«فورين بوليسي»: ماذا يمكن أن تخسر تركيا من الصراع بين روسيا وأوكرانيا؟
فريق العمل
«يمكن أن تتكبَّد تركيا خسارةً فادحةً من جَرَّاء المواجهة بين روسيا وأوكرانيا؛ وذلك لأن الصراع قد يطيح بالتوازن الدقيق الذي تحاول أنقرة الحفاظ عليه بين الناتو وموسكو»؛ حسبما خلُصَ «جيفرى مانكوف»، زميل الأبحاث فى معهد الدراسات الإستراتيجية الوطنية بجامعة «الدفاع الوطنى الأمريكية»، في تحليلٍ نشرته مجلة «فورين بوليسي» الأمريكية.
في مستهل تحليله، ذكر الباحث أن حشد القوات الروسية على الحدود الأوكرانية أثار مخاوف بشأن احتمالية تصعيد الصراع في شرق أوكرانيا، وحفَّز جهودًا دبلوماسية سعت إلى تفادي هجوم روسي جديد؛ ولا غروَ، فهذا التصعيد المحتمل بين موسكو وكييف يشكل تحديًا خطيرًا لحلف الناتو، الذي يحاول منذ فترة طويلة طمأنة أوكرانيا دون استفزاز روسيا.
الخاسر الأكبر من بين أعضاء الناتو
يلفت الباحث الانتباه إلى أن هذه المعضلة قد تلقي بظلالٍ ثقيلة الوطأة على تركيا خاصةً، بوصفها القوة الإقليمية التي تسببت في توتر العلاقات مع عديد من حلفاء الناتو، على حدِّ وصفه، وهو يُرجِع ذلك جزئيًا إلى جهود الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لتوثيق علاقاته مع موسكو، وفي الوقت ذاته سعيه إلى بناء علاقة سياسية وعسكرية أعمق مع أوكرانيا، وهو ما يعدُّه بعض الحلفاء سلوكًا استفزازيًّا للغاية.
ويبدو أن أنقرة تراهن حاليًا على إمكانية حل الأزمة التي تتراكم غيومها على حدود أوكرانيا بالوسائل الدبلوماسية؛ بيدَ أن المسؤولين الروس ينظرون بعين الريبة إلى العلاقة العسكرية – الفنية بين أنقرة وكييف، وكذا العلاقة بين تركيا ومجتمع تتار القرم، ويعدونها إشارات استفزازية.
ويستند الباحث إلى حالة عدم الاستقرار التي يعاني منها الاقتصاد التركي، وتراجع شعبية أردوغان محليًّا، والمواجهة بين القوات التركية والروسية في عدة مسارح تمتد من شمال أفريقيا إلى جنوب القوقاز؛ ليخلُص إلى أن تركيا قد تتكبد الخسارة الأكبر من بين أعضاء الناتو الحاليين إذا تصاعدت المواجهة على حدود أوكرانيا.
جذور المعضلة التركية.. توسُّعٌ أدى إلى عُزلة
ومعضلة تركيا – من وجهة نظر الباحث – وليدة سعيها لتحقيق قدر أكبر من الاستقلال الذاتي والتأثير الإستراتيجي في ربوع منطقة أوسع تشمل البلقان والشرق الأوسط العربي والقوقاز، ولقد جعلها هذا المسعى معزولةً عن عديد من حلفاء الناتو، وعالقة في مواجهة معقدة مع روسيا.
يتابع التحليل بالعودة إلى ظهور طموح تركيا في إعادة تشكيل النظام الإقليمي عقب انهيار الاتحاد السوفيتي، حين قدَّمت أنقرة نفسها بوصفها شريكًا وراعيًا لجيرانها في فترة ما بعد الشيوعية، وفي الوقت ذاته كانت تسعى إلى إقامة علاقات متبادلة المنفعة مع موسكو.
وقد وجد هذا التحوُّل فُسحَة أرحب للانطلاق في الآونة الأخيرة؛ نتيجة تغيُّر أولويات الولايات المتحدة، وخاصةً تراجع الدعم للسياسة التدخلية في الشرق الأوسط، والاهتمام المتزايد بآسيا.
تغيير ميزان القوى في البحر الأسود
على الرغم من ذلك، تزايدت صعوبة الحفاظ على التوازن التركي؛ في ضوء تعمُّق التوترات بين روسيا وحلف شمال الأطلسي؛ فقد أظهرت أنقرة رد فعل قوي على ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014 وغزو منطقة دونباس بشرق أوكرانيا، وكان التعاطف مع مجتمع تتار القرم المسلم الناطق باللغة التركية الذي استهدفته سلطات الاحتلال الروسي كاسحًا في تركيا، موطن الشتات الأكبر لتتار القرم.
بالإضافة إلى ذلك، سيطرت موسكو على كثير من سفن البحرية الأوكرانية والبنية التحتية للموانئ عندما استولت على شبه جزيرة القرم، مما أدى إلى تغيير كبير في ميزان القوى في البحر الأسود، وسحب البساط التي كانت تتربع فوقه البحرية التركية سابقًا.
ولا غروَ أن ترد تركيا على ذلك بتقديم الدعم السياسي والدبلوماسي لجماعات تتار القرم، مؤكدةً أنها لن تعترف بالضم الروسي للمنطقة، ولم تكتفِ بذلك، بل عززت تعاونها العسكري-الفني مع كييف، وقد ظهر ذلك بجلاء من خلال بيع طائرات مُسيَّرة مسلحة متطورة نشرها الأوكرانيون ضد الانفصاليين المدعومين من روسيا في دونباس.
من ليبيا إلى ناغورنو كاراباخ.. مرورًا بسوريا
لم تكن أوكرانيا هي الساحة الوحيدة، أو حتى الأهم، لتحقيق طموحات أنقرة؛ بل تدخلت تركيا في الحرب الأهلية السورية، وقد كان ذلك في المقام الأول لمنع أكراد سوريا من ترسيخ أقدامهم على طول الحدود، بحسب التحليل.
وفي عام 2020، تدخلت القوات التركية في ليبيا لدعم الحكومة المؤقتة المعترف بها من الأمم المتحدة (والتي وقعت معها أيضًا اتفاقية ترسيم حدود بحرية مثيرة للجدل في ديسمبر (كانون الأول) 2019 لتأمين الوصول إلى النفط والغاز في البحر الأبيض المتوسط).
وفي عام 2020 أيضًا، أثبتت الأسلحة والوكلاء الأتراك دورهم الفعال في الهجوم الأذربيجاني الناجح لاستعادة الأراضي التي احتلها الأرمن في ناغورنو كاراباخ وما حولها، وفي كلٍ من هذه المسارح، وجدت القوات التركية نفسها وجهًا لوجه أمام القوات الروسية، بل وفي بعض الأحيان انخرط الجانبان في اشتباكات مباشرة.
العلاقات التركية–الروسية.. تنافس تكتيكي وتقارب إستراتيجي
وعلى الرغم من احتدام التنافس الإقليمي، سعت تركيا أيضًا إلى التقارب إستراتيجيًا مع روسيا في السنوات الأخيرة، وأول الدوافع الرئيسة لهذا التقارب – بحسب التحليل – هو شعور أنقرة بالإحباط من الدعم الأمريكي لقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي يشكل المقاتلون الأكراد من فرعٍ من حزب العمال الكردستاني أكبر مكوناتها.
الدافع الثاني: هو تداعيات محاولة الانقلاب الفاشلة التي قام بها بعض مكونات الجيش التركي عام 2016، والتي يلقي أردوغان باللائمة فيها على أتباع رجل الدين فتح الله كولن المقيم في الولايات المتحدة.
الجانب الأكثر وضوحًا لهذا التقارب هو قرار أنقرة شراء نظام الدفاع الجوي الروسي إس-400 (وهو ما يعزوه التحليل جزئيًا إلى حماية النظام حال قررت القوات الجوية التركية المشاركة في أي محاولة انقلاب أخرى)، أدت هذه الصفقة إلى استبعاد تركيا من برنامج مقاتلات إف-35 بقيادة الولايات المتحدة.
بيدَ أن هذا الموقف منح أنقرة ورقة دبلوماسية لدى الكرملين استغلتها تركيا لإدارة المواجهات في سوريا وليبيا وجنوب القوقاز، في كلٍّ من هذه المسارح، انخرط أردوغان والرئيس الروسي فلاديمير بوتين مرارًا وتكرارًا في عملية دبلوماسية رفيعة المستوى، وتوصلا إلى وقف إطلاق نار غير رسمي يراعي استيعاب المصالح الرئيسة لكل جانب.
خصوصية الأزمة الأوكرانية.. من وجهة نظر روسيَّة
يلمح الباحث إلى أن أنقرة هذه المرة أيضًا تعتقد أنها ستكون قادرةً على تطبيق نموذج مشابه للتعامل مع الصراع في أوكرانيا؛ لكنه يستدرك قائلًا: على الرغم من أن موسكو كانت مستعدة لتحمُّل موقف تركيا الأكثر حزمًا في سوريا وليبيا وجنوب القوقاز (ويرجع ذلك جزئيًا إلى أن هذا الموقف يساعد في ترسيخ صورة تركيا بوصفها لاعبًا إقليميًّا مستقلًّا، وليست حصنًا غربيًا)، فربما يتضح أن الحالة الأوكرانية أصعب من أن تُدار بالطريقة ذاتها.
يستدل التحليل على ذلك بتلميح المسؤولين الروس إلى أنهم يعدون دعم أنقرة لتتار القرم تهديدًا لوحدة الأراضي الروسية – بقدر ما تعد موسكو شبه جزيرة القرم أراضٍ روسية – والإشارة إلى استخدام المُسيَّرات التركية في دونباس بوصفها أحد دوافع التعزيز الحالي للقوات الروسية على طول الحدود الأوكرانية.
وعلى الرغم من أن هذه المُسيَّرات تمنح أوكرانيا قدرات إضافية، فإن تأثيرها على التوازن الكلي محدود، لا سيما في حال نشوب صراعٍ شديد الكثافة يشمل القوة الجوية الروسية؛ فحتى بوجود المُسيَّرات التركية، فإن آمال الجيش الأوكراني تبقى ضئيلة في الصمود أمام أي هجوم روسي واسع النطاق.
تصلُّب الموقف الأمريكي.. في انتظار الانتخابات التركية 2023
منذ تنصيب جو بايدن رسميًا رئيسًا للولايات المتحدة في يناير (كانون الثاني) 2021، حاولت أنقرة تسوية نزاعاتها العالقة مع واشنطن وحلفاء آخرين في حلف الناتو؛ ويرجع ذلك جزئيًّا إلى قلقها من أن العزلة المتزايدة تضعف موقفها أمام الضغط الروسي.
بيدَ أن مواقف واشنطن تصلبت في السنوات الأخيرة؛ على خلفية التوترات التي أثارتها صفقة منظومة إس-400 الروسية ما أدى إلى ترسيخ الإحباطات طويلة الأمد، لا سيما داخل أروقة الكابيتول هيل (الكونجرس الأمريكي)، وقد أدت حملات الحكومة التركية ضد الصحافة والمجتمع المدني وأحزاب المعارضة إلى تفاقم هذا التوتر، بحسب التحليل.
وعلى الرغم من الجهود المبذولة لتحسين العلاقات (ومن بينها اجتماع بايدن وأردوغان على هامش قمة الناتو في يونيو (حزيران) 2021، يستبعد الباحث حدوث تغيير كبير إلا بعد الانتخابات التركية (المقرر إجراؤها في عام 2023) التي قد تضع نهاية لرئاسة أردوغان.
الصراع في أوكرانيا.. معضلة مزدوجة تواجه أنقرة
في غضون ذلك، يلفت التحليل إلى أن أنقرة تواجه معضلة مزدوجة حال تجدد الصراع، تتمثل في: العزلة الدبلوماسية والإفراط في التمدُّد الإستراتيجي؛ إذ يمكن لروسيا تصعيد الضغط ضد المصالح التركية (في جيب إدلب السوري، على سبيل المثال) لضمان بقاء أنقرة على هامش الصراع في أوكرانيا.
وإلى جانب سياسة التلويح بالعصا، يمكن أن تتبع روسيا أيضًا سياسة تقديم الجزرة؛ فإلى جانب تراجع إمدادات الغاز إلى أوروبا عبر بيلاروسيا وأوكرانيا، فإن إلغاء الألمان أو تعليقهم خط أنابيب نورد ستريم 2 سيصب في مصلحة خطوط أنابيب بلو ستريم و ترك ستريم، مما يعزز (على الأقل على المدى القصير) طموحات تركيا لتعزيز دورها بوصفها دولة عبور.
ومع ذلك، يرجح الباحث أن يتمخض الهجوم الروسي ضد أوكرانيا عن عواقب سلبية أوسع، مثل: زيادة تعزيز التفوق العسكري البحري الروسي في البحر الأسود، وإضعاف الشراكة بين تركيا وأوكرانيا، وإلحاق مزيد من الضرر بالاقتصاد التركي، واحتمالية تدفق مزيد من اللاجئين، ناهيك عن شن هجمات ضد المصالح التركية في سوريا وبقاع أخرى.
ويختم الباحث تحليله بالقول إن تصعيد الصراع بين روسيا وأوكرانيا سيتسبب في مأساة لكثير من دول أوروبا؛ وبالنسبة لتركيا، يمكن أن يؤدي ذلك إلى نهاية عملية التوازن التي لطالما حاولت الحفاظ عليها بين الناتو وروسيا، بالإضافة إلى إنهاء طموحاتها لتوسيع نفوذها الإقليمي وهي السمة التي حددت ملامح فترة حكم أردوغان.
ساسة بوست