فيروز تنشد مزموراً على نية القدس وأبنائها
فاجأت المطربة فيروز جمهورها الفلسطيني واللبناني والعربي بترتيلة أدتها على نية فلسطين وشعبها، وعلى نية القدس، «مدينة السلام» وعاصمة الأديان التوحيدية الثلاثة، التي تتعرض يوماً تلو يوم إلى التهويد أمام أنظار العالم.
وما أن نُشرت الترتيلة عبر «يوتيوب» صوتاً وصورة، في صيغة إخراجية أنجزتها ريما الرحباني، حتى راجت بسرعة وتلقّاها جمهور فيروز الذي لا يُحصى. فتوقيتها مهم. لتوِها نقلت أميركا سفارتها الى المدينة المقدسة. وصور الفلسطينيين المفجوعين في مسيرات غزة، رافقت الصوت الحزين.
لم تستطع المطربة الكبيرة التي عاشت قضية فلسطين منذ الستينات، وغنت لها أجمل الأناشيد والأغنيات من كلمات الأخوين رحباني، عاصي ومنصور، أن تصمت حيال ما ارتكبه جنود الاحتلال تجاه المتظاهرين العزل في غزة، ولا حيال ما يحصل من اضطهاد يومي ضد النساء والأطفال والشباب المناضلين، الذين يصرون على عدم التخلي عن حقهم في الأرض وعن تراب أجدادهم، فإذا بها تختار المزمور الثالث عشر (الثاني عشر في بعض الطبعات) من مزامير النبي داود في كتاب التوراة – العهد القديم، أو «الزبور» كما في الإسلام، وتؤدّيه بصوتها الرخيم وفق الطقس الإنشادي البيزنطي. وكعادتها في التراتيل البيزنطية أو السريانية، حلّق صوتها برقته وتلك البحّة الساحرة التي زادها العمر دفئاً وحنيناً، وأنشدت أعمق ما يكون الإنشاد الطقسي، هذا المزمور الذي درجت الكنيسة الأرثوذكسية على ترتيله بأصوات الكورس. لكنّ فيروز أدرجته في سياق فلسطيني، روحي ووطني في آن.
تسأل فيروز كما ورد في مزمور داود: «إلى متى يا رب تنساني؟ أإلى الأبد؟ إلى متى تصرف وجهك عني؟». هنا تسأل فيروز باسم الشعب الفلسطيني كله، الذي يتلقى شبابه السهام في صدورهم، والذي يُسام أبناؤه ألواناً من عذاب وقهر. وإذا كان المزمور قد كتبه النبي داود أصلاً ضد مضطهديه، فإن فيروز نجحت في تحوير رمزيته، جاعلة الفلسطينيين هنا يعانون الاضطهاد، والإسرائيليين هم الأعداء.
وعلى رغم المسحة الإيمانية التي تتسم بها هذه الترتيلة المعروفة، تمكنت المطربة الكبيرة من إدراجها ضمن أغنياتها الفلسطينية الرائجة، وفي مقدمها «زهرة المدائن» و «سنرجع» و «بيسان» وسواها. تحضُر فلسطين هنا في منحى روحي وديني، كما في ترتيلات الميلاد، لكنها سرعان ما تستحيل فلسطين الرمز، فلسطين المقهورة على مرأى من الأمم كما في التعبير الكتابي، فلسطين التي تكابد في ظل الاحتلال الغاشم الذي يرفض معنى السلام.
«إلى متى يتعالى عدوي عليّ؟»، يسأل المزمور. وفي أحد أجمل المقاطع يعلو صوت فيروز مناجياً البارئ قائلاً: «إلهي أنِر عينيّ لئلا أنام نومة الموت». ولعله النور الذي يحتاج إليه الفلسطينيون اليوم كي تظل أعينهم مفتوحة في وجه الوحشية الإسرائيلية.
وترسيخاً للانتفاضة الفلسطينية الأخيرة بعد مجاراة الولايات المتحدة إسرائيل في تهويد القدس، أرفقت ريما الرحباني الترتيلة بصور من قلب المعترك والمواجهات المفتوحة التي خاضها ويخوضها الفلسطينيون العزّل، بما تيسر لهم من حجارة يرمون بها عدوهم الذي أطلق عليهم الرصاص والقنابل، فسقط رتل من شهداء هم في مقتبل العمر.
أطلّت فيروز ترتّل، ووراءها صورة المسيح حيناً، وصور المناضلين الشرفاء حيناً آخر، ومنهم شبان مقعدون على كراسيهم أو أطفال يتحدّون الحرائق بحماسة.
صحيفة الحياة اللندنية