في كواليس الشرق الأدنى (3) من أقنع جونسون بدعم الحرب على مصر؟ «العــرب فـقـاعــة صـابـون تنفجـر مع أول وخــزة» (ايريك رولو)

اريك رولو

ترجمة د. داليا سعودي

 

اتخذ قرار شن العمليات الحربية في الثاني من حزيران، وإذ أخبر إسحق رابين الحكومة في الرابع من حزيران أن قوات عبد الناصر كانت في وضعية دفاعية، بدت اللحظة مواتية لمهاجمة مصر صبيحة اليوم التالي. وفي اليوم نفسه، كان سفير بريطانيا لدى تل أبيب، الذي لم يكن على علم بما يجري، يبرق برسالة إلى حكومته، مفادها «أن الحرب لن تقع»، مستعيداً بذلك نص تصريح موشي ديان عشية اليوم السابق. وكان ذلك رأي المشير عبد الحكيم عامر، القائد الأول للقوات المسلحة المصرية… وقعت الحرب، بعد رضوخ الحكومة الإسرائيلية لضغوطات القيادة العسكرية، برئاسة اسحق رابين، رأس حربة «الحرب الوقائية». وبعد الاطمئنان إلى القرار الأميركي الذي سمح لإسرائيل بالضربة الأولى، التي كان الجنرال ديغول قد هدد بعقوبات ضد من يبادر إليها في الأزمة الناشئة بعد إقفال مضائق تيران، وإقدام الأمين العام للأمم المتحدة، على سحب القوات الدولية من سيناء.
وقعت الحرب فيما كان مبعوث عبد الناصر، يستعد للسفر قبل ساعات إلى واشنطن، لإجراء مفاوضات مع الأميركيين، متسلحاً بتنازلات حول العبور الإسرائيلي في المضائق، وتمهيد الطرق لحل سياسي للقضية الفلسطينية برمتها.
يبدو ان اسرائيل كانت بحاجة ماسة إلى حرب، فخطفت انتصاراً لساعات، دمرت سلاح الجو المصري، احتلت الجولان، اجتاحت الضفة الغربية… ومنذ ذلك التاريخ، تغير العالم ودخلت المنطقة في حقبة جديدة.
لم تكن الشعبية الجارفة التي حظي بها أبي ناتان في منتصف الستينيات بغريبة على الطفرة التي شهدها المجتمع الإسرائيلي. فقد كانت دولة إسرائيل منخرطة بالفعل في عملية اكتساب عادات برجوازية؛ وحلت صورة الرجل ذي البدلة، الشبعان، الحريص على زيادة دخله وراحة أسرته، محل الملصق الدعائي الذي كان منتشراً قبل ذلك في الصحافة، والذي كان يُظهر مزارعاً طويلاً، شاباً، رياضي الهيئة، يُفضَّل أن يكون أشقرَ، ويُرى سائراً وهو يمسك بيده المحراث، وبيده الأخرى بندقية. كان عهدُ الرواد الغزاة قد انطوى ليحلَّ محله عهد رجال الصناعة والتجارة والمصارف، وأخذ يُسر الحال يخلف الفقر الذي اتسم به «العصر البطولي» في الفترة اللاحقة لما سمي بـ«حرب الاستقلال». هكذا ما عاد السلام غايةً مُثلى بل صار ضرورةً مُلحة. في غضون خمسة عشر عاماً، تزايد عدد السيارات الشخصية بمقدار الضِعف، وصار نصف عدد البيوت يمتلك ثلاجة، وباتت تسعة من كل عشرة بيوت تملك مذياعاً؛ وأخذت الأحياء السكنية والمنازل الفاخرة وناطحات السحاب، تنمو وتتكاثر بسرعة كبيرة؛ وامتلأت الكيبوتزات (Kibboutzim) التي أعدتُ زيارتها، والتي كانت في ما مضى أشبه بدور لعبادة التقشف، بڤيللات متأنقة ومكيفة، وقاعات للقراءة مزودة بعوازل صوتية، وقاعات للحفلات الموسيقية، وحانات وصالات ديسكو ومعاهد تجميل وحمامات سباحة رائعة. ورغم ذلك كله، كان الكثير من قاطني الكيبوتزات يهجرون تلك الوحدات العمرانية الجماعية للعيش في المدن، حيث تغلب مباهجُ الحياة الفردية وإغراءات المكسب المادي. وكان معدل النمو، ونسبة الناتج القومي، قد شهدا زيادة مقدارها ثلاثة أضعاف منذ العام 1950، وزادت رقعة الأراضي المزروعة بنسبة 360%. وبفضل الدخل القومي لكل مواطن، حلت إسرائيل في المرتبة نفسها مع بلدان متقدمة مثل هولندا، وفنلندا، والنمسا. وإذ كان الإسرائيليون ينتفعون بتدفق هائل من رؤوس الأموال الأجنبية – تقدر بحوالى 400 إلى 500 مليون دولار في السنة منذ العام 1949- فقد كانوا يخصصون نحو 96% من دخلهم لنفقاتهم الاعتيادية. وهو ما دفع رئيس الوزراء ليڤي أشكول إلى مخاطبة مواطنيه قائلاً: «إنكم تعيشون في جنة الحمقى، جنة الاستهلاك الجامح». وبفضل عوامل عدة، منها موجة عمليات الخصخصة والامتيازات الممنوحة للمستثمرين، كان البلد، الذي يزهو بأنه أكثر بلدان الأرض إعلاءً للمساواة، يحوي في عام 1965 أكثر من ألفيْ مليونير جديد.
لكن «الجنة» كان مآلها أن تختفي بغتةً كالسراب. ففي غمرة النشوة العامة، قلةٌ من رجال الاقتصاد هم الذين استشرفوا الركود العميق الذي قُدِّر له أن يضربَ البلاد في الصميم قبيل أشهر قليلة من حرب الأيام الستة، والذي ساهم هذا في إشعالها. لكنه مع ذلك كان متوقعاً. فقد كان من المنتظرِ أن يتوقف في نهاية العام 1966 دفعُ التعويضات الألمانية لدولة إسرائيل ولضحايا النازية، والتي كانت تقدر بـ800 مليون دولار، كما أخذت التبرعات والإعانات القادمة من الخارج، لا سيما من الرعاة اليهود الأميركيين، في التضاؤل بسرعة كبيرة، فقد بدت لهم الدولة الصهيونية رافلةً في الوفرة والرخاء. وقد أشار تقرير أُجري على أثر استقصاء تم في الولايات المتحدة وأُرسل إلى ليڤي أشكول، إلى أن كثيراً من اليهود الأميركيين باتوا «ينسلخون عن هويتهم اليهودية»، ويسعون للاندماج في مجتمعاتهم، لا سيما عبر الزيجات المختلطة، ولا يكادون يتعاطفون مع الصهيونية، بل إن بعضهم بات يحتقر إسرائيل «لاعتمادها على أيادي البر والإحسان الدولية».
كما انهار متوسط معدل النمو السنوي من 12% إلى صفر%. وشهدت الهجرة إلى إسرائيل أدنى مستوياتها؛ أما الهجرة من إسرائيل، لا سيما إلى الولايات المتحدة، فشهدت قفزة غير مسبوقة: إذ رحل نحو مائة ألف إسرائيلي عن بلدهم في سنة 1966 وحدها، نظراً لتفشي البطالة وتفاقم الفقر، وغير ذلك من الأسباب.
كما عمقت الطفرةُ الاقتصادية من الهوةِ الفاصلةِ بين الأغنياءِ والفقراء. بالإضافة إلى ذلك، شعر اليهود الإسرائيليون بأنهم مهددون من الداخل: إذ كانت الأقليةُ العربية، الزاخرةُ بثلاثمائة ألف نسمة، تتمتع بمعدل نمو أعلى بكثير من ذلك الذي ينمو وفقاً له اليهود البالغ عددهم 2,3 مليون نسمة. وكان أفراد الفئة الأخيرة يخشَوْن أن يصبحوا أقلية في دولة اكتسبوها بشِق الأنفس. ورغم كل شيء، إذ لم تفقد روح الفكاهة مشروعيتها، انتشرت في البلد دعابةُ تغلفها المرارة، مفادها أن أحد الملصقات المعلقة في مطار «ليــــدا» (Lydda) الإسرائيلي حملت توصية لآخر مهاجرٍ خارج من البلد بألا ينسى إطفاء الأنوار قبل رحيله… ومن جانبه، كان محافظ مصرف إسرائيل المركزي، الدكتور هوروفيتز (Dr. Horowitz) ، يحمل هموماً ملموسة، وآنية على وجه الخصوص: ولانه كان قلقاً من «الكارثة» الاقتصادية والمالية، فقد قال لي في حديث أدلى به إليَّ إنه أوصى، من دون جدوى، بأن يتم تقليص النفقات العسكرية، التي كان يراها باهظة لأن نسبتها كانت أعلى من مثيلاتها في مصر، والولايات المتحدة، والاتحاد السوفياتي، وبريطانيا، وفرنسا. رغم ذلك، رفضت الهيئة العامة لأركان القوات المسلحة إجراء أدنى تقليص لميزانيتها، وأعدَّت ـ وفقاً للسجلات التي تم الكشف عنها بعد ربع قرن – مشروعات للتدخل العسكري في الدول المجاورة، في سوريا والأردن ومصر. ووفقاً للمؤرخ الإسرائيلي مايكل أورين (Michael Oren)، كان العام 1963 هو العام الذي شهد إعداد خطة «فوكس» (« Plan Focus ») التي تصف بدقة طريقة تدمير سلاح الطيران المصري على الأرض.

الخروج من عنق الزجاجة

لا شك في أنه من الطبيعي أن يسعى مسؤولو الأمن في بلد من البلدان إلى التفكير في جميع الفرضيات. ولكن في تلك الحالة على وجه الخصوص، كانت جميع الخطط المعتمدة ذات طبيعة هجومية، وتزمع احتلال الضفة الغربية، التي كانت تعد منذ 1949 جزءاً من المملكة الهاشمية، واحتلال سيناء المصرية وضفاف قناة السويس، بل واحتلال العاصمة السورية ذاتها، إذا ما دعت الضرورة. كانت تلك التحضيرات تهدف مبدئياً إلى القضاء على هجمات حركة «فتح» التي كانت قد نجحت، رغم معاداة غالبية الحكومات العربية لها، في اقتراف المئات من محاولات الاعتداء على مدار العام 1966، وذلك بفضل تواطئها مع سوريا. وقد كانت الخسائر كما الضحايا متواضعة نسبياً – إذ قُتل أحد عشر إسرائيلياً -، لكنها بدت لا تطاق بالنسبة للرأي العام، وأكثر منه بالنسبة للمسؤولين في الجيش، الذين عزموا على القتال. وفي ما يعد تجاوزاً لتوجيهات رئيس الوزراء بتوخي الحذر، أقدمت وحدة، في نوفمبر (تشرين ثاني) العام 1966، على شن غارة انتقامية على قرية «السموع» الأردنية، لتدمر مشفىً طبياً ومدرسةً ومكتب بريد ومقهىً، ولتحوِّل مئات المنازل إلى أنقاض بدون منح سكانها الوقت اللازم لأخذ أمتعتهم الشخصية. وكان من المقرر أن تقوم هذه العملية مقام تحذيرٍ لسوريا، المسؤولة الفعلية عن تسلل المخربين الفلسطينيين، لا للأردن، صديقة إسرائيل (السرية). وهو ما حدا بليڤي أشكول، الغاضب على القائمين بتلك العملية وإن احتفظ بمرحه، أن يهتف باللغة اليديشية قائلاً: «كنا ننوي قرص الحماه، فما كان منا إلا أن أوسعنا العروسَ ضرباً…».

المواجهة بين العسكر والحكومة

هكذا بدأت تبزغ بوادر المواجهة بين رئيس الوزراء وهيئة أركان الجيش. ولم يكن قرار إشعال الحرب الوقائية سهل الاتخاذ، وذلك أقل ما يمكن أن يقال. إذ اتخذ صراع القوة بين هيئة أركان الجيش، العازمة على ابتدار الحرب، وبين حكومة أشكول، المرحبة بحل سلمي، عدة أشكال: من ممارسة ضغوط، وعمليات ابتزاز، إلى رشق بالسباب، ونصب تحديات، وتهديدات مستترة بالانقلاب.
كان ذلك الصراع الغريب غير مسبوق في تاريخ الدولة الفتية؛ فقد كانت تلك هي المرة الأولى التي يطمع فيها العسكريون في فرض قرار سياسي على السلطة المدنية، كما كانت المرة الأولى أيضاً التي يتصرف فيها العسكر بصفتهم طبقة مغلقة على ذاتها. في الأشهر الأولى من عام 1967، كان الجنرال رابين (Rabin)، رئيس أركان الحرب، يناوش الحكومة، بمساندة من زملائه، للحصول على تصريح بشن هجوم واسع النطاق ضد سوريا، بل لإطاحة حكومة دمشق البعثية، المسؤولة وحدها برأيه عن الحوادث الواقعة على الحدود. وقد قاوم ليڤي أشكول ذلك إذ أوضح، ضمن أسباب أخرى، أن مثيلة تلك المبادرة ستستثير غضب الاتحاد السوفياتي، صديق سوريا وحاميها، وستحشد العالم العربي، وعلى رأسه مصر، ضد إسرائيل. وأضاف رئيس الوزراء أن حوادث الحدود لا تبرر بأي حال من الأحوال، رد فعل بمثل هذا العنف، لأن تلك الحوادث لا تهدد وجود إسرائيل. وكان الجنرالات الإسرائيليون متفقين على ذلك، لكن كان في تقديرهم أن الإجراءات المستفزة التي اتخذها عبد الناصر في النصف الثاني من شهر مايو (أيار) يجب ألا تبقى بغير رد مخيف. وإن لم يتم ذلك، فستتضرر قدرة إسرائيل الرادعة وستهتز مصداقيتها بصورة خطيرة. واقترحوا شن هجوم يبيد الجيش المصري وربما أيضاً النظام الناصري ذاته.
ولم تكن حججهم تخلو ظاهرياً من الحصافة، إذ كـــان تركّز القوات عند حدود سيناء، وإغلاق مضيقي تيران أمام الســفن التي ترفع العـــلم الإسرائيلي، واتفاقيات الدفاع المشترك التي أبـــرمها عبد الناصر بدايةً مع ســوريا، ثـــم مع الأردن، والتضامن (الشفــهي) الذي عــبرت عنه عــدة دول «شقيقة»، كلهــا تمثل تصعيداً من شأنه أن يفضي إلى هجوم عام يشنه العالم العربي.
كان الجنرال ياريڤ (Aharon Yariv)، رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية (آمان AMAN-) ، يرسل، يوماً بعد يوم، تقارير تنذر بأعلى مستويات الخطر: فتارة يكتب إن طائرات مصرية تحلق فوق المنشآت النووية في ديمونا استعداداً لقصفها، وتارة يكتب إن القوات المصرية المرابضة على الحدود، المتزايد عددها يوماً بعد يوم، قد أعلنت حالة التأهب بعد أن تم تحديد موعد الهجوم، وان تلك القوات مزودة بأسلحة كيماوية وإشعاعية، وان الكارثة على الأبواب…
ونظراً لمساورة الارتياب لليڤي أشكول ووزرائه، فقد ظلوا متشككين في موثوقية المعلومات التي كان يزودهم بها رجالٌ عُرفوا باتقاد الحمية القتالية. ولم يكن رجال الحكومة مخطئين في شكهم، فقد تبين لاحقاً أنهم كانوا مستهدفين بحملة تضليل. وقد أكد ذلك الجنرال رابين بنفسه في حوار صحافي أدلى به إليّ في فبراير (شباط) 1968، بعد الحرب بثمانية أشهر، وأحدث صدىً كبيراً في إسرائيل وفي الخارج. ففي الحوار، الذي نُشر على الصفحة الأولى من صحيفة «لوموند» (Le Monde)، أقر رئيس أركان الجيش الإسرائيلي بصراحة مثيرة للعَجب قائلاً: «لا أعتقد أن عبد الناصر كان راغباً في الحرب. إذ لم تكن الفرقتان اللتان أرسلهما إلى سيناء يوم 14 مايو (أيار) تكفيان لشن هجوم على إسرائيل. كان كلانا يعلم ذلك، هو ونحن… كنا نعلم أنه يتظاهر». في حقيقة الأمر، كانت مدافع الدبابات مدفونة في الرمال، ولم تكن في وضعية الضرب، وهي طريقة تقليدية لإفهام العدو غياب أي نية في القتال.
كما أكد رابين أيضاً، رغم دفاعه عن حرب إسرائيل الوقائية، أن عبد الناصر لم تكن لديه النية أصلاً لإغلاق مضيقي تيران، لمعرفته أن إسرائيل ستعتبر ذلك الفعل بمثابة ذريعة للحرب، لكنه ظن نفسه مضطراً لذلك حين سحب يو ثانت ( U Thant) جميع قوات الأمم المتحدة من سيناء، بما فيها تلك المتمركزة عند مدخل المضيق. وقد تأكد هذا الرأي بعد الحرب على لسان العديد من المسؤولين الكبار في تلك الفترة.
وقبل رابين، كان رئيس الوزراء ليڤي أشكول قد صرح، في أكتوبر (تشرين أول) من عام 1967، لصحيفة «يديعوت أحرونوت» (Yediot Akharonot ) قائلاً: «كان نشر القوات العسكرية المصرية في سيناء عشية الحرب إجراءً دفاعياً». وقد اعترف غيره من الجنرالات والسياسيين، على مر السنين، أن حملة تضليل كانت قد أطلقت لتبرير تلك الحرب التي قيل إنها وقائية. فعلى سبيل المثال، صرح مناحم بيغن (Menahem Begin)، زعيم اليمين القومي، عام 1982 قائلاً بلا مواربة: «لم تكن تركيزات القوات المصرية تدل على أن عبد الناصر كان راغباً في الحرب. (…) لنكن أمناء مع أنفسنا، لقد كنا نحن من قررنا ابتدار الأعمال الحربية». كانت عدة أسباب تدفع بصقور القيادة الإسرائيلية العليا في ذلك الاتجاه: فقد كانوا يريدون الثأر لفشلهم في غزو سيناء العام 1956، حين اضطر الجيش اليهودي إلى التراجع رغم نصره العسكري، كما كانوا يريدون الاستفادة من الخطوات الخاطئة التي اتخذها ناصر لكي يدمروا قواته المسلحة ويطيحوا نظامه بضربة واحدة، فقد كان زعيم العالم العربي بلا منازع يُعد عدو الدولة العبرية الأخطر.
حتى وإن لم تكـــن حرية الملاحة في مضيقي تــيران ضرورة حيويـــة، وفقاً لما أكــدته الحكومة، كان ينبغي رفع تحدي «الريّس». تلـــك هي الظروف التي شهــدت رفــض العرض غير الرسمي الذي تقدمت به مصر لسحب قواتها من سيناء ـ لتُعيد بذلك حرية الملاحة في مضيقي تيران – في مقابل تعهد إسرائيلي بعدم الهجوم على سوريا. فلقد كان العسكر عازمين على القتال.
من جانبها، كانت حكومة أشكول مدفوعةً بشواغلَ أخرى ذات طابع بالأحرى جيوستراتيجي. فقد كان الوزراء مجمعين على أن مبدأ ابتدار حرب يعد أمراً خطيراً على المستوى الدولي، وبخاصة حين لا يكون هناك ما يُثبت أن العدوَ يوشك على شن عدوان. فقد تجد إسرائيل نفسها معزولةً لا سيما انها لم تكن تحظى بمساندة أي قوة غربية. وقد أكدت مهمة الاستكشاف الأولى الموكلة إلى أبا إيبان رأي ليفي أشكول ورفاقه. فقد اصطدم وزير الخارجية الإسرائيلي بدايةً باستقبال بارد من قبل الجنرال ديغول. بالطبع أعلن هذا الأخير تأييده لإعادة حرية الملاحة في مضيقي تيران، لكنه أنذر المبعوث الإسرائيلي بجفاء أن فرنسا ستعاقب الدولة التي «ستطلق أول عيار ناري». كما انه قد قرر حظراً على إمدادات السلاح لإسرائيل منذ بدء الحرب. وكان رئيس الدولة الفرنسية بعيد النظر، إذ كان يبصر ما يتجاوز بمراحل النزاع الإسرائيلي المصري ؛ فكما شرح لقادة ألمانيا الغربية، بعد الحرب بشهر، تخدم هزيمة مصر الناصرية أول ما تخدم مصالح الولايات المتحدة، التي اتهمها ديغول بإضمار طموحات تسعى للهيمنة على الشرق الأوسط.
أمـــا الرئيس جونــسون، الذي كان يقــــدِّر مدى التهديد الذي يمـــثله عبد الناصــــر على المصالـــح الأميركية، فما كان على الأرجح ليعــــارض رأي الجـــنرال ديغول، لكن الغريب هو أنه هو أيضاً لم يكن مؤيداً لهجوم إســـرائيلي «وقـــائي»، على الأقل مبدئياً. وكـــانت تحفظـــاته تعود إلى ثلاثة أسباب على الأقل: فهـو لم يكن ـ بعد ُـ متـــأكداً من أن إسرائيل ستكسب الحرب، كما أنه كـــان حريصاً على التزام موقف محايد خشية استــثارة العالم العربي الــــذي يمتلك سلاح النفط، وإضـــافة إلى ذلـــك، لم يكن جونسون يريد إعطاء الســـوفيات ذريعة للتـــدخل لصالح حلفـــائهم في المنطقة. وأخـــيراً وليـــس آخراً، ما كانت الولاياــت المتحدة لتسمح لنفسها بالتورط في نزاع بينما كانت جيوشها غارقةً في حرب فيتنام.
هكذا إذن عاد أبا إيبان بخفي حنين إلى القدس، مبرراً بذلك حذر الحكومة. لكن، الجنرالات، الذين أبدوا عناداً نادر الوجود، استمروا بلا هوادة في حضِّ السلطة المدنية على إعطائهم الضوء الأخضر لتنفيذ مشروعهم. وإذ تمت دعوتهم لحضور اجتماعات مجلس الوزراء، تحوَّل الحوار الدائر بين المعسكريْن إلى حرب كلامية، راحت تزداد عنفاً أكثر فأكثر.
وعلامةً على الاحتقار، أطلق الجنرال رابين وزملاؤه في القيادة العسكرية العليا على ليفي أشكول ورفاقه اسم «اليهود»، وهو ما يشير في أعينهم إلى أشخاص وُدعاء، وجبناء ومترددين، على شاكلة يهود الشتات الذين «استسلموا للإبادة على يد النازيين بلا مقاومة»، وفق رأي شائع للغاية. أما جنرالات هيئة أركان الحرب العامة، البالغة أعمارهم الأربعين عاماً في المتوسط، فكانوا في معظمهم من اليهود «الصابرا» (sabras)، المولودين في إسرائيل والذين كانوا يدعون أنهم «يهود جدد» أنجبتهم دولة إسرائيل، ليكونوا شجعاناً، ومقاتلين في مواجهة الخصم. ولم يكن ليڤي أشكول بأقل تحقير لهم وهو يشير إليهم، أثناء اجتماعات الوزارة، ملقباً إياهم بـ«بروسيِّينا» ( « nos Prussiens »). وكان قد هتف في أحد الأيام أثناء مخاطبته محدثيه العسكريين قائلاً: «إلى متى سنظل نحيا بحد السيف؟ ».
وبدءاً من 20 مايو (أيار)، زاد اسحق رابين والجنرال ياريڤ، رئيس الاستخبارات العسكرية، من حدة نبرتهما وهما يطالبان بأن يتم فوراً شن ما سموه، بمنتهى الجرأة، بـ«الحرب الوقائية»، مؤكدين أنها ستسمح، بفضل أثرها المفاجئ، بتدمير سلاح الطيران المصري أرضاً. ويوم الرابع والعشرين من الشهر نفسه، لم يتردد الجنرال عزرا وايزمان (Ezer Weizmann)، مساعد رئيس أركان الحرب وابن شقيق حاييم وايزمان (Haïm Weizmann)، زعيم الحركة الصهيونية، في اتهام الوزراء بـ«تعريض وجود إسرائيل ذاته للخطر». وفي يوم السادس والعشرين، هاجم رابين بفظاظة زورا وارهافتيج (Zorach Warhaftig)، وزير الشؤون الدينية، المنادي دوماً بالسلام.
وبدت الصورة المترائية طافحة برمزية المواجهة ما بين «البروسي» و«اليهودي». فقد كان وارهافتيج، الناجي من غيتو وارسو، الذي يتكلم العبرية بلكنة يديشية واضحة، أحد مؤسسي دولة إسرائيل. كان مقيماً لواجباته الدينية، معتمراً الكيبا، وراح في ذلك اليوم يتظاهر بتجاهل صفاقة محدثه الشاب المحتد، بينما تمسك بمعارضته للحرب. وفي يوم الثامن والعشرين، كان اجتماع مجلس الوزراء، الذي دُعي إليه الثمانية عشر جنرالاً المكونين للقيادة العليا، اجتماعاً حامي الوطيس، إذ تهجَّم بعض العسكريين بالسب والقذف على الحكومة وليفي أشكول على وجه الخصوص، متهمين إياهم باقتياد عشرات الآلاف من الإسرائيليين إلى مذبحة، وبإضعاف معنويات الرأي العام والجيش (كان مائة ألف جندي احتياطي قد استدعوا للانخراط تحت الألوية)، وبقصم وحدة الأمة، وباقتياد البلاد إلى «محرقة جديدة». وعقب أحد تلك الاجتماعات العاصفة، خطَّ إسرائيل ليور (Israël Lior)، المستشار العسكري الوفي لرئيس الوزراء، ملاحظةً كتب فيها: «لقد تساءلتُ إذا ما كانوا يسعون لتركيع الوزراء أم لحملهم على الإجهاش بالبكاء.» مع ذلك، لم يفقد