في المسافة بين الأسود والأسود (وائل عبد الفتاح)

 

وائل عبد الفتاح

لم يستطع أحمد إخفاء حزنه. احتفظ به فترة، وسط كومة القلق من التفجيرات والإرهاب المتجول في شوارع القاهرة، بدا حزنه شخصيا وسط هذه الكومة التي تسير في اتجاه واحد.
أحمد غادر قبل ثلاث سنوات حضانات «الجماعة» التي عاش فيها منذ طفولته، حضانات عائلية، كان فيها مشاكساً يفلت بمعجزة فردية من سارق الروح تدريجياً، ذلك الذي يفرغ الإنسان من كيانه ويستبدلها بالتعليمات والصور المتوهمة عن الحياة. أحمد هرب بالتدريج من الحضانات وكسر عزلته، واكتشف الأحجام الطبيعية لآلهة مثل خيرت الشاطر أو محمد بديع، أو غيرهم من أصحاب المقامات المقدسة في غرف «الجماعة» المغلقة.
غادر أحمد الحضانات ناقداً متمرداً كاشفاً للأوهام التي تؤسس في عزلة الحضانات إلى شعور بأنهم «الطليعة المؤمنة»، وهو من جيل لم يواجه المظلوميات القديمة لـ«الجماعة»، لكنه عاش بروباغندا «الصحوة الإسلامية» التي بشرت بها التنظيمات الإسلامية بأن الأمة استيقظت بعد هزائمها على يد الجنرالات، وتنتظر أمراء المؤمنين الذين يديرون امبراطورياتهم التنظيمية من السجون. أمراء معزولون خلف زنازين في المعتقل أو مكتب الإرشاد، يقودون جماعة معزولة خلف أوهامها القاتلة، كلهم مهاجرون من مجتمع يكفرون الحياة فيه.
خرج أحمد من الوهم عندما التقى أناساً ليسوا بالمعنى المتداول في الأفلام العاطفية العبيطة، لكنه التقى مع «الحياة التي يريد». لقاء صعب لم يتم على دفعة واحدة، وتم بمعاناة يومية. كيف يخرج من جلده وعلاقاته التي كان أسيراً داخل دوائرها، وكيف لا يفقد توازناته؟
أحمد كان وحيداً حين بدأ يحكي عن الرصاصات التي قتلت صديقاً أيام طفولته، والحياة وسط المجتمع «الإخواني». صديقه لم يكن «إخوانياً» لكنه يخرج في التظاهرات من حرقته على أخيه الذي قتل برصاصة في رأسه في «رابعة».
الحكاية الشخصية لم تعد كذلك، فالأمور في مصر لا يمكن النظر إليها بعين واحدة، أو وفق زاوية واحدة. فالذين يبكون على ضحايا «الإخوان» وحدهم لا يرون الجماهير الواسعة وهي تصفق للقتل لأول مرة في تاريخ المجتمع (المسالم بطبعه)، لكن هؤلاء كانوا ضمن جحافل تصفق وتهتف لأمراء الحرب الذين يحرضون على قتل الجميع في منصة «رابعة» نفسها. كما أن المشاعر التي تهتز مع ضحايا الشرطة والجيش ستقع في خطيئة تبرير القمع الذي يتزايد كل يوم ليس ضد المعارضين فقط، ولكن في الكمائن التي تحولت الى مصائد يمارس فيها ضباط وعساكر ساديتهم على الجميع.
كيف سيقف كل هذا الدم؟ وهل الحل أن نختار فريقاً نصفق له حين يطلق الرصاص أو القنبلة، ونبكي عليه حين يصبح جثة غارقة في دمها؟ هل سنقف طويلاً في مسافة الأسود والأسود؟

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى