” فريدي” أو ذاكرة دمشق الثقافية
سأسمح لنفسي بالتحدث عن حانة ” فريدي” لصاحبها جوزيف بدمشق لأكثر من سبب وجيه: أولها أنها لم تعد موجودة كي لا يُتهم المرء بالدعاية المجانية لمحل مسكرات أو ” مشروبات روحية” كما هو موجود على الواجهة المضاءة، فلقد قضمها ـ بل التهمها ـ مطعم عملاق مع غيرها من محلات ودكاكين وعيادات ومكتبات ومقر لتدريبات فرقة مسرحية في شارع طويل قرب البرلمان بات يُعرف الآن بشارع الأكل.
السبب الآخر هو أن ” فريدي” تُعتبر ـ بحق ـ ذاكرة دمشق ومدونتها الثقافية الخصبة، فقلما حل مثقف زائر (عربيا كان أم أجنبيا) بدمشق ولم يعرّج عند جوزيف، ولو لبضع دقائق، وذلك للسؤال عن زميل له أو حتى بدافع الفضول للتعرف على هذا المكان الشعبي الصاخب ذائع الصيت، والذي يضم جميع الفئات وقد انمحت فيه كل الفوارق الطبقية، وتوزعت بين بضع طاولات أشبه بالقطار المسافر، ويشرف جوزيف البدين، ذو الوجه الطفولي، بنفسه، على خدمتها.
في كل مرة ينزل ” مسافر ” على حين غرة ليترحم عليه الجميع في صباح اليوم التالي.. وتمضي الحكاية التي يتوارثها، بالتواتر، جيل بعد جيل منذ ما يقارب المئة عام.
حانة “فريدي” لا تحتاج إلى خيال زائد أو جهد درامي إضافي لتحويل شخوصها إلى ” أبطال” رواية أو فيلم أو قصيدة.. إنها منجم أدبي في متناول كل كاتب محترف أو هاو على قارعة شارع العابد الشهير.
يتجاور ويتحاور في ” فريدي” أبو كامل شيخ العتالين مع أبي ماهر كبير المغسلين في مقبرة الدحداح، بالإضافة إلى كتاب وشعراء وصعاليك وفنانين ومدعين ومشعوذين ومشردين وحتى شحاذين.
يتناول ويحتسي الجميع الخمور الرديئة والتبوغ الرخيصة من يدي جوزيف ومعاونه أبي غسان في ساعات الذروة، بمنتهى الانشراح الذي تقطعه عادة خناقة عابرة أو نكتة طافحة أو موال حزين. ومن لم يكن لديه ” أموال” فإلى حين ميسرة، فالدنيا ” عسر وعسر” كما يقول أبو كامل، الحمّال المتخصص في إطلاع البيانوات (أو البانيوات كما يقول) إلى الطوابق العليا بدقة ومهارة فائقتين، ويعرفه أشهر الموسيقيين في دمشق.
أسماء النخب الثقافية والسياسية التي ” امتطت قطار فريدي”، وسقاها جوزيف من بين يديه، لا تحصى ولا تعد، من صعلوك الأدب والمسرح الفرنسي جان جنيه، إلى أشخاص كانوا معربدين وأصبحوا فيما بعد قادة حركات إسلامية.
ألا يستحق ” فريدي” الكتابة عنه وقد ابتلعه اليوم مطعم عملاق، لكن صاحبه ما زال يحتفظ بدفتر الديون، ولا يتفاجئ أحدكم إن اطلع يوما على ما تخلد بذمة أحد هذه الأسماء من ديون.. وببضع الليرات السورية ولم يسددها بعد.