الحديثُ هنا عن كتاب فواز طرابلسي الجديد، «زمن اليسار الجديد»، الصادر عن دار رياض نجيب الريّس. يُنوِّه طرابلسي بأن فؤاد شهاب أولى المسألة الاجتماعيّة الاهتمام اللازم بعد حوادث 1958 (ص. 81).
لكن أرى أن هذا الإيلاء لم يكن بدافع إنساني خيري، بل لأن شهاب (مستعيناً بخبراء الرجل الأبيض الذي حبَّذَ الاستعانة بهم) أراد حماية النظام الرأسمالي الطائفي من الانهيار. لكنه لم يترك المسألة الطائفيّة جانباً، بل واظب على حماية الامتيازات المارونيّة بنفس حماسة خلفائه وأسلافه. يقارن طرابلسي بين إعادة إعمار لبنان بعد 1958 ومشروع الحريريّة بعد الطائف. يقول إن المشروع الأخير عوّلَ على قدوم سلام عربي-إسرائيلي. لم يكن نظام شهاب ليمانع ذلك لو أنه تمتّعَ بحماية النظام الناصري لسلام مع إسرائيل. الحريري اعتمد في تعويله على السلام العربي-الإسرائيلي على مؤازرة النظام السوري الذي غطّى له حلمه التطبيعي. طبعاً، طرابلسي على حق في أن الحريري ورفاقه من كل الطوائف قضوا على نظام الأمن الاجتماعي الذي استحدثه فؤاد شهاب (حمايةً للنظام). يتساءل طرابلسي عن قدرة النظام الطائفي على الديمومة في حال إكمال برامج العدل الاجتماعي. لكنّ الجواب يحتاج إلى النظر إلى نظام الشهابيّة، في عهديْن: لم يقضِ على زعماء الطوائف بل فضّل زعماء على آخرين، وهو مسؤول، أكثر من غيره، عن رفع مرتبة بيار الجميّل وذلك نكايةً بريمون إده، عدوّ شهاب اللدود.
يتذكّر طرابلسي أجواء حرب 1967 في الجامعة الأميركيّة والتظاهرات أمام السفارة الأميركيّة. ويروي مشهداً طريفاً: فؤاد السنيورة وهو يرمي قنابل مولوتوف على السفارة. لكنّ السنيورة عوّض في سنواته في الحكم عن خطيئته تلك، واستقبله بوش وربّتَ على كتفه في البيت الأبيض في مشهد أثلج صدر القومي العربي الذي لم يحتج يوماً إلى فحص دم، مثله مثل قادة الجبهة اللبنانيّة. أصدرت مجموعة «لبنان الاشتراكي» بياناً باسم «اشتراكيّون لبنانيّون» واتهمت فيه الجيش بـ«حماية مكاتب شركات النفط بدل أن يشارك في المعركة الوطنيّة على الحدود» (ص. 86). لكن الذي يقرأ عن مناقشات وقراءات المجموعة يتعجّب أن الهمّ العسكري لم يشغلهم. صحيح أن دولة ما قبل الحرب الأهليّة كانت دولة بوليسيّة (في عهد المكتب الثاني وفي عهد سليمان فرنجيّة)، والبيان المذكور أدّى إلى حملة ضد الأعضاء، تعرّض أعضاء للاعتقال والتحقيق (بمن فيهم طرابلسي الذي نال «فلقة» في «الزمن الجميل») فيما تعرّض البعض الآخر للتعذيب (يتحدّث المؤلّف عن رفيق له فيقول: «طرحوه أرضاً وضربوه وداسوه بالجزَم ثم صبّوا عليه الكاز وهدّدوا بحرقه»، ص. 87)، لكن هموم المجموعة كانت نظريّة وتحليليّة للغاية على عكس المجموعات اليساريّة الثوريّة التي نبتت في أوائل السبعينيّات والتي كان همّها الأساسي حماية المخيّمات الفلسطينيّة وشنّ عرب عصابات ضد قوى السلطة ورأس المال. واعتقل النظام آنذاك جنوداً وضبّاطاً لأنهم اعترضوا على عدم مشاركة الجيش في حرب 1967. لم يشذّ التنظيم عن مسار حركة القوميّين العرب، وسادت أولويّة بناء الحزب الماركسي اللينيني، لكن ماذا تفعل عندما تنتشر الأحزاب الماركسيّة اللينينيّة كالفطر، ويُخوِّن أحدها الآخر، ويقول باعتزاز (نقلاً عن لينين): إذا وُجدَ حزبان ماركسيّان في بلد ما، فأحدهما حتماً انتهازي. أذكر كيف كانت الأحزاب الماركسيّة الصغيرة في بيروت تقول ذلك عن كل الأحزاب الأخرى، بالجملة.
التقرير الذي صدر عن المجموعة بعد الحرب قرّر دعم الفدائيّين وتأمين المأوى والملجأ والغذاء لهم، لكنه لم يقرّر المشاركة في القتال. في هذا لم يختلف الحزب اليساري الجديد عن الحزب الشيوعي التقليدي. «فضّل التقرير ضرب الحكم الرجعي في الداخل لأنه عائق أمام العمل الفدائي» (ص. 89). لكن كيف تضرب السلطة من دون تسلّح وتدريب؟ من الواضح أن المجموعة ارتأت ما ارتأته قوى اليسار التقليدي في حينه: أن تعتمد على المقاومة الفلسطينيّة كي تحمل السلاح من أجل الثورة وبالنيابة عن القوى اللبنانيّة التي لم تكن تريد خوض غمار الكفاح المسلّح. الغريب بالنسبة إلى جيلي (الذي تلا جيل فوّاز ورفاقه) أن التجذّر النظري لم تكن له ترجمة في التجذّر العملي على الأرض. يعترف طرابلسي بذلك ويقول إن «المهمات (كانت) جداً متواضعة: تنظيم تظاهرات…وبثّ الوعي في الجنوب…وإطلاق حريّة العمل الفدائي». كيف كان تسليح وتدريب ميليشيات «الكتائب» و«الأحرار» (وكان ذلك علنيّاً وكانت الصحف تنشر عنه تحقيقات مصوّرة) لم يستدعِ ردّة فعل (غير ردة الفعل اللفظيّة) من قبل القوى الوطنيّة والتقدميّة؟ والاختلال في ميزان الإعداد العسكري كان سيؤدّي إلى هزيمة ماحقة في حرب الفنادق لولا أن المقاومة الفلسطينيّة سارعت إلى إنقاذ القوى الوطنيّة بعد أن كانت قوى اليمين في طريقها لاحتلال منطقة الحمراء ورأس بيروت. يستشهد المؤلّف في هذا الصدد بمقالة لوضّاح شرارة كان واضحاً فيها استبعاد الخيار العسكري لانشغال الناس بـ«تحصيل معاشهم» (ص. 91). ونشرة «لبنان الاشتراكي» كانت واضحة في استبعاد تعميم نموذج الكفاح المسلّح في لبنان (ص. 93). لكن الخلفيّة الطبقيّة (غير الفقيرة والكادحة) لأعضاء المجموعة قد تفسّر الامتناع عن خوض غمار الكفاح المسلّح. كان المقاتلون في الأحزاب الشيوعيّة الثوريّة التي رفعت شعار الكفاح المسلّح من خلفيّات طبقيّة كادحة، وجنوبيّة شيعيّة في الغالب، وظلّ ذلك الطابع حتى في الثمانينيّات من خلال دراسة للحزب الشيوعي عن شهدائه في حينه. شذّ عن ذلك أفراد في «المنظمة الشيوعيّة العربيّة» لكنّ المنظمة خاضت تجربة مختلفة من انتهاج العنف السياسي.
في تلك الفترة، بدأت مسيرة الاندماج التنظيمي بين «لبنان الاشتراكي» و«منظمة الاشتراكيّين اللبنانيّين» في حركة القوميّين العرب. وكان المؤلّف باشر التواصل مع نايف حواتمة ومحمد كشلي (الأخير أسّس دار نشر «ابن خلدون» وأصبح في عهد رفيق الحريري المستشار الخاص لشؤون قمع الحركة العمّاليّة). «لبنان الاشتراكي» لم توافق على تبرئة عبد الناصر من مسؤوليّة الهزيمة كما فعلت الحركة، لكن ذلك لم يحل دون اندماج التنظيميْن في صف حزب جديد، أي منظمة العمل الشيوعي.
يصف طرابلسي بدقّة الحالة بعد الهزيمة وهو على حقّ في أن الحقبة السعوديّة بدأت آنذاك (ص. 94)، أي قبل موت جمال عبد الناصر. كان عبد الناصر مثخناً وليس في وضع الالتزام بتقسيمه النظام العربي إلى معسكر رجعي وتقدّمي بسبب حاجته الماسّة إلى المال النفطي لإعادة بناء القوات المسلّحة. ويتحدّث طرابلسي عن تصالح بين الحركات القوميّة والشيوعيّين، لكن ذلك ينطبق على حركة القوميّين العرب فقط، لأنها اختارت التحوّل نحو بناء التنظيم الشيوعي ونبذت قوميّتها. العلاقة بين «البعث» والشيوعيّين، مثلاً، لم تتحسّن أبداً والحزب الشيوعي (الرسمي) رضخ لحكم «البعث» في سوريا والعراق وأطاعه، لكن ذلك لم يحمِ الحزب الشيوعي في حالة العراق، ولم يحمِ التنظيمات الشيوعيّة الأخرى في حالة سوريا.
لكنّ التحوّلات من حركة القوميّين العرب إلى تنظيمات ماركسيّة لم تكن سهلة أو سلسة. «الجبهة الشعبيّة»، وحدَها، ولّدت انشقاقات «الجبهة الديموقراطيّة» و«الجبهة الشعبيّة-القيادة العامّة»، و«الجبهة الشعبيّة-العمليّات الخارجيّة»، و«الجبهة الشعبيّة (الثوريّة) لتحرير فلسطين». وأسهم بعثيّون سابقون في إنشاء «لبنان الاشتراكي» في لبنان، وفي تأسيس «المنظمة الاشتراكيّة الشعبيّة الفلسطينيّة» و«المنظمة العماليّة الثوريّة» بقيادة قيس السامرائي ورفاقه في العراق (ص. 97). حتى الأنظمة أدركت جاذبيّة الشعارات الثوريّة وتنظيم الفدائيّين. نظام صلاح جديد كان من أنصار حرب التحرير الشعبيّة ولهذا أسّس منظمة «الصاعقة» (أطلقوا عليها لقب «السارقة» بعد ارتكابها لسرقات كبرى في منازل أثرياء منطقة القنطاري). وكل التنظيمات اتفقت على الكفاح المسلّح لكن اختلفت حول الباقي. وطرابلسي يلاحظ عجالة و«سلق» اعتناق الماركسيّة اللينينيّة من قبل القوميّين السابقين ويقول إن ذلك أدّى إلى «سهولة الانفكاك من التزام الماركسيّة والارتداد عليها». ليت المؤلّف توسّع في هذه الفكرة لأنها تساهم في فهم ارتداد الكثير من قادة وأعضاء منظمة العمل الشيوعي، خصوصاً أن القادة المؤسّسين كانوا من الذين أمعنوا في دراسة ونشر الفكر الماركسي منذ الستينيّات.
الحزب الشيوعي اللبناني تجاوب هو الآخر مع التحوّلات الكبرى وعقد مؤتمره الثاني في عام 1968 والذي حسم فيه موقفه من القضيّة الفلسطينيّة. لكنّ انتهاج الكفاح المسلّح لتحرير فلسطين لم يكن برنامج عمل له. يقول المؤلّف إن «منظمة أنصار» لم تعمِّر طويلاً، ومشروع تشكيل الحرس الشعبي للدفاع عن الجنوب لم يكن جاداً. أمّا عن «الحركة الثوريّة الاشتراكيّة اللبنانيّة» وعمليّة «بنك أوف أميركا» في عام 1973، فيقول المؤّلف عنها: «أخذنا موقف الإدانة القويّة للقمع الدموي لأجهزة السلطة على صفحات «الحريّة»» (ص. وص٩٨). وفي كتابه المرجعي، «26 ساعة، بنك أوف اميركا»، يروي عباس الحسيني أن جبهة الأحزاب والقوى الوطنيّة والتقدميّة تنصّلت من العمليّة وأدانتها. موقف الحزب الشيوعي ضد المجموعة كان قاسياً ووصفها بالإرهاب (جوزيف سماحة أدان تلك العمليّات في ما بعد في «السفير»). لم يعترض على بيان القوى الوطنيّة والتقدميّة إلا منظمة العمل الشيوعي وحزب العمل الاشتراكي العربي-لبنان. وذهب البيان بعيداً في اتهام العمليّة بأنها توطئة «لإنزال أميركي» (ص. 12 من كتاب الحسيني). أمّا «النداء»، فقد اعتبرت العمليّة «محاولة رجعيّة فاشلة للتحريض على القوى التقدميّة». وحزب البعث الموالي للنظام السوري اعتبر العمليّة «خطة عمل إرهابيّة». لم يدافع عن «الحركة» إلا حزب البعث الموالي للنظام العراقي في بيان من صياغة موسى شعيب (الذي عرف علي شعيب عن كثب)، وبيان آخر لـ«الخلايا العماليّة الثوريّة» من صياغة روجيه نبعة. وأصرّت جريدة «الحياة» يومها على أن منظمة العمل الشيوعي هي وراء العمليّة، ما زاد من تنصّل المنظمة منها.
تعرّض طرابلسي للنقد الثقافوي الذي مثّله أدونيس وصادق جلال العظم بعد الهزيمة في عام 1967. لكنّ طرابلسي يعبّر، عن حق، عن تقدير أكبر لنقد ياسين الحافظ. الأخير لم يذمّ الجيوش العربيّة ولم يقدِّس العمل الفدائي على أنه المُخلّص الوحيد بل بقيَ يعوّل على الجيوش العربية من دون أن يقصّر في نقد النظام الناصري. يرى الحافظ أن صيرورة حرب العصابات يكمن في تحوّلها إلى حرب جيوش نظاميّة. والحافظ، خلافاً للنزعة اليساريّة التي نفرت من القوميّة، «دارَ… دورته الطبقيّة الكاملة ليعود إلى موقف قومي عن وحدة الأمّة وحشد طاقاتها» (ص. 104). وفي نقده للحافظ، يوحي طرابلسي بأن تشخيصه للتقدّم في المجتمع الإسرائيلي يساوي على الأرجح بين التقدّم والعنصر الغربي (ص. 105). وهنا يستفيض طرابلسي في شرح الهزيمة العسكريّة في عام 1967. لكنّ سرديّة طرابلسي تعتمد حصراً على رواية المؤرّخ خالد فهمي (الشديد الانحياز ضد عبد الناصر، ويأخذ عليه أن الشعب المصري شعر باليتم بعده). كان على طرابلسي الاستعانة برواية شاملة وموثوقة لحازم قنديل في كتابه «جواسيس وجنود ورجال دولة: طريق مصر نحو الانتفاض». قنديل لا يقول بصراع قوى بين عبد الناصر وعامر، بل يقول إن عبد الناصر لم يكن يمتلك أدوات الحكم العسكريّة والأمنيّة قبل 1967.
(يتبع)
صحيفة الأخبار اللبنانية