في ذكرى الاحتلال الأميركي.. العراق إلى أين (عامر راشد)

 

عامر راشد

يثبت اليوم أن إدارة بوش الابن ارتكبت عام 2003 واحدة من أكبر الحماقات السياسية والعسكرية في التاريخ، بغزوها للعراق واحتلاله، تحت وقع هذيان عصابة "المحافظين الجدد" في واشنطن بمقولات "بناء شرق أوسط جديد"، مدخله احتلال مربح ومستتب وسهل في العراق يؤمن للولايات المتحدة منصة متقدمة للإمساك بالمنطقة، ظناً من منظري "المحافظين الجدد" أن الشعب العراقي كان قد وصل حينها إلى حالة من الإعياء الشديد، بفعل سنوات طويلة من الحصار الاقتصادي، والصراع الإثني، والحروب والنزاعات مع دول الجوار، والقمع الداخلي الذي أفسد الحياة السياسية وولَّد الإحباط لدى العامة وشوَّه وعيهم التاريخي.
حسابات على الورق أطاحت بها أول رصاصات المقاومة في الأيام الأولى للاحتلال، الذي كلَّف الأميركيين حسب إحصاءاتهم الرسمية أكثر من أربعة آلاف قتل وعشرات آلاف الجرحى، ومئات المليارات من الدولارات، لأنهم لم يضعوا في حساباتهم أن الشعب العراقي، مثل كل شعوب المنطقة، مزروع في وعيه الجمعي الرفض القاطع لنفوذ الولايات المتحدة وسياساتها المعادية تاريخياً لمصالحه ومصالح الشعوب المستضعفة.
وعملت واشنطن خلال سنوات احتلالها للعراق على إيجاد مسارات بديلة ومتعددة للتغطية على جذر الأزمة، المتمثلة بالاحتلال، وتحويل مسارات الرفض الشعبي والمقاوم لها، إلى صراعات فرعية طائفية ومذهبية، نجحت في تفجيرها، لكنها في الوقت ذاته فشلت في التقليل من المعارضة والمقاومة الشعبية للاحتلال، التي أجبرت الكونغرس الأميركي في نهاية الولاية الثانية لبوش الابن على إصدار قراره غير الملزم بالانسحاب من العراق نهاية العام 2009.
استفاد الديمقراطيون من القرار حينها للضغط على الخاصرة الرخوة لإدارة بوش، واستفاد منها الجمهوريون أيضاً لتخفيف الضغط على مرشحهم الرئاسي (آنذاك)، وبغية تحريره مستقبلاً من ورطة افتعال "المحافظين الجدد" للحرب وشنها، والتعنت في مواصلتها. لكن من حيث الجوهر لم تكن هناك خلافات جوهرية- مبدئية في مواقف الجمهوريين والديمقراطيين من الحرب على العراق. رغم اضطرار إدارة باراك أوباما للإعلان عن انتهاء المهمات القتالية لقوات الاحتلال الأميركي للعراق في آب/أغسطس عام 2010، واستكمال الانسحاب قبل نهاية العام المذكور، تنفيذاً للجدول الذي أعلنه أوباما بعد شهر من توليه الرئاسة مطلع عام 2009.
فالانسحاب وإنهاء الاحتلال لم يكن خياراً أقدمت عليه إدارة أوباما بمحض إرادتها لتصويب خطأ كارثي ارتكبته إدارة بوش الابن، إنما خطوة اضطرارية، سبقتها محاولات بذلتها واشنطن خلال الشهور الأخيرة من الاحتلال، عبر مفاوضات مكثفة مع الحكومة العراقية لتمديد الوجود العسكري الأميركي وإعطائه حصانة قانونية، اصطدمت برفض الغالبية الساحقة من كل الكتل البرلمانية العراقية. يضاف إلى ذلك بروز أهمية التركيز على القضايا الداخلية الأميركية على ضوء الأزمة التي ضربت الاقتصاد الأميركي خريف عام 2008، وأدت إلى فقدان ملايين الأميركيين لوظائفهم، فكان أن حسم البيت الأبيض وجهة الانسحاب العسكري من العراق.
بيّْد أن التداعيات المأساوية التي تسبب بها الاحتلال الأميركي مازالت تهدد مستقبل العراق، فالعنوان العريض لمرحلة ما بعد الانسحاب الأميركي تفرعت عنه عناوين وتساؤلات شائكة وملحة، إزاء طبيعة الدور الأميركي اللاحق، ومسار الخلافات الداخلية العراقية، والوضع الأمني ومدى قدرة الجيش العراقي على الاضطلاع بمهامه، ودور العراق العربي والإقليمي. وبرز عشية إنهاء الاحتلال إبداء قوى سياسية عراقية خشيتها من أن يكون الانسحاب الأميركي انسحاباً مزدوجاً، عسكري وسياسي، مما سيؤدي إلى فقدان عنصر توازن مهم في تركيبة للنظام السياسي العراقي القائم الذي تكون في ظل الاحتلال.
