فــي كوالــيـس الشـــرق الأدنــى (الحلقة الاخيرة) السادات وكيسنجـر يتبادلان النعوت: «أخـــي» هــــنــري… وأنـــــور «نـــبــــي» (اريك رولو)

اريك رولو

ترجمة د. داليا سعودي

 

أكدتُ في العديد من المقالات أن سلوك شارون يوافق حساباً سياسياً يقوم على عدم الدخول في محادثات سلام طالما «استمر الإرهاب»، كما يدعي. وهو بذلك قد أحسن اختيار الذريعة: هكذا حظي شارون بالتأييد الكامل من جانب الرئيس الأميركي، جورج بوش الإبن، الذي صار ديدنه، بعد اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر 2003، هو تشجيع «مكافحة الإرهاب» في سائر أنحاء العالم. هكذا رفض شارون على الفور العرض التاريخي الذي وافقت عليه البلدان العربية قاطبةً في 2002، والذي ينص على تطبيع كل العلاقات مع الدولة اليهودية شريطة أن تبرم هذه الأخيرة اتفاق سلام مع الفلسطينيين. وقد كشف ونستون تشرشل الثالث، حفيد رئيس الوزراء البريطاني الأشهر، أن شارون قد أسرَّ له بقوله: «الفلسطينيون؟ سنصنع منهم شطيرة. إذ سنُدخل في ما بينهم مجموعةً من المستعمرات، وسلسلة من المستوطنات، من جانب إلى آخر في الضفة الغربية، بحيث لا يقدر أحد على تفكيكها، لا الأمم المتحدة، ولا الولايات المتحدة». والحقيقة أن السابقين عليه والتالين له على رأس الحكومة لم يصنعوا غير ذلك.
أتراها مفارقة عابرة أم سخرية التاريخ، أن ينجح «المحارب» في أن يظهر في صورة «بطل السلام»، وهي الأسطورة التي تروج لها الأوساط المحتفية به. رغم أن ماضيه كان معروفاً تماماً. إذ كان قد انضم متأخراً مرغماً، إلى عملية السلام بين مصر وإسرائيل، وندد بقوة باتفاقيات أوسلو، ناعتاً كلا من ياسر عرفات وإسحق رابين بـ«المجرمين»؛ وبالمناسبة، لم تكن الحملة الشرسة التي شنها شارون على ذلك الأخير منبتة الصلة لاغتياله على يد متطرف. كما عارض اتفاق السلام المبرم مع الأردن.
تبدو ذاكرة المعجبين برئيس الوزراء شارون وكأنها تتقصد النسيان، فهم يستقبلون آراءه السياسية حرفياً، دون أية محاولة للفهم. وفيما يواصل سياسته القمعية ويسرع من وتيرة الاستيطان في الأراضي الفلسطينية، نجده يُكثر من تصريحاته المسكنة للخواطر، التي يعتبرها مناصروه بمثابة سبَّة. وقد أثار استنكار حزبه حين صرح بوجوب إنهاء «الاحتلال»، وتشجيع إقامة «دولة فلسطينية»، لكنه أمسك بالطبع عن رسم حدودها.
وقد أوحى بأن إخلاء قطاع غزة في 2005 بواسطة الجيش ما هو إلا خطوة أولى باتجاه ذلك الهدف، بينما كان ذلك الإجراء محض خدعة تذر الوهم في العيون، وتهدف لخفض تكاليف السيطرة على قطاع مكتظ بالسكان على نحو خطير.
أما أعلى ما بلغته مهارته، فهو تصديقه على الأطروحة ـ العارية من الصحة ـ القائلة بأن رجلاً من اليمين وحده هو القادر على منح تنازلات لازمة لصنع السلام. أولم يردّ مناحيم بيغن سيناء إلى مصر؟ كانت تلك الحجة المتواترة خداعة بالطبع، ذلك أن زعيم الليكود ورئيس الوزراء في تلك الفترة كان قد تخلى عن صحراء لم يطالب بها الإسرائيليون قبل ذلك أبداً، بينما الضفة الغربية (المسماة بـ«يهودا والسامرة») تمثل وفقاً للعقيدة الصهيونية، قاعدة بناء «وطن الشعب العبري».
وقد انتفع تعنت شارون بصورة كبرى من «عملية الـسلام» التي اختـلقها هنري كيسنجر غداة حرب أكتوبر. إذ كان وزير الخارجية الأمـيركي قد نجح بمهارة تامـة في تجريد الأمم المتحدة من حقها في العمل على أن تكـون التسوية متوافقة مـع قـرار مجـلس الأمن رقم 242. كـما منـح الدولة اليهودية الامتياز المزدوج الخـاص بالتـفاوض ثنائياً مع كل خصم من خصومها على حدة (بدلاً من مفاوضات متعـددة الأطراف كان يرجوها هؤلاء الخصوم)، فـضلاً عن رفـض أي تسوية لا تـتلاءم معـها. هكـذا اختارت القـدس إقامـة الـسلام مع مـصر، فيمـا رفـضت إعـادة الجولان المحـتلة إلى سوريا والضفـة الغربيـة إلى الفلسطينيين.
وقد كان على هنري كيسنجر أن ينتزع من الرئيس نيكسون حق تعهد ملف النزاع العربي الإسرائيلي. فوفقاً لوثائق سرية تم الكشف عنها في العام 2010، كان الرئيس نيكسون قد حظر على وزارة الخارجية، منذ سنة 1971، تكليف أي يهودي بأي ملف متعلق بإسرائيل. وكان قد ذكر بالإسم مستشاره لشؤون الأمن القومي – الذي كانت عائلته قد فرت من ألمانيا النازية – مما يجعله بالضرورة متحيزاً لـ«شعبه». أما المعنيُّ بالأمر، كيسنجر، فمع تأكيده وجود مرسوم بهذا القصد، فقد أكد أن نيكسون لم يكن معادياً للسامية أبداً.
لكن شهادتين ذاتَي أهمية قد أنكرتا ذلك الرأي. أولاهما لأناتولي دوبرينين، (Anatoly Dobrynin)، سفير الاتحاد السوفياتي لدى الولايات المتحدة، الذي ذكرته سالفاً، والذي يورد في مذكراته أن ريتشارد نيكسون، قد أسر إليه في حديث ثنائي بأسرار «مذهلة»، منها: ان إسرائيل واليهود الأميركيين يرون أن مصلحتهم تكمن في الإبقاء على التوترات القائمة بين الشرق والغرب، وعلى الحرب مع العرب، وان اللوبي اليهودي يسهم في صياغة السياسة الخارجية لأميركا، وان وسائل الإعلام الأميركية يتحكم فيها مؤيدو إسرائيل المطلقين، واللوبي اليهودي.
أما سيمحا دينيتز (Simha Dinitz)، سفير إسرائيل لدى واشنطن، فبدا شديد القسوة في حكمه الوارد في مذكراته المنشورة عام 2000، أي بعد خمسة أعوام من نشر مذكرات دوبرينين. إذ يكتب دينيتز: «كان نيكسون مفرطاً في تقدير تأثير اليهود وسيطرتهم على عالم المال ووسائل الإعلام، حتى لتبدو آراؤه أشبه بالمحتوى الحافل بالقذف والتشهير الذي تقوم عليه بروتوكولات حكماء صهيون(…). كما كان ينصح ابنته بعدم مخالطة اليهود والمثليين(…). وبعد كلمة ألقاها كيسنجر في مجلس الأمن القومي، التفت نيكسون إلى المشاركين الآخرين لكي يدعوهم إلى إبداء «وجهة نظر أميركية».

نيكسون لا سامي؟

وقد كان نيكسون الدليل القاطع على أنه لا تعارض بين أن يكون المرء معادياً للسامية وموالياً لإسرائيل في الوقت ذاته. فلقد أسدت إليه الدولة اليهودية تكريماً عظيماً إذ أشارت إليه بوصفه ولي نعمتها الأكبر منذ نشأتها. ففي خمس سنوات، قدم نيكسون إلى إسرائيل مساعدة متعددة الأشكال، لا سيما مالياً وعسكرياً، بصورة تفوق بمراحل المساعدات المقدمة من قبل أسلافه مجتمعين.
لكن يبقى أن نيكسون كان مقتنعاً أصلاً بأن العرب لن يقبلوا أن يتولى يهوديٌّ الملفَ الإسرائيلي. لكنه كان مخطأً خطأً جسيماً، مثلما اكتشفتُ أثناء مروري بواشنطن قبل اندلاع حرب أكتوبر بشهر واحد، إذ أخبرني مسؤول كبير في البيت الأبيض أن مبعوثين عرباً قد توافدوا تباعاً على الرئيس طلباً لإسناد مهمة تسوية النزاع في الشرق الأدنى إلى كيسنجر. فقد كانوا يرون فيه دبلوماسياً ذكياً، نجح في التقريب بين الولايات المتحدة والصين، وفي إنهاء حرب فيتنام.
لكنهم، على نحو عجيب، لم يؤاخذوه على مئات الآلاف من القتلى الذين سقطوا في الهند الصينية وفي كمبوديا أثناء عمليات القصف المكثفة التي كان هو أحد مخططيها. بل إن المفارقة هي أنهم كانوا يرون أن مزيته الكبرى هي أصوله اليهودية. فقد وفر في اعتقادهم أنه سيكون أكثر حرصاً من غيره على إثبات حياديته. فضلاً عن ذلك، كان يضمن الانتفاع بالدعم غير المشروط للطائفة اليهودية القوية في الولايات المتحدة. وعلى عكس المتوقع، كان الإسرائيليون أقل حماسة، لتخوّفهم من شغفه بمذهب الواقعية السياسية، ومن تحليلاته المبنية أساساً على توازنات القوى، والمفتقرة إلى أي اعتبارات عاطفية.
بالفعل، كان هنري كيسنجر يدافع، قبل كل شيء، عن مصالح بلاده بالتبني، كما كان أحد أهم صناع الهيمنة الأميركية على المنطقة. وكان الحليف الإسرائيلي يعد على نحو ما المستفيد الإضافي من دبلوماسيته، لمَّا كان يخلط بين مصالح واشنطن والقدس، لا سيما انه كان يأخذ في اعتباره السطوة التي يمارسها «اللوبي اليهودي» وحلفاؤه على الساحة السياسية الأميركية. وقد أقر كيسنجر بذلك في سيرته الذاتية بلا مواربة، إذ كتب: «تؤثر إسرائيل على قراراتنا بما تمارسه من ضغوط ذكية ومستمرة. هي ليست دائماً بالضغوط الخفية أو الحذرة، لكنها تسهم في تشكيل سياستنا الداخلية». وقد انتهى إلى أن إسرائيل تخدم رغم كل شيء مصالح واشنطن، ولم يكن مجافياً للصواب في ذلك.

الخديعة

كان سيد الدبلوماسية الأميركية نتاجاً للحرب الباردة التي حددت رؤيته للشؤون الدولية. فقد كان مقصده الأساسي هو التصدي للنفوذ السوفياتي في الشرق الأدنى. وقد كتب انه منذ بداية حرب أكتوبر، انشغل في مناورات في مجلس الأمن لكي يمنع إسرائيل من إحراز نصر كامل «من شأنه إثارة غضبة العالم العربي وتهيئة المزيد من التدخلات السوفياتية». فقد عمل على أن يحرز الجيشان المصري والسوري نجاحاً محدوداً، راجياً بذلك كسب ود العرب، بمن فيهم الأكثر «راديكالية» الذين كان يأمل أن يبتعدوا عن موسكو. وقد وصل إلى غاياته بسهولة مع مصر التي كانت تتحين الفرصة للتحول إلى المعسكر الأميركي. فقد انضم الرئيس السادات بحماسة إلى مساعي كيسنجر الدبلوماسية، الذي أشار إليه عن طيب خاطر بوصفه «أخ» له. كما دعا الشعوب العربية إلى الوثوق بأميركا التي تمتلك، على حد ما ردد مراراً وتكراراً، «99% من أوراق اللعبة»، من أجل تحقيق «سلام عادل». ولقد ردَّ إليه كيسنجر التحية مضاعفةً مائة ضعف. فلم يفتأ يُثني عليه واصفاً إياه «برجل الدولة واسع الأفق»، «الرؤيوي»، بل «النبي»، مع انه الرجل نفسه الذي كان يصفه عشية الحرب بالـ«مهرج» الذي يلعب دور «طرزان». وإذ لم يكن يتورع عن التذرع بالأكاذيب، فقد غض الطرف عما عُرف عن رئيس الدولة المصرية من ماضٍ موالٍ للنازية، كي يسدي تكريماً مؤثراً لـ«الماضي الثوري لرجل كان يناضل من أجل استقلال بلده، متجشماً في ذلك عذابات بالغة داخل السجون»، بل إنه قد قارن ذلك الإرهابي القديم بالفرعون أخناتون، الذي حاول أن يُقر على ضفاف النيل عبادة الإله الواحد قبل ألف عام من بزوغ نجم التوحيد في عالمنا. كما كتب أيضاً عنه في مذكراته: «إن أنور السادات لجدير بالخلود(…)، وستكون قضية السلام هرمه المشيد».
كان هنري كيسنجر يخدع العالم من حوله، إذ أوحى للجميع بأنه سيتوصل إلى إحراز تسوية مرضية لكلا المعسكرين المتخاصمين. فقد أقنع العرب بأنهم سينتهون إلى استعادة أراضيهم المحتلة، على أثر مفاوضات متعددة الأطراف، مثلما كانوا يأملون. وإثباتاً لحسن نواياه، تشارك مع الاتحاد السوفياتي في الدعوة إلى «مؤتمر للسلام»، بعد انتهاء الحرب بشهرين. وقد توصل إلى التغلب على معارضة إسرائيل، بأن أكَّد لها على أن الاجتماع سيكون مجرد اجتماع شكلي، بينما سيتم البحث في المسائل الجوهرية لاحقاً في مفاوضات ثنائية، مستبعداً بذلك الأمم المتحدة، والاتحاد السوفياتي، اللذين يعتبران معاديين للدولة اليهودية. وقد وفى بوعده بأن أجَّل إلى أجل غير مسمى المؤتمر عقب انتهاء الجلسة الافتتاحية. وهكذا مات مؤتمر السلام في يوم مولده.
للوهلة الأولى، أعترفُ بأنني قد خدعتني المظاهر، لفرط ما كانت مبهجة. فللمرة الأولى في تاريخ النزاع، جمع مؤتمر واحد جميع الأطراف المتحاربة لوضع حد نهائي لنزاعهم، وذلك تحت رعاية القوتين العظميين. من ذا الذي كان ليظن وقتها أن الاتحاد السوفياتي سيكون، من دون أن يدري بالطبع، طرفاً ضامناً لمبادرة خادعة تذر الرماد في العيون؟
تبعاً للمتفق عليه، أخذ كلٌ من الحاضرين الكلمة، الواحد تلو الآخر. وألقى هنري كيسنجر خطاباً قصيراً تألق بما فيه من غموض محسوب بدقة متناهية. وكما هو مُنتظر أيضاً، أيد أندريه غروميكو (Andreï Gromyko)، وزير الخارجية السوفياتي، أطروحات البلدان العربية، لكنه في المقابل، طالبهم بالاعتراف بحق إسرائيل في السيادة الوطنية داخل حدودها السابقة على توسعاتها. وفي غياب مؤقت لسوريا، وغياب نهائي لمنظمة التحرير الفلسطينية، المُستبعدة بناءً على طلب إسرائيل، عرض الوزيران المصري والأردني المطالب المعتادة لمعسكرهما. أما أبا إيبان (Abba Eban)، وزير الخارجية الإسرائيلي، فقد أصر على تأكيد حق إسرائيل في التحصُّن ضمن حدود يمكن الدفاع عنها، وحقها في ضم القدس «العاصمة الأبدية» للدولة اليهودية. إضافةً إلى ذلك، عارض بحزم فكرة إقامة دولة فلسطينية. أما إحدى علامات الساعة التي تجلت في ذلك اليوم، فهي تبادل وزيرَيْ الخارجية الإسرائيلي والسوفياتي مصافحة حارة. كما اجتمعا في اليوم التالي، بهدف إعادة العلاقات الدبلوماسية بين بلديهما إلى نصابها، بعد انقطاعها في أعقاب حرب 1967.

سياسة اخضاع العرب بالسلام

وقد حقق كيسنجر هدفه الرئيسي بالحصول على موافقة المشاركين على دبلوماسيته التي عُرفت بسياسة «الخطوة خطوة»، باتجاه ما سُمي بـ«عملية السلام» التي لم يُكتب لها أن تنجح قط. وها هو يعترف في مذكراته أن الأمر كله كان مجرد حيلة «لكسب الوقت»، إذ لم تكن الولايات المتحدة قادرة، بحسبه، على إقناع إسرائيل بالانسحاب من الأراضي المحتلة. وقد أتاح ذلك الإبقاء على الوضع الراهن للدولة العبرية وإحكام قبضتها على الأراضي العربية.
وبعيداً عن النزاع، وأيضاً بفضل النزاع، نجح كيسنجر في استخدام «عملية السلام» لبسط سيادة الولايات المتحدة على العالم العربي، الذي صار منذ ذلك الوقت تابعاً لأميركا لإقرار السلام في المنطقة. كما توصل كيسنجر إلى إعادة العلاقات الديبلوماسية مع مصر وسوريا، بعد انقطاعها منذ حرب الأيام الستة. وقد كانت الدول العربية المحافظة أول المنضمين إلى دبلوماسيته. وقد أسر إليه وزير خارجية المملكة العربية السعودية، عمر السقاف، بأن بلاده تعترف بحق إسرائيل في الوجود السيادي، وظناً منه بانه يرضيه، ذكره بأن «اليهود والمسلمين هم أخوة ساميون». أما عاهل البلاد، الملك فيصل، فقد حرص على تحذير كيسنجر من «المؤامرة اليهودية البلشفية» التي تتهدد العالم بأسره.
كان الأمر يستلزم أكثر من ذلك للتأثير في كيسنجر، وهو الذي أسدى في مذكراته تكريماً عظيماً للملك، فقد رأى فيه إنساناً «نزيهاً، وجديراً بأسمى درجات الاحترام، حاد الذهن دقيق الفهم، رجلاً يزن كلماته بحكمة وضمير». وهو أمر طبيعي، وهو من جعل من الرياض حليفة دائمة لواشنطن. لكن مسار الأمور كان مغايراً في حالتي. فبعد أن لمّحتُ في إحدى مقالاتي في صحيفة «لوموند» (Monde Le) إلى معاداة الملك فيصل للسامية، تم منعي من دخول المملكة العربية السعودية لعدة سنوات.
كما أعرب وزير الخارجية الأميركية عن سعادته أيضاً بعلاقاته الطيبة مع «الراديكالي» و«الموالي للسوفيات»، حافظ الأسد، الرئيس (والديكتاتور) السوري. كان ذلك الأخير يستمتع كل المتعة ـ بحسب كيسنجر ـ بالقصص اليهودية التي كان يقصها عليه. بل إنه كان يثق فيه كل الثقة. وقد صرح الرجل، الذي كانت غولدا مائير تتهمه بالرغبة في «تدمير الدولة اليهودية»، إلى صحافي أميركي قائلاً: «إن العتب الوحيد الذي أوجهه إلى سياسة كيسنجر المعروفة باسم سياسة الخطوة خطوة هو أنها تطَبَق بسرعة السلحفاة فيما أتمنى أن تتقدم بخطى عملاق». والحقيقة أن الرئيس السوري كان يعرب بذلك عن خيبة أمله بعد سنواتٍ ثلاثٍ طوال من الركود على طريق السلام الموعود.
ولم يكن الأوروبيون، ولا الاتحاد السوفياتي، لينخدعوا بشهر العسل العربي الأميركي، الذي عمل على تهميشهم في الشرق الأوسط. فلقد قام الأعضاء التسعة في الاتحاد الأوروبي، وعلى رأسهم فرنسا جورج بومبيدو، بتوجيه اللوم إلى الولايات المتحدة على إسهامها، بفرط تساهلها مع إسرائيل، في اندلاع حرب أكتوبر. وقد «فزعوا»، بحسب اللفظة التي استخدمها كيسنجر، حين فرض العرب حظراً على النفط ورفعوا سعر الخام إلى ما يعادل أربعة أضعاف. وكان ميشال چوبير (Michel Jobert)، وزير الخارجية الفرنسي، مقتنعاً بأن كيسنجر كان سعيداً بهذا الإجراء الذي يخص الولايات المتحدة بامتياز على حساب أوروبا، التي تعتمد بقوة على النفط العربي. بل إنه كان يشتبه في قيامه بالتخطيط له عن بعد!

كيسنجر يعاقب أوروبا

فبينما كانت الولايات المتحدة لا تستورد سوى 3 % من احتياجاتها من الطاقة من الشرق الأوسط، كان 80 % من استهلاك الدول التسع الأعضاء في الاتحاد الاقتصادي الأوروبي تقدمه الدول العربية. وقد تعرض اقتصاد أوروبا، الذي ضربته بمنتهى القوة زيادة سعر البرميل، إلى التآكل بفعل التضخم المتفاقم، والركود الذي خلّف ملايين العاطلين عن العمل. للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية، سجلت الدول الأعضاء في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (O.C.D.E) معدل نمو يساوي صفرا. وعلى النقيض، شهدت الصناعات الأميركية رخاءً غير مسبوق بفضل المنتجات التنافسية على وجه الخصوص، وبفضل التدفق العظيم الوفرة للبترودولارات القادمة من الدول المنتجة للذهب الأسود. ففي الواقع، في غضون أعوام ثلاثة، قفزت أرباح «أمراء» النفط العرب من ثمانية مليارات دولار إلى سبعين مليارا، كان الجزء الأوفر منها يسلك الطريق إلى واشنطن، وصناعاتها وبنوكها.
وإذ استبد بها العجز، انتقدت أوروبا إسرائيل، واتهمتها بأن تعنتها هو ما أشعل أزمة النفط. وقد دعت القارة القديمة إلى انسحاب الدولة العبرية إلى حدود 1967، فيما أعرب ميشال چوبير باسم شركائه، عن اتهامه لحكومة القدس «بالحيلولة بانتظام دون إقرار السلام». كما تم فتح «حوار أوروبي عربي»للعمل على معادلة ثقل السياسة الأميركية في المنطقة». وقد كان رد فعل كيسنجر هو التنديد بـ«الضعف الحقير» الذي أبداه الأوروبيون الذين «يدعمون نزوع العرب نحو الحرب». هكذا تم إنزال «العقاب» بالأوروبيين بجعلهم مجرد متفرجين في مؤتمر چنيڤ.
وإن كان «المنتصرون الحقيقيون في حرب أكتوبر ليسوا الإسرائيليين، ولا العرب، بل الولايات المتحدة»، كما أكد ميشال چوبير، فقد أحدث النزاع تحولات مستدامة في المنطقة. ففي إسرائيل، بدأ حزب العمل الحاكم منذ نشأة الدولة، الذي اعتُبر مسؤولاً عن «الزلزال»، رحلة أفوله الطويلة التي ستؤول به إلى حال مزعزَعة. فخسر مقاعد في الانتخابات بعد شهرين من وقف إطلاق النار، فيما بدأ الليكود، ذلك الحزب القومي المتطرف، رحلة صعود لا راد لها. وبعد أقل من أربعة أعوام منذ توقف الحرب، حصل حزب مناحيم بيغن، للمرة الأولى في تاريخه، على الأغلبية النسبية في البرلمان، وتولى رئاسة الحكومة. ليسيطر بذلك اليمين التوسعي على المجتمع الإسرائيلي طوال العقود التالية.
وبتحريض من السادات، وغيره، تحول العالم العربي ليصبح تحت إمرة المحافظين. مع ذلك، كان الرأي العام يشعر بأنه استرد كرامته. إذ أدت الانتصارات الأولى للجيشين المصري والسوري إلى محو الإهانات التي خلفتها هزائم الماضي المتكررة. ولم يعد تدمير إسرائيل سوى أسطورة عفا عليها الزمن. وباتت كلمة السلام، التي كانت حتى ذلك الوقت مرادفة للاستسلام، كلمة مدرجة في معجم غالبية البلدان العربية. وتبنت سوريا، بعد مصر والأردن بوقت طويل، قرارَي مجلس الأمن رقم 242 و338، اللذين يؤكدان من جهة حق إسرائيل في الوجود، ومن جهة أخرى، مشروع المؤتمر المزمع عقده بهدف إنهاء النزاع.
أثناء تواجدي في دمشق، لاحظتُ، بشيء من الاستغراب، أن السوريين الذين عُرفوا براديكاليتهم، صاروا يتكلمون بحرية عن تطبيع علاقاتهم بإسرائيل. رغم ذلك، ظل مطلب المحاربين العرب ثابتاً لا يتغير، ألا وهو استعادة الأراضي المحتلة. لكن كانت ليبيا إحدى الدول العربية النادرة التي وقفت ضد هؤلاء «الانهزاميين الجبناء» بالدعوة إلى مواصلة الكفاح المسلح. في طرابلس، استقبلني العقيد القذافي ذات مساء في وجود جميع أعضاء حكومته، المجتمعين للإفطار بعد صيام يوم من أيام رمضان. كان «قائد الثورة» هو الوحيد الذي يجلس على مقعد، بزيه الكاكي، وحذائه الجلدي المرن ذي الرقبة، فيما أحاط به رفاقه، وقد افترشوا الأرض، وراحوا يحتسون الشاي. وإذ كان غاضباً، انطلق العقيد في ذم مطول لأنور السادات، ناعتاً إياه بالـ«جاسوس المأجور لألمانيا النازية»، و«الإرهابي»، و«شريك «الإخوان المسلمين» الضالعين في اعتداءات دامية»، و«ألعوبة» القوى الإمبريالية، وبخاصة الولايات المتحدة والاتحاد السوڤياتي. وكان ذلك أوان القطيعة بين طرابلس والقاهرة، إذ رد السادات بدوره على نظيره الليبي، ناعتاً إياه بأنه «مصاب بجنون العظمة»، و«مريض عقلي».
مع ذلك، ما لبثت أن تبددت أوهام المصريين والسوريين تدريجياً في ما يتعلق بفاعلية وساطة هنري كيسنجر. وقد كرس هذا الأخير مئات الصفحات في مذكراته ليسرد أدق التفاصيل المتعلقة بـ«دبلوماسيته المكوكية»، التي نجد صعوبة في إدراك سبب افتخاره بها لهذه الدرجة. فقد كان عليه الارتحال عشرات المرات إلى عواصم المنطقة لتحصيل نتائج بدت شديدة التواضع في أعين المنتفعين بها، وهو ما يتلخص في انسحاب طفيف للقوات المسلحة من الجانبين على الحدود المصرية والحدود السورية.
رغم ذلك، نجده سعيداً بنجاحه، في يونيو 1975، في إقناع الرئيس السادات بإعادة فتح قناة السويس أمام الملاحة الدولية ووضع حد لحالة الحرب. وهو بذلك يكون قد حرم الرئيس المصري من ورقة الضغط الأخيرة التي كانت في حوزته، أي قدرته المحتملة على استئناف الأعمال الحربية.
وقد ظن السادات أن هذا التنازل الأخير سيقود بالضرورة إلى السلام، لكنه أدرك في النهاية انه قد تعرض مرة أخرى للاحتيال. طوال أعوام أربعة، أثناء رئاستين متعاقبتين لكل من ريتشارد نيكسون وجيمي كارتر، ورغم حسن نوايا الأخير، راح السادات يدرك، بكثير من المرارة، أن العجز الأميركي عن ممارسة الضغط على إسرائيل إنما هو حقيقة واقعة. وفي انتظار ما لا يأتي، راح السخط الشعبي يزأر في أرجاء البلاد، مهدداً بالعصف بأركان نظامه.

(انتهــى)

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى