في أي سياق نضع الفاجعة الكبرى في بيروت؟
هل كان الفساد والإهمال كافيين لانفجار مخزن نترات الأمونيا في ميناء بيروت أم إنه لا بد من يد فاعلة انتهزت فرصة الفساد المتراكم الذي يشكل أرضاً خصبة جدا لتدخلات خارجية؟
لا يجوز لأحد أن يستبق التحقيقات اللبنانية، وقد لا تكون كافية في هذه المرحلة الأولية، ليتهم هذه الجهة أو تلك بالمسؤولية عن الفاجعة التي حلت ببيروت وفي لبنان عامة. في الوقت ذاته لا يجوز تبرئة أحد من الفاسدين والمفسدين والمسؤولين المباشرين عن ميناء بيروت، أو الدول المستفيدة من هذه الفاجعة. ولذلك نكتفي بالتحليل اعتماداً على ما لدينا من معطيات، متطابقة كانت أو متناقضة.
عند تحديد المسؤولية عن الجريمة الكبرى في مرفأ بيروت، قد نتوهُ بين ركام الفساد والإفساد، والإهمال والمحسوبية، وبين القوى الخارجية الفاعلة لتحقيق أهداف سياسية كبرى. فهل كان الفساد والإهمال كافيين لانفجار مخزن نترات الأمونيا في ميناء بيروت؟ أم إنه لا بد من يد فاعلة انتهزت فرصة الفساد المتراكم، الذي يشكل أرضاً خصبة جداً لتدخلات خارجية، والقيام بهذا التفجير المروّع والتاريخي؟
للإجابة عن هذا السؤال لا يجوز الوقوف عند النظريات العلمية لحصول التفجيرات فقط، بل لا بد من البحث عن المستفيد والفاعل المحتمل، في ظل غيمة الفساد السوداء للوصول إلى أهدافه الكبرى.
إذا ما بحثنا عن الحقيقة في إطار الجواب عن السؤال، من المستفيد وفقط؟ قد نقع في خطأ، لكن إذا استثنينا هذا السؤال قد نقع في خطأ آخر أيضاً. إذاً علينا أن نحدد السياقات التي رافقت هذا الحدث للبحث عن الفاعل الحقيقي وعن المستفيد، ولا نستثني أحداً. فعند البحث في مستنقع الفساد قد نغرق فيه، ولا نرى القوى الفاعلة من الخارج، لكن الحاجة تفرض علينا تلطيخ أيدينا وأرجلنا في هذا المستنقع للبحث في حيثياته، والعمل الدؤوب على تجفيفه لدرء أخطاره المستقبلية، فكلما انحسر المستنقع ظهرت حقيقة ما يحتويه، وظهرت حقيقة اللاعبين فيه وارتباطاتهم مع الخارج والداخل. وعليه لا بد أن نرى الحدث في سياقاته المتعددة داخلياً وخارجياً، في التوقيت وفي الظروف اللبنانية والمحيطة به على حد سواء. فما هي السياقات التي نقصدها؟
أول هذه السياقات هو السياق اللبناني الداخلي، وحصول هذه الكارثة ولبنان الدولة على حافة الانهيار. أزمة حكم ونظام متهالك، وأزمة اقتصادية-اجتماعية معقدة لا تساعد القوانين اللبنانية في حلها، بل هي تحتاج الى حلول جذرية تتطلب قرارات جريئة قد لا يستطيع المسؤولون اللبنانيون اجتراحها بسبب تدخلات خارجية ومنها أزمة استخراج الغاز اللبناني من البحر المتوسط.
حصل هذا، أيضاً، في سياق المواعيد الكبرى التي ترافقنا في السنوات الأخيرة، منها إصدار وعد ترامب بـ”صفقة القرن”، صفقة تسوية في فلسطين بمناسبة 100 عام على ذكرى وعد بلفور. ونية وتخطيط إردوغان للتنصل من معاهدة لوزان عام 2023 بمناسبة 100 عام على توقيعها. وعليه يحق لنا أن نتساءل، هل هناك من يخطط لتغيير استراتيجي في لبنان في ذكرى 100 عام على إعلان الانتداب الفرنسي عن “لبنان الكبير” أم إنها مصادفة!؟ وهل كانت المطالبة بعودة الانتداب الفرنسي عند زيارة الرئيس ماكرون الأخيرة الى لبنان، حلقة في هذا، أم إنها تعبير عن غضب وإحباط جزء من اللبنانيين من قدرتهم على حكم أنفسهم؟ وهل كانت مطالبة بعضهم بنظام فدرالي للبنان حلقة من هذا المخطط أم إن هؤلاء يئسوا من إمكانية العيش المشترك بين مركبات الشعب اللبناني؟ أسئلة للتفكير وقد تبقى الأجوبة عنها مفتوحة لكل الاحتمالات لفترة طويلة.
قد نأخذ هذا الحدث، أيضاً، في سياق مسلسل الانفجارات، “مجهولة” الفاعلين، ضد المنشآت الإيرانية خاصة، ومحور المقاومة عامة، بما في ذلك تفجير خطير استهدف المفاعل النووي في نطنز. وهنا لا بد من التوقف قليلاً لنقول: إن من يستهدف مفاعل نطنز من دون أن يأخذ مسؤولية عن فعلته، ومن دون الأخذ بعين الاعتبار المخاطر الهائلة المترتبة على ذلك، قد يستهدف مخزناً للأمونيا في مرفأ بيروت أيضاً من دون اعتبار للمخاطر المترتبة على ذلك. فمتى كان هؤلاء أخلاقيين ويراعون القيم الانسانية؟
هل نكتفي بهذه السياقات، أم نذهب إلى أبعد من ذلك، إلى سياق الصراع بين محورين اقتصاديين استراتيجيين في الشرق الأوسط، والجهود العسكرية، الدموية والمتوحشة، لخلق نظام إقليمي جديد تكون فيه لـ”إسرائيل” والسعودية اليد العليا، ليس فقط للسيطرة على مصادر الطاقة وخطوط الإمداد من الشرق الأوسط ابتداء من باب المندب والموانئ اليمينة مروراً بالبحر الأحمر فإلى الموانئ الإسرائيلية، ومنها إلى أوروبا، وإنشاء محور اقتصادي وأمني وسياسي، يمر عبر البحر الأحمر إلى الموانئ الإسرائيلية فالبحر المتوسط ومنه الى أوروبا المتعطشة للغاز. بل يذهب أصحاب هذا المحور إلى أبعد من ذلك ومفاده أن نجاح محورهم يتطلب تعطيل إنشاء المحور الاقتصادي الإيراني السوري اللبناني، والذي قد تشارك فيه الصين أيضاً، والذي يصل بين إيران ولبنان ويمر من ميناء بيروت ليصل إلى أوروبا؟
وعليه، هل يمكن أن نقرأ الموقف السعودي من تفجير ميناء بيروت في هذا الإطار والصراع بين الخطين التجاريين الى أوروبا؟ أم نأخذ الحدث الكبير في السياق الدولي والجهد الأميركي- الإسرائيلي المكثف والوحشي، للقضاء على حزب الله باعتباره العقدة الكأداء أمام تحقيق الهيمنة الإسرائيلية الدائمة على شعوب وأنظمة ومقدرات الشرق الأوسط كممثلة للحضارة والمصالح الغربية الاستعمارية؟ أو لضمان وجودها واستمراريته؟
في الوقت الذي يتراجع فيه المحور الأميركي الإسرائيلي السعودي في الشرق الأوسط، ويعجز عن تحقيق أهدافه، ولم يبقَ الكثير من الوقت، حتى الانتخابات الأميركية، لتجديد وسائله وأدواته، ويخشى، أيضاً، من الدخول في حرب شاملة لتحقيق أهدافه الإقليمية والدولية، كان لا بد له من استخدام أدوات استثنائية، وفي غاية الخطورة، خاصة أن الأرض الخصبة لتحقيق ذلك، تراكم الفساد في مرفأ لبنان، جاهزة للتغطية على جرائمه هذه، للتقدم نحو مرحلة ما بعد مرفأ بيروت، كما يعتقدون.
لا يملك أحد دليلاً قاطعاً لهذا السيناريو، ولكن هناك العديد من الإشارات الى ذلك، اعتماداً على المعطيات المتوافرة التي تعزز هذا التحليل ومنها هذه النماذج:
علينا أولاً، ألّا ننسى تحليق طائرات الاستطلاع الإسرائيلية المسيرة الدائم فوق لبنان، بما في ذلك ميناء بيروت، وبشكل مكثف خلال الأسبوعين الأخيرين، وتكثيف جهود الأقمار الاصطناعية الأميركية والأوروبية والإسرائيلية، لمراقبة أي تحرك للمقاومة، من الحدود الجنوبية للبنان وحتى بيروت، بما في ذلك الميناء، أو أبعد من ذلك. خاصة أن “إسرائيل” تروّج منذ سنوات بأن مرفأ بيروت يشكل ممراً لسلاح حزب الله.
قد يكون ما قاله الصحافي البارز ريتشارد سيلفرشتاين، اعتماداً على مصادر عسكرية إسرائيلية عليا، بأن “إسرائيل” هي من فجرت مخزناً في ميناء بيروت ولكنها لم تكن تعرف بتخزين هذه المواد في المخزن المجاور له وبهذا الكمية، وعليه، فقد سارعت “إسرائيل” رسمياً إلى إنكار التهمة قبل أن يوجهها إليها أحد. فهل يعقل أن يتبجح نتنياهو بمعرفة كل ما يجري في مرفأ بيروت، ولا يعرف ما يحتويه عنبر رقم 12 الذي أشار اليه بإصبعه في الصورة المشهورة في مرفأ بيروت؟
نعم يُعقل، خاصة أن التدمير الواسع لمرفأ بيروت لم يسفر عن أي انفجارات في المواقع التي حددها نتنياهو على أنها مخازن أسلحة للحزب، مما يؤكد الكذب المفضوح الذي يروج له نتنياهو وحلفاؤه.
ومع ذلك، يقول قائل: هل اعتمدت “إسرائيل” على معلومات كاذبة زُودت بها من عملاء لهم مصلحة في ذلك؟ وهل تجرؤ “إسرائيل” ان تفعل ذلك من دون الأخذ بعين الاعتبار إمكانية الرد اللبناني على مخازن الأمونيا في ميناء حيفا وأماكن أخرى؟ وهو سؤال مشروع ومنطقي. للإجابة عن ذلك يمكن أن نسأل أيضاً: هل يمكن للمقاومة أن ترد بضربة مشابهة إذا لم تتبنى “إسرائيل” مسؤولية رسمية عن فعلتها؟ وهي لم تتبن أي مسؤولية حتى عن تفجير مفاعل نطنز. وهل يمكن أن يقوم بذلك عملاء، للسعودية أو لـ”إسرائيل” أو غيرهما، يعملون في ميناء بيروت ويقدمون خدمات ميدانية غير دقيقة لهذه الجهات ثم يكونون ضحية لهذه الانفجار فتموت الحقيقة معهم؟ خاصة أن الجوقة السعودية والإسرائيلية، في لبنان وخارجه، دأبت منذ اللحظة الأولى حتى الآن، على الترويج بأن هذا المكان يستخدم مستودعاً لأسلحة حزب الله، وعلى اتهام حزب الله بالمسؤولية عن هذا التفجير، متناسين كل المعطيات المعروفة لهم، وهم المسؤولون الرسميون عن الميناء وما يحتويه، والمعطيات المناقضة لادعاءاتهم، والتي كُشِف عنها في اليوم الأول للحدث. ليس هذا فحسب، بل الدعوة إلى لجنة تحقيق دولية وإعادة الانتداب الفرنسي على لبنان، أو وضعه تحت الوصاية الدولية، مما يشير إلى إعداد مسبق لحملة إعلامية ضد حزب الله والحكومة والرئاسة اللبنانية لتحقيق أهداف بعيدة المدى.
من الإشارات الأخرى التي تعزز هذه الفرضية، هو ما نشره موقع “nazivnet” باللغة العبرية، وهو موقع أمني مقرب من نتانياهو، يوم 2 آب/أغسطس أي قبل يومين من التفجير، تحت عنوان “الرد الإسرائيلي المزلزل ضد لبنان”، إذ يقول الكاتب (مجهول الاسم): في النهاية يجب أن يكون الهدف من الحرب هو هزيمة نهائية لحزب الله والتقدم نحو السلام مع لبنان”.
إضافة الى ذلك فقد أصدر معهد القدس للاستراتيجيا والأمن يوم الرابع من آب/أغسطس، أي في اليوم ذاته، ورقة تقدير موقف، للباحث عومر دوستري، يقول فيه: “إن إسرائيل أخطأت بعدم استغلال الفرصة للرد على محاولة التسلل (المزعومة) وإنزال ضربة قاتلة على حزب الله كما هدد المستويان السياسي والعسكري من قبل، لأن التردد الإسرائيلي يُفهم ضعفاً، وعليه، على إسرائيل أن تبادر إلى إنزال ضربة بحزب الله خاصة أنَّ التقديرات الاستخبارية تفيد بأن الحزب غير معني بالحرب، يعني أن ردَّ الحزب لمثل هذه الضربة قد يكون محدوداً، ولأن الظروف اللبنانية والإقليمية مواتية، ولأن فرصة القيام بذلك بوجود ترامب في الحكم فرصة لا تعوّض”.
في اليوم التالي (5 آب/أغسطس) كتب المعلق السياسي أمير بار شالوم، تحت عنوان “الردع الإسرائيلي تعزز بدون إطلاق رصاصة واحدة”، وهي إشارةٌ إلى قوى غير إسرائيلية نفذت الهجوم، فيقول: “يفهم اللبنانيون الآن، عندما يضيفون ذلك إلى الأزمة الاقتصادية العميقة، ما هو الخطر الكامن من وجود حزب الله، وأن العنوان للاحتجاج يجب أن يوجه إلى حزب الله”.
بالمقابل قد يكون الرد الإسرائيلي السريع، وبالذات من بيني غانتس وإشكنازي، قبل نتنياهو، واستعدادهم لتقديم “المساعدة الإنسانية للبنان” مع صورة للعلم اللبناني بجانب العلم الإسرائيلي، وإضاءة علم لبنان على حائط بلدية تل أبيب بشكل مستفز.
تعزيزاً لهذا الموقف امتدح الجنرال المتقاعد، أفي بنياهو، (كان قد شغل منصب مستشار لأكثر من رئيس وزراء سابقاً)، في مقالة له، (معاريف 7/8/20)، مبادرة َ إشكنازي وغانتس في الاستعداد لتقديم المساعدة الإنسانية للبنان، “لأن الهدفَ من ذلك هو دق الإسفين بين الشعب اللبناني من جهة وحزب الله من جهة أخرى”. فهل كانت كل هذه الحملة الدعائية تهدف إلى تحويل الأنظار عن إمكانية اتهام “إسرائيل” بالمسؤولية عن هذه الجريمة وتفجير الصراع داخل لبنان؟ أو ربما اعتقدوا أنَّ الهدف قد تحقق وأن الطريق نحو “السلام” مع لبنان أصبحَ مُمهَّداً؟
تصريحات دولية كثيرة صدرت من جهات صحافية أخرى سياسية مسؤولة تشير الى تفجير الميناء بفعل خارجي، منها تصريح دونالد ترامب بأن جهة خارجية فجرت الميناء معتمداً على أقوال “جنرالات أميركيين كبار” ومن هنا جاء طلب الرئيس اللبناني ميشيل عون من نظيره الفرنسي ماكرون، تزويده بصور الأقمار الاصطناعية الفرنسية للحظة الانفجار، فهل سيقدم ماكرون صوراً للبنان؟ هذا ما سنتحقق منه لاحقاً.
من مجمل التصريحات التي صدرت بهذا الخصوص عما نقلته صحيفة “CIB” الروسية، والتابعة لوزارة الخارجية، من أنها تملك صوراً لأقمار اصطناعية تفيد بأن التفجير حصل بواسطة صاروخ انطلق من البحر ثم غاب عن الأقمار عند حصول الانفجار، وإنها مستعدة لتزويد لبنان بذلك. إذا ما صح هذا الخبر أو لم يصح، لا يجوز لأي لبناني مسؤول أن يتجاهله حتى يتأكد من حقيقته!
عودة على بدء، لا يجوز اهمال أي من السناريوهات في ظل السياقات المتعددة التي ذُكرت أعلاه، مع التأكيد أن الوصول الى الحقيقة ليس بالأمر السهل في ظل تآمر دولي على المقاومة، وامتلاك أعداء لبنان قدرات تكنولوجية قادرة أن تفيد لبنان في الوصول الى الحقيقة لو أرادوا ذلك، أما المستقبل وضمان عدم تكرار الجريمة في لبنان، وأماكن أخرى من عالمنا العربي، فيتطلب محاربة الفساد والإفساد والإهمال الوظيفي، وآلية قانونية فاعلة لمحاسبة المسؤولين عن ذلك، من دون غطاء طائفي أو عشائري أو حزبي وما إلى ذلك. لأن الفساد هو الأرض الخصبة للتدخل الخارجي وخضوع الفاسد للمُفسد وضياع الحق والحقيقة.
أما الاستقلال فلا معنى له إن لم تستطع الحكومة إقامة علاقات مع أي دولة في العالم بحرية، ووفق مصلحتها الخاصة من دون خوف من عقوبات أميركية أو غيرها.
الميادين نت