ليفي أشكول رباطة جأشه، رغم أن كل حججه كانت محط السخرية بانتظام؛ كما لم يطلب من منتقديه الوقحين الانسحاب، ولم يبرح هو الاجتماع على سبيل الاحتجاج. ظل يردد بهدوء قائلاً: «لن نعلن الحرب ما دمنا لا نحظى بتأييد إحدى القوى الغربية الكبرى». وكان قد تلقى في اليوم نفسه خطاباً من الرئيس جونسون يوصيه فيه بعدم بدء الأعمال الحربية. ومن المثير للاستغراب أن اثنين من «الصقور» البارزين، هما بن غوريون ومناحم بيغن، كانا يشاطران ليفي أشكول رأيه رغم معارضتهما لحكومته. بل قطع بن غوريون في ذلك شوطاً أبعد إذ وبَّخ رابين، حين جاء يستشيره، لكون رابين المسؤول الأول عن الأزمة نظراً لأفعاله العدوانية وتصريحاته المتوعدة. وإذ تعرض رئيس أركان الحرب للتأثيم من قِبل رجل يكنُّ له تقديراً عميقاً، فقد انغمس في حالة اكتئاب دامت يومين. وقد أسرَّ ليڤي أشكول إلى المقربين منه أن الجو العام يبدو مؤذناً بعصيان، بل بانقلاب عسكري. ولم يكن مخطئاً في ذلك، فقد اقترح الجنرال أرئيل شارون (Ariel- Arik Sharon) على رابين، بعد ذلك بيومين، أن يتزعم هذا الأخير انقلاباً وأن يكوِّن حكومة عسكرية. ويبدو أن بن غوريون كان على علم بما يُحاك وراء الكواليس، فقد سارع بالتصريح علانيةً ان «الجيش في بلد ديمقراطي… لا يأتمر إلا بأوامر حكومة مدنية». وأخذاً في الاعتبار ما يتمتع به بن غوريون من هيبة طاغية، فمن المؤكد انه أخمد عزم المغامرين الذين كانوا يريدون تحويل دولة إسرائيل إلى جمهورية من جمهوريات الموز. إذ لم يكن مؤسس دولة إسرائيل يعتقد، هو الآخر، أن عبد الناصر سيبادر بشن الحرب.

جونسون يغير رأيه

في تلك الأثناء، كان الرئيس جونسون يتعرض لضغوط من قبل العديد من اللوبيهات الموالية لإسرائيل لدفعه إلى الموافقة على مشروع هيئة أركان الحرب الإسرائيلية. كان الرئيس الأميركي يكن محبة صادقة للسامية، وكان قد أثبت ذلك قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية، حين كان يشغل مقعداً في الكونغرس ثم في مجلس الشيوخ، إذ أدخل خفيةً إلى الولايات المتحدة مئات اليهود الفارين من النازية، بواسطة جوازات السفر والتأشيرات المزورة التي كانت تسلم إليهم. وقد أقدم على ذلك معرضاً نفسه لخطر الطرد من البرلمان وقضاء عقوبة في السجن. وفي العام 1934، إذ كان في التاسعةِ والعشرين من عمره، كان بالفعل مدركاً لخطر الأيديولوجية الهتلرية، إذ قدّم لكتاب ضم مجموعة مقالات بعنوان: «النازية وهجومها على الحضارة»، ألفته كلوديا تايلور (Claudia Taylor)، البالغة من العمر آنذاك واحداً وعشرين عاماً، والتي تزوجها جونسون بعد ذلك بقليل.
وفي العام 1945، زار جونسون معسكر اعتقال «داخاو» (Dachau)، الذي «عاد منه محزوناً منهاراً من جراء الرعب الذي طالعه هناك»، وفقاً لما قالته زوجته. فهل كان جونسون صهيونياً؟ يمكن الاعتقاد بذلك لو تأملنا التأثير الذي كان لعمته عليه منذ نعومة أظافره. فقد كانت العمة جيسي (Jessie) عضواً نشطاً في المنظمة الصهيونية الأميركية. وتشير سجلات الأرشيف، التي تم الإفراج عنها في عام 2008، إلى أن جونسون كانت تربطه «علاقات عاطفية» بالدولة العبرية الفتية.