حيث لعبت الولايات المتحدة دوراً  مفصلياً في عملية كتابة الدستور العراقي الجديد، وفي التقريب بين الكتل البرلمانية لتشكيل حكومة ائتلافية عقب الانتخابات البرلمانية الأخيرة إبان فترة الاحتلال. مما استدعى في ذلك الوقت إبداء قوى سياسية عراقية مخاوف من أن مكانة العراق في السياسات الإستراتيجية الأميركية ستتضاءل ولن تكون ذات أولوية، بما سيمس فرص الحصول على ضمانات دولية بدعم العملية السياسية في العراق لتحقيق الديمقراطية.
ومرد ذلك عدم امتلاك ثقة بقدرة مكونات النظام السياسي العراقي الجديد على توجيه جهودها لبناء بلدها والابتعاد عن التدخلات الأجنبية في شؤونه، ومعالجة الاحتقانات بين الكتل الحزبية، وتحقيق مصالحة حقيقية تؤسس لدولة جديدة تنتفي منها النزعات الانفصالية والمحاصصة الطائفية ونوازع الثأر والانتقام، التي دفعت، وما زالت تدفع، بفئات واسعة من الشعب العراقي للاعتقاد بأن الفدرالية ملاذ وحيد للخلاص من الإقصاء والتهميش.
وما يعيشه العراق اليوم من أزمات سياسية وأمنية، بعد أحد عشر عاماً من الاحتلال الأميركي وما يقارب أربع سنوات من انسحابه، يؤكد أنه لم يستطع بعد التأسيس لخارطة طريق لعبور هذه المرحلة الصعبة والحساسة من تاريخه، بإتباع معايير عادلة لتوزيع الثروة الوطنية، وإجراءات منصفة في دوائر ومؤسسات الدولة، ورفع الظلم الذي تعرض له الكثيرون بسبب انتماءاتهم السياسية والتمييز الطائفي والمناطقي، وبناء علاقات تعاون واحترام متبادل مع دول الجوار.
وفي خضم الصراع الجاري منذ سنوات، لا يلوح في الأفق أن الكتل الحزبية الرئيسية والمهيمنة بصدد إجراء مراجعات تضمن تصويب أساليب عملها، والإقلاع عن ممارساتها الفئوية، التي شوهت عملية المصالحة الوطنية، وحرفتها عن مسارها المفترض. بإدارتها لأزمة النظام السياسي العراقي من منظور أمني، في وقت يسير فيه العراق في خط بياني سريع نحو الكارثة. وباستثناء الحملات الأمنية يبدو أن الحكومة العراقية لا تمتلك سيناريو بديل، ولا حتى فريق عمل يدير الأزمة بما يمنع انتشارها، ويضع برامج للسيطرة عليها.
لقد أدت الصراعات السياسية، غير مرة، إلى انفراط عقد تحالفات حزبية هيمنت على المشهد السياسي العراقي لسنوات منذ غزو العراق واحتلاله، بعد أن تقلصت إلى حد بعيد مساحة التقاطعات السياسية والبرنامجية بين الأطراف المكونة لهذه التحالفات. لكن هذا لم يصب باتجاه خروج قيادات المكونات الحزبية القائمة وقواعدها من مأزق الحسابات النفعية والعشائرية، نحو قيام علاقات وطنية على أساس مشروع وطني مشترك، يكسر سطوة النفوذ الطائفي والعشائري الذي يسمم بنية النظام السياسي العراقي والعلاقات بين مكوناته.
وتفيد التجارب المريرة التي مر بها العراق، خلال فتره الاحتلال وبعدها، أن كسر الدائرة المفرغة من الصراعات الحزبية- الطائفية يتطلب إدخال تعديل جوهري في ميزان قوى الصراعات، بمد القاعدة الحزبية إلى الفئات التي بقيت خارج اللعبة السياسية- الطائفية التي أوجدها الاحتلال، وحافظت على نقائها، ودفعت ثمن مواقفها الوطنية غالياً، فمنذ الاحتلال في العام 2003 نزفت النخب السياسية والمدنية العراقية العابرة للطوائف مئات الآلاف بين قتيل ومعتقل ومهجر، على يد قوات الاحتلال والميليشيات الطائفية.
واليوم كما في الماضي، إن التغيير المطلوب في بنية النظام السياسي العراقي نحو الأفضل مقياسه الدور الذي يعطى للقوى العلمانية والنخب الفكرية والثقافية غير الطائفية، لأنها تدرك وتؤمن أكثر من غيرها بأنه لا معنى لأي عملية سياسية لا يكون هدفها مصالحة وطنية ناجزة، وشرطها انتفاء الممارسات الفئوية- الطائفية التي يراهن أصحابها على حلول أمنية تحافظ على ميزان قوى النظام السياسي القائم. وإلا فإن القادم سيكون أسوأ.

وكالة أنباء موسكو

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى