فــــي ضــــــــرورة تفكيك أمننة المجتمع (علي الرجّال)
علي الرجّال *
ألقت الثورة المصرية الكثير من زجاجات المولوتوف الحارقة على خطوط المواجهات بين قوات الأمن والثوار على مدار أكثر من عامين. فالصراع يدور على نمط السلطة وتجلياتها، وهو ما يزال قائماً حتى هذه اللحظة. وهناك ثلاثة تحركات، يتمحور حولها الفعل الثوري، شهدت وما زالت تشهد صدامات عنيفة بين قوات الأمن والثوار والمحتجين بشكل عام: الأولى تتعلق باسترداد المجال والفضاء العام من سطوة الأمن لاستعادة التلاقي المجتمعي الذي كاد أن يندثر. وقد عبَّر عن هذا الفعل الصدام الدائم مع قوات الأمن حول احتلال الميادين العامة وأبرزها ميدان التحرير. والثانية هي حرق أقسام الشرطة، حيث تم حرق ما يزيد عن ألف قسم في عموم الجمهورية. والثالثة هي الإضرابات العمالية والتي تشهد صدامات شديدة ودورية مع قوات الأمن منذ عام 2006. ويمكن القول أن الثورة كانت تسعى لتفكيك أمننة المجتمع والسلطة، وتحرير العقل المصري من ثنائية «الأمن في مقابل الفوضى».
ويعني مصطلح «الأمننة»، طبقاً لكثير من الباحثين في مجال الدراسات الأمنية، تحويل أي خطاب سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي إلى خطاب أمني في المقام الأول. حيث تسيطر مفردات «الخوف» على عملية إنتاج الخطاب وعلى الحلول التي يطرحها. فالثنائية الجامدة التي يخلقها الخطاب الأمني (أمن/ فوضى) تقتل المساحات ولا تسمح بالاختلاف والتنوع في الفكر والممارسة. وهي تضع المجتمع في أشد حالات المراقبة وتحوله إلى سجن كبير، على أفراده الانضباط والطاعة وفق طريقة السلطة ورغبتها. والأسوأ من ذلك هو خلق المجتمع بنفسه لثنائيات تجعله يتمحور حول الخوف، ويبدأ في استبطان نفس مكينزمات السلطة وأدواتها. وتجلى في أمثلة دالة مثل معاداة قطاعات واسعة من المجتمع للفعل الثوري تحت مسمى الخوف من الفوضى والخشية من المساس بـ«هيبة الدولة»، وأيضاً في منع بعض اللجان الشعبية من إدخال الطعام إلى ميادين التحرير المختلفة حتى لا تزداد الالفة «عن حدها»، أضافة إلى استخدام العنف المباشر من قبل أهالي بعض المناطق ضد الثوار.
الحاضر يشبه الماضي
تتمتع مؤسسات الدولة المصرية كمنظومات تابعة للنظام القائم بقدر من الاستقلال ولها منطقها الذاتي بعيداً عن رغبات الملك (سواء كان مبارك أو المجلس العسكري أو الدكتور محمد مرسي). ولذلك فما ظنَّه الكثيرون من أن قطع رأس الملك سيعني بالضرورة إنعتاق تلك المؤسسات وتصحيح مسارتها بشكل ذاتي أثبت خطأه، وبالأخص في النهج والخطاب الأمني الصادر عن تلك المؤسسات. فتعامل الداخلية مع اعتصام جامعة النيل في 20 أيلول/سبتمبر الماضي، الذي طالب بالتصديق على تحويل جامعة النيل إلى جامعة أهلية، وتمكين طلابها من استخدام مبانيهم ومعاملهم القائمة بمدينة الشيخ زايد، لم يختلف كثيراً عن التعامل أيام مبارك، على مستوى الممارسة والخطاب كليهما. فقد طبق النهج الأمني الذي يتعامل مع الأمور السياسية بمنطق التهديد، ثم اللجوء للعنف، هو ما حدث إذ اقتحمت قوات الأمن المركزي الحرم الجامعي وفضت الاعتصام بالقوة… في ظل حكومة منتخبة جاءت بعد ثورة شعبية.
وكذلك تعامل السلطة مع قضية سيناء، حيث لم تلجأ حتى الآن إلا للحلول الأمنية. في سيناء قصف عسكري أقرب للعشوائي، وحملات أمنية، وكمائن مكثفة تنتهك حرمة المواطنين وأجسادهم، وتعامل فيه قدر كبير من الإذلال وخطاب فيه قدر كبير من التخوين. وهذا مشابه لما كانت ترويه شهادات أهالي سيناء قبل الثورة. وتؤكد شهادات الكثيرين من أهالي الشيخ زويد على أن القصف طال أسوار منازلهم، وأنهم لم يجدوا آثارا لمعارك أو جثث لمتطرفين. وهذه الممارسات كانت وراء اشتعال الثورة في سيناء، إلى حد وصولها إلى ثورة مسلحة في الشيخ زويد من قبل الشباب والكثير من الأهالي الذين تعذبوا كثيراً، وبالأخص بعد تفجيرات طابا ورفح.
جدران السلطة وجدران الثورة
وتعبر الجدران العازلة المحيطة بوزارة الداخلية عن إدارة المساحات وفق الخطاب الأمني، وعن غلبة نمط السلطة الأمنية المعسكرة في الدولة. فالسلطة الأمنية تتمحور حول الإرهاب وامكانية ممارسة العنف والعزل وهما متلازمان. وقد صارت تلك السلطة، هي وخطابها، في مواجهة مفتوحة ودائمة مع الثورة، كفعل وخطاب. وتعكس الجدران وما تحمله من رسومات الغرافيتي الفارق بين الطرفين. فالأول يسعى لاستتباب الأمن ولو على حساب قتل المساحة وحرية الحركة، وهو لجأ لمعداته الثقيلة، فمارس عنفاً مدروساً ـ مثل الاصابات في الأعين ـ أو العزل مثل بناء الجدران وسط الشوارع. وهذا رسخ الشعور بالخوف واللاأمن. أما رسومات الثورة، فكانت أغلبها عبارة عن رسم بقية الشارع المغلق، وكأن الجدران ليست قائمة. وكان الغرافيتي عليها يتسم بالخضرة، وألوان قوس قزح، وأطفال يمرحون في الشارع الذي أغلقه الجدار العازل. وعلى كل حال، فالجدران وما عليها من رسومات، كانا نتاج معارك حامية الوطيس بين الثورة وقوات الأمن، امتدت لخلف تلك الشوارع المغلقة الآن.
أمنٌ عار من الشرعية
والأمن والإرهاب يسيران يدا بيد، لا ينفك أحدهما عن الآخر. ويزيد الخطاب الأمني من وطأة الشعور بفقدان الأمان. والنظم الأمنية السلطوية تستمد شرعيتها من الخطر وإعادة إنتاجه، حيث يتحول الخطر إلى أداة حكم وهيمنة تستطيع تلك النظم من خلالها أن تفرض حالة الإستثناء عبر جهاز الدولة. ولكن هذا أمر عام ونظري. أما ما كان خطيراً في نظام مبارك وخطابه فهو إنحسار شرعيته حول هذه النقطة. فعلى الرغم من أن دولة ناصر كانت بوليسية، إلا أن شرعية نظامه لم تقم على الأمن بل على مشروع التحرر الوطني والمساواة والعدالة الاجتماعية. والسادات كانت شرعيته هي تحرير الأرض (استعادة سيناء) ثم الوعد بتحقيق الرخاء الاقتصادي. أما مبارك فشرعيته تمحورت حول خطاب لا ينتهي من ثنائية الأمن والاستقرار في مقابل الفوضى والحرب. وأما باتجاه الخارج فكان لا يكل عن التلويح بأن أي ديمقراطية ستجلب الإسلاميين إلى الحكم، ومن ثم عدم استقرار الشرق الأوسط، والسوق. ولم تخرج خطبة واحدة من خطبه خارج هذا النطاق. وهكذا تحولت حالة الاستثناء في مصر إلى حالة دائمة تحت مسمى الأمن والاستقرار. وفي ظل قوانين وظروف الطوارئ، يسهل للسلطة الحاكمة قمع أي نوع من المعارضة وإضعاف فرص تكوين مجتمع مدني قوي، حيث هي لا تسمح بتشكل كيانات ومؤسسات شعبية وجماهيرية.
وتنعكس تداعيات الأمننة على المعمار وهيكلة المجتمع وهندسة المساحات فيه، كما في حالة المجمعات الجديدة المسيجة. إن خطورة تبني الدولة (والمجتمع) للنهج الأمني يعود الى خلقه أفراداً وجماعات عرضة للاشتباه، والدفع بالتالي الى الخضوع للممارسات الأمنية المتوحشة. وهو ما يقلص المواطنة إذ تحرم الجماعات من حق التحدث والتعبير، ومن الحقوق، بل تحرم من تاريخها.
الشرطة تمثل النظام العام
وقد أسس قانون الطوارئ لوضع فوق ـ استثنائي لقوات الشرطة في المجتمع، وأصبحت ممثل النظام السياسي والعام. فأقسام البوليس لعبت دوراً مهماً كممثل لسلطة الدولة والنظام السياسي في مرحلة 1981ـ 2000 ثم كممثل للنظام النيوليبرالي من عام 2000 وحتى اليوم. فالشرطة تلعب دور برج المراقبة الذي يفرض الانضباط على المجتمع و«يحتكر الحق الشرعي في ممارسة العنف»، بحسب تعريفات الدول الحديثة. وبسبب طبيعة الحرب على الإرهاب التي كانت تدور في الخطوط الأمامية والخلفية للمجتمع في التسعينات، أضطرت الداخلية لتوسيع رقعة الاشتباه ونطاق المعركة. ومع توحش الجهاز الشرطي ككل، وهيمنة سلطته على الدولة والمجتمع، صارت قوات الأمن بشكلها الرسمي والمؤسسي، وذاك غير الرسمي واللامؤسسي، كمجموعات البلطجية والمرشدين، أحد أهم عناصر إنتاج الفزع في المجتمع.
فتقارير حقوقية وصحافية كثيرة أشارت لجهاز «أمن الدولة» وتوغله عبر طرق لامؤسسية في المجتمع. وبات كل من جهاز أمن الدولة وقوات الأمن المركزي أحد أهم عناصر الأرهاب السياسي والمجتمعي. فأمن الدولة يراقب جميع أركان المجتمع ويسيطر على كافة مؤسساته الرسمية، من تعيينات وإدارة. وكان الأمن المركزي يتم الدفع به في مواجهة أي مظاهرة أو احتجاج، وهو اعتاد أن يقوم بعسكرة مسرح الأحداث، إرهاباً، وممارسة أقصى درجات العنف والوحشية على مئات وأحياناً مجرد عشرات من المتظاهرين.
النيوليبرالية تُخصص المجال العام وتفتته
ولا يمكن فصل الخطاب والممارسة الأمنية عن التحول الكبير إلى النيوليبرالية وحكم رجال الأعمال بقيادة جمال مبارك منذ عام 2000. فالنيوليبرالية قائمة على ذراعين: أمني واقتصادي. وكلاهما يستند الى خطاب أمني وإنتاج للفزع. وتستخدم النيوليبرالية الأمن الخاص المتمثل في شركات التأمين المحلية والعالمية، أو جماعات بلطجة منظمة بالإضافة إلى قوات الداخلية. فالشركات الخاصة المرخصة تصل إلى قرابة المئتين، بحسب الدراسات المتوفرة، وأما غير المرخصة فقد تتجاوز الخمسمئة. ويقوم الذراع الثاني بأنتاج نوعين من الخطاب حول المدينة والعمل، وكلاهما يتم أمننته. فهو يصور سكان المدينة من الفقراء كعبء وخطر عليها يجب التخلص منه. ويظهر هذا في الخطاب التشنيعي والتخويفي حول العشوائيات والأحياء الفقيرة، كما في فكرة «المجتمعات الجديدة» المسيجة، وما يسمى بـ«معمار الحصن» – مثل منطقة التجمع الخامس، حي الأثرياء الجديد، ومدينة الرحاب – وغلبة الهوس الأمني على هيكلة المدينة مثل كثرة السياجات بمنطقة التحرير، أو منع التجمعات في الميادين العامة وتخطيطها لتكون مساحات لتنظيم المرور فقط، ومنع إمكانية الجلوس والتجمع. ويؤدي هذا الهوس الأمني إلى عزلة الفضاءات الاجتماعية المختلفة عن بعضها البعض، حيث تقتصر على علاقات عمل وأخضاع وخدمة، وبالأخص مع غياب المساحة العامة المشتركة التي يمكن أن تجمع بينها. بينما في المدن المسيجة الجديدة، مساحات مثل الساحات العامة للعب واللهو والمقاهي التقليدية التي لعبت دوراً مهماً في أحياء مصر قديماً، في الجمع بين الشرائح الاجتماعية المختلفة، وهي لم تعد موجودة. وتم استبدال الأسواق التي تشهد تواصلا إنسانيا بالمجمعات الاستهلاكية العملاقة، الـ«هيبر ماركت». فالنيوليبرالية تقوم على تخصيص المجال العام وتقسيمه.
وأما الذراع الأول فهو عماد النيوليبرالية في استقرار الأوضاع. فالأمن العام، المتمثل في جهاز الداخلية، يحول دون تغير الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للجماهير. وتضخم السلطة من حجم هذا الجهاز وامكانيته في البطش والقمع. وقد اشيع عمداً بواسطة صحف النظام أن عدد قوات الأمن المركزي قد وصل لقرابة المليونين، على ما في ذلك من مبالغة. ولكن المهم ليس حقيقة الرقم، وإنما توظيفه في خطاب أمني إخضاعي. فلقد نُشرت هذه «المعلومة» إلى أقصى حد، دون أن تبادر وزارة الداخلية الى تأكيدها أو نفيها. وراحت المعارضة قبل النظام تساهم في نقلها وتردادها. ويحقق هذا الخطاب واقع «أسطرة» هذا الجهاز وتوفير إرهاب السلطة. وقد تبين من خلال محاكمة حبيب العدلي، وزير الداخلية الأسبق، والذي أدين بتهمة قتل المتظاهرين في أحداث الثورة، أن هذا الرقم غير صحيح!
الدولة تتحلل ولكن ليس جهازها الأمني
ظلت الداخلية وأقسام الشرطة تحتفظ بدور مهم في المجتمع، على الرغم من تحلل جهاز الدولة بدءاً من سياسة الانفتاح الساداتية، مروراً بعمليات الخصخصة الشرسة للقطاع العام في أواخر التسعينات، وانتهاء بذروة المشروع النيوليبرالي بعد 2005، مع حكومات رجال الأعمال والتطبيق المكثف لسياسات صندوق النقد والبنك الدوليين. فالداخلية لم تصر أحد أبراج المراقبة فحسب، بل تحولت نقطة ارتكاز وتلاق لعلاقات السلطة بالمجتمع. وتضاعف دورها المؤسسي حيث تصدت لمواجهة كافة المطالب الاجتماعية والاقتصادية التي تفاقمت بعد 2005. وصارت مركزا لإدارة العمليات الاقتصادية، محافظةً على هيمنة رجال الأعمال والترتيب الاجتماعي على أكثر من مستوى. فهي التي تتصدى للتعامل المباشر مع المحتجين وأصحاب رؤوس الأموال. وعلى مستويات صغرى، راحت تدير رؤوس الأموال في مناطقها، مثل تراخيص البناء واحتلال مناطق بالحيز العام لصالح مقاه ومحلات مختلفة، وترسيخ علاقات الهيمنة لبعض العائلات في مناطقها. وأفراد الأمن التابعون للقسم مثلاً صاروا يتقاسمون بعض نسب الأرباح مع الباعة المتجولين مقابل السماح لهم بالعمل في المنطقة. وهكذا توسعت سلطة الأمن في المجتمع بأشكال وأنماط متعددة. وعلى الرغم من حدوث إنقطاعات جذرية في بنية المجتمع الاقتصادية والسياسية، مثل التحول من الناصرية إلى الانفتاح، ظل الخطاب الأمني وإنتاج الفزع يسير في خط متصل. وهكذا يمكن فهم لماذا أحرقت الثورة أقسام الشرطة واقتحمت مقار جهاز أمن الدولة، ولماذا ما زالت الصدامات مع قوات الأمن المركزي والداخلية واسعة، سواء في الميادين أو الإضرابات والاحتجاجات الاجتماعية والعمالية.
* باحث في علم الاجتماع السياسي متخصص في الدراسات الأمنية، من مصر
صحيفة السفير اللبنانية (السفير العربي)