وفقاً للسفير الأميركي السابق ريتشارد باركر (Richard Parker)، رغم شعور جونسون بخيبة أمل أليمة إزاء معارضة نصف اليهود الأميركيين لحرب فيتنام، فقد أحاط نفسه بالعديد من الشخصيات العامة اليهودية، ما بين أصدقاء مقربين أو مؤتمنين على أسرار، كانوا يساندونه تحسباً للانتخابات الرئاسية في العام التالي. كانوا جميعاً من غلاة الصهاينة، وعمل بعضهم سراً كوسطاء بين واشنطن والقدس. كان أحدهم، وهو أبي فينبرج (Abe Feinberg)، مبعوثه المفضل إلى ليڤي أشكول. كان فينبرج مصرفياً مليارديراً، وراعياً ذا أيادي بيضاء على الحزب الديمقراطي، وكان قد موَّل انتخاب الرئيس ترومان، الذي كان صديقه هو الآخر. كان هناك أيضاً ديڤيد چينسبرج (David Ginsberg)، المحامي الكبير، الذي كان سنداً ثميناً جداً لحل المشكلات القانونية الصعبة. وكان ثمة مستشار آخر، يُلتجأ إليه تحت أقصى درجات السرية نظراً لحساسية المنصب الذي كان يشغله، ألا وهو قاضي المحكمة العليا، آبي فورتاس (Abe Fortas)، الذي كان كثيراً ما يُستقبل في البيت الأبيض. كمـــا كان آرثر كريم (Arthur Krim)، مالك شـــركة الإنتاج السينمائي «يونايتد آرتستس» (United Artists)، وزوجتـــه الإسرائيلية ماتيلدا، يعيشان في كنف الرئيس جونسون. كانت ماتيـــلدا إمـــرأة هيـــفاء، شقراء، بارعة الحُسن والبهاء، علاوةً على كونـــها عالمة أحياء نابهة. وكــــانت كــــثيراً ما تقيم في البيت الأبيض، حيث خُصصت لها غرفةٌ في الطابـــق الثالث. فــــكانت تلتـــقي بالرئيس أو تحـــادثه عبر الهاتـــف عدة مرات في اليـــوم. وقد كذَّبت دوماً انها كانت عشــيقته أو انها كــانت عمــيلةً للحــكومة الإسرائيلية.
غير أن استحسانها لأطروحات «البروسيين»، وتأثيرها على جونسون، كانا حقيقتين لا تقبلان المنازعة. هكذا انتهى الأمر بالرئيس إلى التسليم بالاقتناع. وقد أضيفت إلى مرافعات أصدقائه الصهاينة، تقاريرُ البنتاغون وأجهزة الاستخبارات، المرحبة بالحرب، بينما احتفظت وزارة الخارجية بمعارضتها التامة لها، حرصاً على الإبقاء على علاقات طيبة مع الدول العربية. لكن ظل مسؤولو الأمن يؤكدون للرئيس أن إسرائيل قادرة على إحراز نصر كاسح وسريع (لن يستغرق أكثر من أسبوع، على حد توقعاتهم) وغير مكلف. وكانوا يستشهدون، بين مرجعيات أخرى، بالأحاديث التي كانوا قد تبادلوها مع مائير عاميت (Meïr Amit)، رئيس الموساد، جهاز مكافحة الجاسوسية الإسرائيلي، الذي كان هو نفسه من أشد مناصري الحرب الوقائية. كانت بياناته ذات الطابع العسكري الصارم، والمتوافقة مع مشروعات القيادة العليا للدولة العبرية، لا تترك مجالاً للشك حول نتيجة النزاع. وقد كان مقنعاً للغاية لا سيما ان وكالة المخابرات المركزية (C.I.A)، كانت ـ وفق وثائق الأرشيف ـ قد انتهت عبر وسائلها الخاصة إلى استنتاجات مطابقة، بالارتكاز على تقديرٍ لتناسب القوى. وكان ذلك هو رأي أجهزة المخابرات الفرنسية أيضاً. مما يفسر، جزئياً، اقتناع الجنرال ديغول بأن مبادرة إسرائيل بشن الحرب ستنتهي بالضرورة إلى ازدياد النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط. كان الجنرال أوزي نركيس (Uzi Narkiss)، عضو هيئة الأركان العامة، وأحد محرزي النصر في حرب الأيام الستة، لا يكف أثناء مجلس الوزراء عن ترديد قوله: «و لِمَ الانتظار؟ ما العرب إلا فقاعة صابون لن تلبث أن تنفجر مع أول وخزة». ولما تأكد للرئيس جونسون أن الولايات المتحدة لن تُضطر للتدخل لمساعدة الجيش الإسرائيلي وأن سقوط النظام الناصري كان كله محض فوائد، فقد منح مباركته للـ«حرب الوقائية». فلم ينقضِ أقل من أسبوع إلا وكان جيش الدولة العبرية قد شن العمليات الحربية.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى