساعدني مستر نيفل في الإعداد، فبعض اللوحات حضر رسمها ولم أحضر، والبعض تذكر أسماءها ولم أذكر.

وحاولت جمع المعلومات التاريخية والموضوعية من كل ما كتبت قديمًا عنك.

ولم تنس الدكتورة نعمات أحمد فؤاد كلمتها فيك وهي التي قالت للجميع:

“لقد جلست على عرش مصر فهي قطعة من تاريخ مصر، ويجب أن تعامل كملكة حتى آخر يوم في حياتها”.

وأتساءل أكان سر إعجابي بها أم انجذابي إليها وملاحقتي إياها في بدء تعارفنا، أنها كانت ملكة فوق رأسها تاج وتحت قدميها عرش؟

كثيرون جدًا سألوني هذا السؤال: أكان لذلك دخل في تعلقي بها وإصراري على صداقتها؟

بل أنا نفسي سألت نفسي مرارًا هذا السؤال.. كانت ملكة.. أجل.

ولكن أكان ذلك وحده كافيًا لجذب اهتمام الآخرين مثلي نحوها؟

على العكس تمامًا، ربما كان ذلك دافعًا لابتعادهم أو اتخاذهم موقف ما، وقليلون جدًا هم من كان اهتمامهم أو محاولتهم الاتصال بها أو التعرف إليها. لقد التقيت – فترة من العمر وأثناء حياتي الدبلوماسية- بملوك وأباطرة ورؤساء وجلست إليهم، وكنت أتعجب أنني لم ألمس للتاج سحرًا، ولا للعرش أمرًا، ولم أحس مرة واحدة في السلطان بهيبة أو رهبة، ولا جاذبية أو قوة.

على العكس من شعوري هذا تمامًا ما كان يحدث، حين لقائي برمز من رموز الفكر والثقافة أو العلم أو الفن، فإني أشعر بالرهبة والإجلال، الذي قد يصل إلى حد التقديس. فالفنان هو صورة مصغرة للإله الذي يخلق.

السلطان لا يخلق لكن الفن يخلق، وهذا هو الفارق بين القوتين، وهكذا كانت هي.

كانت تقول دائمًا: “الملك والتاج يزولان، لكن الفن خالد باق دائم مادامت الحياة”.

وهذا هو السر الذي جمعنا، وهو القوة التي ربطت أواصر صداقتنا فاستمرت حتى الموت”.

ميدل ايست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى