فصح مجيد …رغم كل الأوجاع
كنّا نقدّم امتحان مادة “علوم القرآن” على مدرّج كلية الآداب في جامعة دمشق، وكان السؤال الذي أربكنني وجعلني أتململ في مكاني وأعتصر رأسي دون جدوى ..حتى كدت أن أقدّم ورقتي نصف بيضاء …لولا صوتها الدافئ الذي وصلني من الخلف وهو يهمس لي بالإجابة كاملة، واضحة وغير منقوصة .
كان السؤال هو ” أكمل كتابة سورة مريم من الآية رقم كذا إلى الآية رقم كذا “… وكانت الإجابة التي أسعفتني قد جاءت على طبق من الهمس الدافئ …وكان مصدرها زميلة لطيفة وخجولة تطوّق عنقها بصليب فضي ، ناعم وصغير مع صورة لسيّدة النجاة “مريم العذراء” عليها السلام .
قضي الامتحان دون أن أهان، وغفرت لنفسي هذا الغشّ العابر ثمّ توجّهت لأشكر لطفها وأثني على ذاكرتها وملكة الحفظ لديها، فقالت بأنها تحفظ قسماً كبيراً من القرآن منذ طفولتها عملاً بنصيحة والدها بأن لا إتقان للعربية وآدابها دون الإحاطة بالقرآن .
أعايد اليوم أصدقائي المسيحيين ونتبادل عبارات التهنئة في أعياد الفصح على صفحات التواصل الاجتماعي رغم البعد والجراح، لكنّ المفاجأة التي أبهجتني جاءت من تلك الصبيّة الخجولة اللطيفة التي كانت تجلس خلفي في مدرّج كلية الآداب وتلقّنني بصوتها الناعم آيات من سورة مريم صبيحة ذلك اليوم الامتحاني المربك .
تلقيت طلب صداقتها على صفحتي مثل طفل يفتح هديّة ورحت أتفرّس وأدقّق في صورتها وعنقها الذي مازالت تطوّقه السيدة العذراء ويحرسه الصليب الفضي الناعم الصغير .
من قال إن صفحات التواصل فضاء افتراضي ..!؟ إني أكاد أسمع صوتها وأنفاسها وهي تسعفني من ورطتي و تخاتل عيون المراقب في قاعة الامتحان . جعلتني هذه الحادثة أستحضر أسماء لا تحصى من العرب المسيحيين الذين أنقذوا لغة جرير وزهير و”قس بن ساعدة” و”أمية بن أبي الصلت” .. والقرآن الكريم .
من منّا لم ينهل من معاجم “البستاني” و”الشدياق”، ولم يشدّ لمسرح مارون نقاش ومصنفات الأب “الياس زحلاوي ” و” لويس عوض ” … ومن منّا لم تؤثر فيه كتابات جبران ونعيمة و ” إيليا أبو ماضي ” و” الياس أبو شبكة ” و” أمين الريحاني ” وغيرهم من حرّاس هذه اللغة التي جعلوها فاتنة بشغفهم وإبداعهم .
ستظلّ العربية بفنونها وآدابها شامخة مع كلّ جرس يقرع وترنيمة تناجي السيدة البتول، كل عام وأشقاؤنا وشركاؤنا في المصير بألف
خير .