كتب

فورجاتش يوثق كيف جند النظام الشيوعي أمه في الحرب الباردة

تقوم أحداث هذه الرواية “أمي عميلة سرية” للروائي المجري أوندراش فورجاتش على أحداث حقيقية توثق لسيرة أسرته، حيث نشأت فكرتها عقب مكالمة تلقاها فورجاتش في خريف 2013 من باحث في أرشيف الشرطة السرية في بودابست كان صديق له في فترة ما من حياته.

حيث اكتشف بعد الاطلاع على الملفات السرية أن والديه ـ الأم والأب ـ تم تجنيدهما كعميلين سريين من قبل أجهزة مخابرات تابعة للنظام الشيوعي، وذلك في فترة الحرب الباردة، وينطلق هنا من حياة الأم كاشفا عن الكثير من التفاصيل الواقعية عن جاسوسيتها.

ويحكي بعد ذلك عن رحلته مع التقارير الخاصة بجاسوسية الأم وكيفية حصوله عليها، وذلك في محاولة لفهم ما جرى، وهو خلال ذلك لا يتخلى عن جماليات الكتابة حيث يستخدم أكثر من تقنية في سرده.

يحكي أوندراش فورجاتش الذي يعد واحدا من آخر مثقفي أوروبا الشرقية الذين تمت قراءتهم بشراسة، والذين نشأوا كمعارضين في ظل الشيوعية السوفيتية وتعلموا بعد ثورات عام 1989، موثقا حكيه بالتقارير التي حصل عليها للمسؤولين عن نشاطها: كيف جُندت أمه في فترة الحرب الباردة؟ وكيف كانت تكتب التقارير السرية عن كل مَن حولها؟ حتى عن “أبنائها”. أمهم التي كانت يهودية من أصل فلسطيني تناصر القضية الفلسطينية وتناهض دولة إسرائيل المحتلة. إذًا، فلماذا وافقت مثل تلك السيدة ذات المبادئ القوية على العمل لصالح النظام الشيوعي؟.

وافقت أمه،التي ولدت في تل أبيب وهاجرت إلى المجر رفضا للصهيونية، على العمل لصالح النظام لأنها كانت شيوعية مخلصة، ولأن زوجها الذي حمل الاسم الحركي “باباي” كان عميلًا قبلها، لكن عندما أصابه الخرف، كان لا بد وأن تحل مكانه.. فأصبحت “الزميلة السرية”. لكن، ما السبب في موافقتها على فعل هذا؟ هل لأنها شيوعية مخلصة، أم لأنها أرادت حماية أولادها، ولكنها كتبت تقارير عنهم بل وحاولت تجنيد أحدهم.

الرواية عنوانها الأصلي “أُغلق الملف”، ورُشحت لجائزة الأدب الأوروبي الهولندية في عام 2019. وهو عنوان يشير إلى تعبير استخدمته المخابرات السرية المجرية عندما يُغلق ملف أحد عملائهم بعد وفاته.

وقد شكل أوندراش لعقود عدة من معالم الحياة العامة المجرية. فهو مشهور ببراعته في الكتابة، والترجمة الأدبية، وأيضًا كفنان مسرحي له أهمية كبيرة.

ففي الفترة ما بين بداية السبعينيات ونهاية الثمانينيات كان هو وأخوته علامة مهمة في أدب وفن تلك الفترة.

قبل عدة سنوات من اكتشافه للحقيقة المؤلمة بأن أمه عميلة سرية (أو مخبرة) للنظام الشيوعي، نُشرت له رواية “زيهوز” وفيها يحكي عن أم ترسل خطابات لابنتها التي تعيش في بلد بعيدة عنها. بعد أن اكتشف حقيقة ماضي أمه، كان لزامًا عليه ككاتب وكابن أن يواجه حقيقة عائلته وماضيها، والذي تغيَّر تمامًا بعد هذا الاكتشاف الصادم.

مقتطف من الرواية

بعد انتهاء السادة الثلاثة من شَرح مهامها المُعَقَّدة القادمة، وبعد تسميعها للتفاصيل التي حفظتها على الفور عن ظهر قلب كتلميذةٍ نجيبة، مثبتةً بذلك ذاكرتها الخارقة التي تشهد عليها تقاريرها الأولى، وبعد أن قام “ميكلوس” بتكليف “يوزيف” بمتابعة المسألة مع السيدة “باباي”، وبعد أن لوّح “ميكلوس” – الأعلى رتبةً بين الحاضرين – للنادلة كي تجلب لهم الفاتورة.. بعد ذلك كلِّه، أعلنت السيدة “باباي” بصوتٍ حادٍ، لا يقلُّ في ارتفاعه عن أصوات المؤذنين في المساجد، اخترق أسماع الرجال الثلاثة فجأة:

– لا أظن أنه يجدر بي الاستمرار فيما أفعله بعد الآن.

تجمّد كل شيء حول الطاولة حتى الهواء، وأضافت السيدة “باباي” بالصوت المرتفع نفسه:

-وهذا لا يعني بأنني لا أتفق مع أهدافنا المشتركة.

 

PreviousNext

جلس الرجال الثلاثة بوجوهٍ واجمة، فيما اقتربت النادلة منهم بابتسامةٍ لطيفة، تحمل لهم فاتورة غالية بعض الشيء.

تصرّف “ميكلوس” كما اعتاد كمُقَدِّم شُرطة، إذ رفع سبابته لها في الهواء مُحَذِّرًا، فتوقفت من فورها. فكّر للحظة أن يطلب منها العودة مرة أخرى بعد بعض الوقت، لكنه أدرك أن ذلك سيلفت الأنظار، وهو ما تحرص جميع القوانين المتعلقة بعملهم على اجتنابه. حتى هذه اللحظة، لم تكن الصُحبة المرحة، في هذه الساعة المُبكرة من الظهيرة داخل مخبز “أنجيليكا”، قد جذبت انتباه أيًّا من الزبائن، والذين كانوا خليطًا من موظفي المكاتب القريبة، ممن اعتادوا المرور بالمخبز في منتصف النهار لتناول بعض القهوة أو البيرة، وبعض العشاق الذين احتلوا المقاعد الجانبية، وانهمك كل زوجٍ منهم في تأمل عينيْ الآخَر.

في تلك اللحظة، همس الرفيق “بيدر” بصوتٍ يقترب من الفحيح:

– لاحقًا!

أدركت السيدة “باباي” أن عليها التراجع، أرعبها التغيّر الرهيب الذي طرأ على ملامح “ميكلوس” التي تحجرت بغتةً، بينما تلاشى الود والدفء من نظراته. خُيِّل إليها أنها تسمع صوت صرير أسنانه، بعد أن لاحظت الطريقة التي يضغط بها فكَّيه على بعضهما. وكشيوعية صالحة، فهمت فورًا بأن عليها التزام الصمت، وتناسي القلق الذي يُشعرها بالاختناق منذ عام 1975.

بعد عودة النادلة أدراجها، نظر الرجال الثلاثة إلى السيدة “باباي” بقدرٍ كبيرٍ من القلق والترقب. قالت لهم:

-لقد التزمتُ حتى اللحظة بتنفيذ جميع المهام الصعبة التي قمتم بإسنادها إليَّ، كانت كثيرة جدا، حتى إنني لم أعد أتذكر عددها أساسا. رحّبتُ بها جميعا خدمة للديمقراطية الشعبية، وخلال ذلك تعيَّن عليَّ إهمال مشكلات شخصية هامة. في بعض الأحيان، توليت تقديم عدد من الاقتراحات المعيَّنة لكم، وفي كل مرة اكتفيتم بالتعليق بكلمة واحدة.. “رائع”، “شكرًا”، “ممتاز”، “مُتقَن”، “بديع”، “جيد”.. دون أن تفعلوا شيئًا ملموسًا.

هذه الأيام، لم أعد أشعر باهتمامكم بتاتًا، وكأنني لم أعد على قيد الحياة أصلًا، ما الذي يجعلني أشعر بقيمة ما أفعله، ما دمتُ أرى عدم تقديركم لي؟ أُقابَل منكم باهتمام زائف ومصطنعٍ طوال الوقت، ولكنكم متى ما احتجتم خدماتي، توقعتم أن أهرع لتنفيذها من فوري! ليست هذه طريقة التعامُل بين الرفاق.

في ظل هذه الظروف، لا أرى أيَّ معنى لعملي، والسبب الوحيد الذي يجعلني أواظب على الاستمرار فيه هو إحساسي بأن التعاون معكم سيؤدي لتحقيق أهدافنا المشتركة”.

حين انتهت السيدة “باباي” من إلقاء كلماتها الغاضبة، صمت السادة الثلاثة لبعض الوقت، وكأنهم تلاميذ صغار تعرضوا للتوبيخ، لم يكونوا مستعدّين لهذا الموقف، وليس من المعتاد أن يؤنب العملاء المجنَّدون رؤساءهم. تولَّى “ميكلوس” – الذي يمتلك رصيدا هائلا من الخِبرة – معالجة الأمر، فخاطبها بدبلوماسية:

– عزيزتي الرفيقة السيدة “باباي”..

أردف قائلًا:

– في الفترة الأخيرة تحديدا، كان لدينا واجبات وأعمال كثيرة جدًّا، لو كنتِ تقرأين الأخبار بتمعن، لأمكنكِ فهم المشكلات العديدة والمصاعب الجَمَّة التي تعيَّن علينا مجابهتها. في مثل هذه الظروف، يجب تفهم الأولويات التي ينبغي علينا…

لكن السيدة “باباي” لم تقتنع بهذه المبررات، ولذلك قاطعته بجرأة:

-تطلبون مني ترجمة مقالات لا تتفق على الإطلاق ووجهات نظري، وأعني بها تلك الأفكار الرجعية القذرة، والتي تسبِّب لي معاناة فظيعة حين أقرأها. أترجم بعضها حرفيا، كلمة كلمة، فأشعر بغثيان حقيقي. لعل أسوأ ما في الأمر هو أن لغتي الهنجارية ضعيفة بعض الشيء، ما يجعلني بحاجة للمساعدة، لكنني أحجم عن طلبها إلا من ابني فقط، لكن ليس بإمكاني استغلال وقته لصالحي على الدوام، والأهمُّ هو عدم رغبتي في إدخاله في هذه المسألة من الأساس.

كلما تكلمت وزاد انفعالها وغضبها، تناثرت الأخطاء النحوية هنا وهناك، تطايرت حروف بأكملها وتغيَّرت أفعال، وفي الحقيقة، استمتع السادة بالمشهد بأكمله. حين اعتذرت السيدة “باباي” في ختام حديثها، وشرحت بأن كتابة التقارير بيدها ليلًا هي العذاب بعينه، قاطعها “ميكلوس”:

– حسنًا، دعيني أصارحكِ إذا عزيزتي السيدة “باباي”، بأن تلك الأخطاء النحوية والصياغة الفقيرة بعض الشيء هي التي تمنح تقاريرك مصداقيتها. إنها تغييرٌ لطيفٌ ومُنعِش من الكلمات الرسمية الرصينة التي ينبغي عليَّ قراءتها يوميا. ما زلتُ أذكر تقريركِ الأول الذي قدمتِه لنا قبل ست سنوات، كان متميزا للغاية. تحدّثتِ فيه عن زيارتك لعائلتك، بصحبة ابنك، قطعة أدبية جميلة تنم عن عبقرية، كان أشبه بجوهرة. أتذكر وصفكِ لعودتكِ إلى الميناء في “يافا” لاستلام حقائبك. لم يكن التقرير موجها لي، بل للرفيق “ميرز” الذي حرص على جلبه لمكتبي، وقراءته عليَّ بصوت مرتفع، فأدركتُ منذ تلك اللحظة قدرتك الهائلة على الملاحظة. أخطاؤكِ اللُغوية ظريفة للغاية. أذكر أنكِ كتبتِ بأن عمال الميناء – عوضا عن إخراج حقائب الركاب – قاموا بالجلوس عليها في “كِرش” المركب، بدلًا من “بطن” المركب! وأن الشباب السائحين الأميركيين تعرّضوا للتفتيش “من الداخِل ومن الخارج” بدلًا من “تفتيش دقيق”! وأن تفتيشهم لكِ كان “شديد السطحية”.

أضاف “ميكلوس”، معترفًا:

– انفجرتُ حينها في الضحك، أسعدني ذلك التقرير يومها.

السيدة “باباي”، التي أصغت إليه عاقدة الحاجبين، قاطعته من جديد:

– حسنًا.. نعم.. أنا أفعل كل ما بوسعي، وأبذل قصارى جهدي، أكتب التقارير وأترجم المقالات، وأمنحكم الأولوية قبل أي شيء آخر في حياتي، وعلى الدوام. طالما واصلتُ فعل ذلك، فأنا رفيقة جيدة، ولكن إن طلبتُ شيئًا أُصبح فجأة جرذا حقيرا، أو مجرّد “جُوك” وضيع!

في خضم انفعالها، استخدمت كلمة عِبرية. نظر إليها الرفيق “بيدر” بحيرة بالغة، وسألها:

ـ “جُوك”؟

أجابته بصبرٍ نافد:

– صرصور.

استطردت السيدة “باباي”:

-والآن، تريدون مني اختصار مدة رحلتي القادمة. ما المقابل؟ أنتم لا تستمعون إلى تحذيراتي، ولا تلتفتون إلى أفكاري.

وجه مُقدِّم شرطة “ميكلوس بيدر” نظرات متواطئة للملازم “يوزيف دورا”، من مُصَدِّرٍ لمُتَلقٍّ. هذه فرصته لإثبات جدارته بتنفيذ المهمة، وتأكيد امتلاكه القدرة على مخاطبة الجانب النفسي في شخصية السيدة “باباي”، وتوجيهها لفعل ما يريد. تزايد إعجاب السادة الثلاثة بالمرأة التي تجلس بينهم، أعادها الانفعال شابَّةً من جديد.

قال “يوزيف” بصوت دافئ:

ـ عزيزتي الرفيقة السيدة “باباي”، إن هدفي هو إعادة الثقة بيننا ثانيةً، سعيتُ لإثبات ذلك بشتى الوسائل، خلال لقائنا هذا. أريد ثقة دائمة، تتجاوز العقبات الطارئة التي قد تتعرض لها علاقتنا بكِ. هدفنا واحد ومشترَك، وهو الصراع من أجل العدالة.

أشار بلباقةٍ، وبحرفية عالية، إلى المفرش المطرَّز بالرسوم الفلكلورية. صحيحٌ أنه لم يقم بشرائه من ماله الخاص، إلا إنهم ليسوا مُلزَمين بتقديم هديةٍ لـ”عملائهم السريين” من الأصل.

كان الرفيق “دورا” متيقنًا من أن السيدة “باباي” ستقوم بتقديم المفرش ذاته كهدية لأقاربها في “تل أبيب”، خلال الرحلة التي سيتولون هم دفع تكاليفها. إن أهداف الرحلة – وهي نفسها تعرف ذلك – تتجاوز قدراتها الفعلية. سوف تبذل قصارى جهدها، لكن فرصتها في الانضمام للمؤتمر العالمي الصهيوني تبقى ضئيلة جدًا.

في الحقيقة، أسعدها هذا التوقع، إذ أحست بالنفور من فكرة الاضطرار للاستماع إلى الأحاديث والخُطَب الوطنية الرنانة، كما أن الرحلة – في الوقت ذاته – ستمنحها فرصةً للقاء أقربائها الذين ستهديهم المفرش المطرَّز بالورود. تدركُ أن الهدية التي تمثل نموذجا لتراث شرق المجر، ستدخل البهجة على قلوبهم.

لا تشعر السيدة “باباي” بألفةٍ خاصة تجاه الأشياء والمقتنيات، ولا تتردد مطلقًا في التخلص منها عند أول فرصة، أو إخفائها في أيِّ ركن بعيد. منذ طفولتها المُبَكِّرة، تعلمت من أمها عدم التعلق بأيٍّ من ممتلكاتها. رغم أن الأسرة لم تكن تتمتع بالثراء، إلا إن الأم كانت تحرص على دعوة أطفال الشارع لبيتها، لتقدّم لهم فناجين الكاكاو الساخن باللبن، وفي بعض الأحيان تمنحهم شيئًا من حاجيات ابنتيها، زوج من الأحذية مثلًا أو فستان. إذا لاحظت امتقاع وجهيهما أو شعورهما بالامتعاض، عاجلتهما بمحاضرةٍ مرتَجلة حول الشيوعية، شارحة لهما بأن شمسها ستشرق على العالَم بأسره، وعليهما أن تكونا نموذجًا لها.

تربَّت السيدة “باباي” على عدم تقديس الأشياء والممتلكات. أظهرت حماسًا وامتنانًا عند تلقيها المفرش، ولكن ذلك ما تفرضه أصول الذوق والكياسة، كما أنها سعدت به فعلًا، لإدراكها بأنه سيشكل هدية رائعة لأقاربها.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى