فونتمارا: بهرجة المدن تخفي فقراً مدقعا

 

لا ينفصلُ الإبداع الأدبي عن العوامل الإجتماعية والسياسية، بل يُمَثلُ صورة من الوعي المُجتمعي والظروف التي تُلقي بظلالها على تركيبة الأفكار التي تتحكمُ بطبيعة العلاقات السائدة داخل منظومات إجتماعية وسياسية ودينية، فبالتالي يُجسدُ الأدبُ هذه المُحددات في ترابطها ومدى تأثيرها في توالدِ نماذج مُختلفة من الطبائع الإنسانية، وغالباً ما يكون الهدفُ من وراء الدفع بِجملة من الوقائع إلى واجهة العمل الأدبي هو إرساء قيم جديدة وكسر حالة الإنسداد على مستوى التفكير والرؤية. هذا التفسيرُ قد يصحُ مع ما يُسمى بالأدب النضالي أو الطليعي، وربطه بإتجاه أيديولوجي مُعين ينعكسُ في مضامين النصوص الأدبية بقطع النظر عن إختلاف النوع.

ولعلَّ الوظيفة الأيديولوجية في الرواية أكثر وضوحاً، وتكفي هنا الإشارة إلى “الأُم” لمكسيم غوركي الذي أظهر جدلية التأثير بين الفكر والإنسان، كما أرهص تشرنيشيفسكي في روايته “ما العمل” حسبما يرى الباحثون ببزوغ عهد جديد، موضحاً ما يجبُ أن يتسلح به الثوارُ من أفكار مُحركة للوضع الراكد.

تصطفُ رواية “فونتمارا” للكاتب الإيطالي إيجنازيو سيليوني الصادرة من دار الرافدين بيروت ضمن الأعمال المنضوية تحت مظلة الأدب الثوري، حيثُ يتناولُ الكاتبُ حياة الفلاحين البسطاء في قرية فونتمارا، وما يكابدونه من شظف العيش في ظل السلطة الجائرة التي تُزيدُ الضرائب على مواطنيها، ولا توفر وسيلة إلا تستخدمها لقهرهم واستغلالهم، ومع ظهور الشخصيات التي تتناثر على مساحة الرواية يتبينُ غرضُ المؤلف من إماطة اللثام عن فئة مكونة من المثقفين والمهنيين المُتعاونين مع رجالة الدولة في عملية تضليل الجماهير، ولولا هؤلاء لما تغولت السلطةُ وتوحشت.

تفتتحُ الرّواية باسترجاع تلك اللحظة التي حدث فيها ما كان مؤشراً لتبدل حياة الفلاحيين عندما انقطع النور الكهربائي وحل ضوء القمر مكان الإضاءة الكهربائية ودامت هذه الحالة إذ يتعجب السكان من هذا الأمر. وهنا يلمحُ الراوي إلى بداية ظهور الكهرباء والدخائن في القرية ومن ثُمَّ يتوقع أن يُحَرمَ الفلاحون ممّا يعدُ امتيازاً بالنسبة لهم نتيجة لتقلبات على الصعيد السياسي وسقوط حكومة وقيام غيرها، وهذه الحالة قلّما تكون لها الفوائد للكادحين الذين تنوء بهم وطأة حياة مُضنية، حيث يتحمّلون تكاليف الحروب وتصاعد الضرائب على الخدمات.

ضفْ إلى ذلك أن الراوي يُشيرُ إلى ترصد موظّفي الحكومة لكلام المواطنين وإدانتهم بناء على تفسيرات مُجهّزة، إذ يصيحُ هون بللينوبوجه زومبا وسوركانيرا عندما تحدث الإثنان عن الحلم الذي رآه الأول وما سمعه من البابا بأنّه ساق لهم سحابة من القمل ليملأوا بها فراغاتهم، وذاك ما يبعدهم عن الإلحاد والكفر. وما من الموظف إلا واعتبر الكلام تجديفاً واستهزاءً للحكومة، ويمضي أعوان الحكومة في سياستهم الإستغلالية أبعد بسلب مصدر رزق أهالي القرية، وتصريف مياه الترعة بما يخدم مشاريع ما يُسمى بالمقاول من خلال المستندات المُقنعة بالقانون، ويستنكر الفلاحون من جانبهم هذا الإحتيال ساخطين من القانون الذي يتمترسُ وراءه المُحتالون لاضطهاد الفقراء.

يذكر أنَّ هذا العمل يحتشدُ بشخصيات تبدو للوهلة الأولى نمطية وجامدة، لكن مع تعاقب الأحداث تتخذ مسارات ومستويات مُختلفة، وشأن جل الروايات المكتوبة بإيحاء ثوري توجدُ شخصية القدوة والمُضحي في (فوانتمارا)، وهو براردو الذي من الصعب الحكم عليه أو توقع َمُبادراته.

يعتمدُ الكاتبُ على تصوير الصراع القائم بين أهل فونتمارا والسلطة الممثلة بشخصية المُقاول لإبانة البؤس والمُعاناة المُتفاقمة بفعل المشروع الذي يدمرُ ما أعطتهم الطبيعةُ لسد الإحتياجات الحياتية، إذ تتضاعفُ المخاوفُ من محاولة إقامة الفيلا وتحويلُ ملكية الترعة إلى المقاول وحفر مجري آخر ما ينقص نسبة الماء الذي تحتاج إليه الزراعة، ما يعني فقدان سكان القرية لما يقيمُ أودهم، وعندما يحتجُ الجماهيرُ على هذا المشروع يأتي من يُعدُ مسانداً للمحتجين في الظاهر لكن في حقيقته متواطئ مع السلطة، وهذا النّفاق يتجسّدُ في شخصية المحامي شيركوستانزا إذ يقترحُ الأخيرُ أن يكونَ حق التصرف بالترعة مكفولاً لبودستا لمدة (عشر عظيمات) دون أن يفهم أحد دلالة هذه العبارة الفضفاضة.

وأخذ سكان فونتمارا بشرح تلك المفردة وتباينت التقديرات حولها بين عشر سنوات أو مئة سنة أو عشرة شهور، كما تصورت ماريتا سوكارينرا. بهذا نجح إيجناز يوسيليوني في إبراز المفاعيل السلبية للعبة الألفاظ، وهي أداة في عملية الخداع السياسي، يرافق ذلك إعلان بودستا لمنع المناقشات في الحانة التي يجتمعُ فيها أهل القرية.

من الملفت أن الكاتب يتتبعُ ما يطفوُ على السطح من مظاهر تشي بسيادة الهمج أو ما يسميه ماركس ببرولتاريا الرثة، وهم أفراد يخدمون كل من يعطي الأوامر يتسكعون في الشوارع، إذ يُعَبئِهم المتنفذون لمآرابهم الخاصة ويؤجرون طاقاتهم دعماً للسلطة الهمجية. فضلاً عن ذلك يختارُ الكاتبُ أسلوباً كوميدياً لبيان مناورات السلطة وإمعانها في مسخ القيم، وهذا ما تراه في مشهد إستجواب الرجل البدين لمواطني فوانتمارا عن إنتماءاتهم السياسية، وبدأ بطرح هذه الصيغة يعيش من؟ بما أن المستوجبين غير مهتمين بشؤون السياسة، ولم يدركوا ضرورة تمجيد الحكومة الجديدة، لذا كانت إجاباتهم عفوية وحين يأتي دور على أناشليتو ما لبث أن قال تعيشُ ماري وهي زوجته ويُتهم على إثر ذلك بأنَّه مشبوه.

تدهور المستوى المعيشي في فوانتمارا وتوجس أهلها من تناقص الموارد يحملُ بعضهم للبحث عن فرص العمل في المدن، حيثُ يُصاحبُ ابن الراوي براردو في رحلته إلى المدينة التي شهدت تطوراً كبيراً في شتى المجالات، ويمكنُ لمن يقتنع بأن يصبح أداة بيد السلطة إمتلاك ثروة طائلة، الأمر الذي يوضح الفرق الكبير بين نمط حياة الفلاح وما ينعم به المضاربون في المدن من البذخ، ما يغذي الوعي الثوري لدى براردو، الذي خاب أمله بالهجرة إلى أميركا ولم يعد يتملك شيئا لا الأراضي ولا الأموال، لذلك فهو أول من يقع تحت تأثير ما يحكيه بيينو جوريانو العائد من روما حول ما يسود في المدينة من سلوكيات سياسية غريبة بجانب توفير فرص العمل. وبدلاً من أن يكتسب براردو الأموال في المدن ليعودَ إلى “فونتمارا” ويتزوج إليفرا كما خطّط، تنحو حياته منحى آخر ويتحول إلى بطلٍ ثوري.

يُذكر أن آراء براردو تنم عن وعي ناضج وتلمس لديه الإيمان بضرورة تعقل الحراك الجماهيري، وهو يقول لصديقه: “ألست ترى أن الشّجاعة ليست شيئا عندما لا تعرف استعمالها”، وتلخص مما يقولهُ الرجل القادم من أفيزانو أن بهرجة المدن تخفي فقراً مدقعا وليس كل من يقيم بالمدن مُستغِلاً.

تنتهي الرواية بإعلان الغضب والثورة في كثير من القرى والبلدات منها فونتمارا، وما يجبُ الإشارة إليه هو براعة المؤلف في استبطان ما يمورُ في أعماق براردو من مشاعر وأسئلة قبل إعدامه، إذ يرجح لديه كفة المبدأ لأن قروناً تمرُ قبل أن تواتي فونتمارا فرصة أخرى وما أراد أن ينقلب خائناً.

يُذكر أنّ سليوني ولد في إحدى قرى إيطاليا سنة 1905، وعانى أمرين في حياته، فقد أهله في حادث الزلزال، كما راح أخوه الوحيد ضحية قسوة الفاشستيين.

 

 

ميدل إيست أون لاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى