في مئوية «ميسلون»: يوسف العَظْمَة… العثماني الأخير والمشرقي السوري الأول
تحتلّ معركة ميسلون، 24 تموز/ يوليو 1920 مكانة فريدة في تاريخ ووِجدان الوطنية السورية. ولَئِن كانت السرديات التراجيديّة الكبرى تقوم على الدم، فإنّ سردية الوطنيّة السورية تبدأ بميسلون؛ هي بالنسبة إليها، معمودية الدم، كربلاؤها، ويوسف العظْمَة حُسيْنها. وكما رفعت دماء الحُسين سقفاً عالياً لمفهوم الحق والعدل ظلّ مُحبو «آل البيت» ينوؤون بأعباء مطاولته، جيلاً بعد جيل، كذلك رفع خروج العظْمَة إلى مَقتلته في ميسلون بكامل وعيه، سقفاً عالياً للوطنية، ما انفكّ السوريون يدفعون ضرائبه مذاك. وهكذا أصبحت المقاومة والتحدّي والعناد من خصائصه الثابتة على اختلاف العهود.
ولأن العظْمَة لم يكن مجرّد فرد من عامة الشعب، بل وزيراً للحربية وقائداً للجيش، فإنّ مصرعه التراجيدي على خطوط النار أصبح أمثولة لأجيال تأتي من الضباط الوطنيين. ولعلّ ذلك يفسّر ارتفاع نسبة كبار الضباط بين شهداء وجرحى الجيش العربي السوري على مدى تاريخه. كذلك، فإنّ رفض العظْمَة الامتثال لإنذار الجنرال غورو والذي أفضى إلى تلك المواجهة، أصبح تقليداً راسخاً للوطنية السورية؛ من تحدّيها لمشاريع ترومان وأيزنهاور وحلف بغداد في الخمسينات، وحتى إنذار كولن باول وإملاءات جيمس جيفري بالأمس القريب.
كثيرة هي النصوص التي تناولت وقائع معركة ميسلون، والملابسات التي أحاطت بها، وسيرة حياة بطلها. ولسنا هنا بصدد مجرّد استعادتها؛ بل سنسعى أساساً إلى إضاءة بعض الجوانب التي غيَّبتها، بل وحرَّفتها، بعض الروايات الشائعة غالباً لتتساوق مع السردية الزائفة لـ«الثورة العربية الكبرى». وبدلاً من حصر الحدث في إطار الكيان السوري، الوليد الذي لم يكن آنذاك قد أتم شهره الخامس، ولم تكن له حدود معروفة، أو يحظى بأيّ اعتراف دولي، فإنّنا سنتأمّله في سياق المناخ الإقليمي الذي ساد المشرق الكبير إبان هزيمة الدولة العثمانية وانهيارها في الحرب الكبرى. أمّا سيرة الشهيد العظْمَة، فسنجد أنها كانت في معظمها نموذجاً لحياة ضابط وطني لامع من صُلب النخبة العسكرية العثمانية.
ولد يوسف بن ابراهيم باشا العظمة، وليلى الشربجي، في حي الشاغور الدمشقي، يوم 9 نيسان/ أبريل 1884، لأسرة دمشقية عريقة كان مؤسّسها حسن بك تركمان الشهير بالعظَمة قائداً عسكرياً عثمانياً بارزاً، استقر في حي الميدان (باب المُصلّى) مطلع القرن السابع عشر، قادماً من قونيا. وخلافاً لنزوع معظم العائلات الدمشقية المرموقة إلى العمل في التجارة والصناعة، حافظت عائلة العظمة على تقاليدها العسكرية لقرون، وبرز منها العديد من كبار الضباط والإداريين. وهكذا، فما أن أتمّ الصبي يوسف تعليمه الابتدائي في العام 1893، حتى انتسب إلى المدرسة الرشدية العسكرية في دمشق، ومنها انتقل، في العام 1897، إلى المدرسة الإعدادية العسكرية. مع مطلع القرن العشرين، انتقل الشاب اليافع إلى اسطنبول لمتابعة تحصيله في مدارسها العسكرية، ليتخرّج، في العام 1903، من المدرسة الحربية العليا (شهانه) ضابطاً برتبة ملازم ثاني. أواخر 1906، تخرّج من كلية الأركان الحربية في اسطنبول برتبة نقيب ركن (يوزباشي)، وأُسندت إليه مهام عسكرية عديدة في دمشق وبيروت ثم الأستانة.
من الواضح أن الأداء الأكاديمي للضابط الشاب يوسف كان لافتاً. وقد أهَّلَه ذلك، فضلاً عن إتقانه للغة الألمانية، إلى جانب الفرنسية والإنكليزية، للإيفاد إلى برلين، في العام 1909، لمتابعة الدراسة العليا في كلية الأركان البروسية Kriegsakademie، وكانت يومئذٍ الأرقى بين نظيراتها في العالم. ولتقدير قيمة هذه الحظوة الاستثنائية، مقارنة مع تعيينات بعض ألمع زملائه الخريجين في تلك الفترة، نجد، مثلاً، أنّ كلاً من مصطفى كمال (أتاتورك لاحقاً) وياسين الهاشمي (لاحقاً رئيس الحكومة العراقية 1935 ـــــ 36) اللذين تخرّجا قبله بعام، قد أُرسِلا إلى دمشق للتعليم في مدرستها العسكرية الإعدادية، فيما أُرسل عزيز علي المصري (لاحقاً الضابط المخضرم والأب الروحي للضباط الأحرار في مصر) للخدمة في مقدونيا، ولم يحْظَ أي من الثلاثة بالإيفاد إلى برلين.
خلال فترة تدريبه في كلية الأركان البروسية، قام العظمة بترجمة كتاب مدرسي واحد على الأقل، إلى التركية. وإبان تخرّجه منها، 1911، عُيِّن العظمة ملحقاً عسكرياً في المفوضية العثمانية السامية في القاهرة. لكنّه سرعان ما استُدعي في العام التالي إلى هيئة الأركان في الأستانة لتكليفه ببعض المهام الخاصة في جبهات حرب البلقان 1912 ــــــ 13. مع اندلاع الحرب الكبرى أواخر تموز/ يوليو 1914، عُيّن العظمة، بداية، رئيساً لأركان الفرقة 20 مشاة (الفيلق 15) لمؤازرة الحلفاء الألمان والنمساويين ضد روسيا على جبهة غاليسيا (حالياً على الحدود الأوكرانية ــــــ الهنغارية)؛ ثمّ رئيساً لأركان الفرقة 25 مشاة (الفيلق 6)، في الحملة على رومانيا، 1916 ــــــ 17. ثمّ عاد إلى الأستانة ليُعيَّن معاوناً لناظر الحربية، أنور باشا، ويرافقه في جولة تفقّدية على جبهات شرق الأناضول والعراق وسوريا. بعدها عُيّن رئيساً لأركان الجيش الثاني في القوقاز (كان مصطفى كمال قائد الفيلق 16 فيه). وأخيراً، عُيّن رئيساً لأركان الجيش الأول في العاصمة اسطنبول. ومع أنّ الحرب انتهت بهزيمة وانهيار الدولة العثمانية، فإنّ العظمة خرج منها ضابطاً مخضرماً برتبة قائم مقام (عقيد ركن)، وهي مرتبة رفيعة جداً لشاب لم يتجاوز الرابعة والثلاثين.
لا تُسعفنا المراجع التاريخية المُتاحة الآن، بالكثير من المعلومات عن السجل العسكري للعظمة خلال الحرب الكبرى، وثمة تجاهل مريب لذكره في المراجع التركية الحديثة. وما ذكرناه هنا استند أساساً إلى ما أورده خير الدين الزركلي في كتابه «الأعلام» (1)، مع بعض الإضافات من مصادر متنوعة، وأخرى استخلصناها من التاريخ العسكري للحرب العالمية الأولى، بتتبع الخيوط التي قدّمها لنا الزركلي. وسيتطّلب الأمر جهداً بحثيّاً في الأرشيف العثماني، لتكوين صورة أشمل عن سيرة الشهيد على مدى ثمانية عشر عاماً من خدمته في الجيش العثماني.
إحدى الصعوبات التي تواجه الباحث في مساهمات العظمة خلال تلك الحرب، هي أنّ المراجع التاريخية تذكر عادة أسماء قادة الوحدات العسكريّة (جيوش، فيالق، فرق)، ولا تذكر أسماء رؤساء أركانها. ولأنّ المناصب التي تقلّدها العظمة، كما رأينا، اقتصرت على رئاسات الأركان، فإنّنا لا نجد له ذكراً في تلك المراجع. ويمكننا تفسير ذلك بأنّ العظمة كان ضابطاً تغلب عليه الحِرفية العسكرية، ولم يكن بحال سياسيّاً متحزِّباً. وما ذكره مايكل برو ڤنس (2)، بالاستناد إلى أدهم آل جندي، عن انتماء العظمة إلى جمعية «الاتحاد والترقي»، لا يقوم على أساس، ولم نجِد له أثراً في كتاب آل جندي (3). كذلك، ليس دقيقاً أنّ العظمة كان ناشطاً في الجمعية «العربية الفتاة»، كما يورد العديد من المراجع، للإيحاء بأنّه كان معارضاً للدولة العثمانيّة، والحقيقة أنّ الجمعيّة منحته اللقب الشرفيّ «عضو مؤسّس»، قبل استشهاده بحوالى شهرين فقط، عقب تعيينه وزيراً للحربية، بعدما أصبحت بمثابة «حزب السلطة» الذي يضمّ تلقائياً كلّ أصحاب الشأن في المملكة الفيصليّة. أمّا ثالثة الأثافي، فهي الزعم الشائع بأنّ العظمة انشقّ عن الجيش العثماني ليلتحق بـ«الثورة العربيّة الكبرى». ولم ينجُ من مثل هذا الهراء حتى مؤرّخ مرموق مثل فيليب شكري خوري (4). وأخيراً وآخراً، ليس صحيحاً أنّ زوجته التركية «منيرة» كانت ابنة جمال باشا (السفاح)، فالأخير يكبره بأحد عشر عاماً فقط. وخلافاً لياسين الهاشمي وفوزي القاوقجي، اللذين خدما تحت إمرة جمال في الجيش الرابع، لا توجد في حياة العظمة تقاطعات تُذكر مع الأخير.
بعدما وضعت الحرب أوزارها بهزيمة الدولة العثمانيّة، وقبولها بالشروط المُهينة لهدنة مودروس، 30 تشرين الأول/ أكتوبر 1918، عاد العظمة إلى مدينته دمشق، بعد نحو عقدَين من الغياب. ولنا أن نتصوّر مقدار صدمته بما طرأ عليها من تغيّرات، وصولاً إلى وقوعها تحت الاحتلال البريطاني، وحكم حلفائه الهاشميين. كان الأمير فيصل الذي دخل دمشق مع صديقه لورنس والجنرال أللينبي، على رأس قوات من البدو وبعض الضباط العرب الذين جنَّدتهم المخابرات البريطانية، غالباً بعد وقوعهم في الأسر، في أمَسّْ الحاجة إلى شخصيات وطنية سورية مرموقة؛ من ناحية لتحسين صورته لدى السوريين الذين استقبلوه ببرود وتوجُّس، ومن ناحية أخرى، لتعزيز موقفه إزاء حليفه أللينبي، وغريمه الجنرال غورو، الذي كان يدرك نواياه تجاهه. وهكذا، ضمّ العظمة إلى فريقه كمستشار عسكريّ، ثمّ كممثّل لحكومته في بيروت، وفيها بدأ بإقامة صِلات مع الوطنيين في جبل عامل وسهل الحولة.
بحلول الربيع التالي، كانت القوّات البريطانيّة قد أحكمت سيطرتها على العراق ومعظم سوريا الطبيعية، وانتشرت القوّات الفرنسية، الفيلق الأرمني تحديداً، في شمالها الغربي. كما أحكم الحليفان سيطرتهما حول اسطنبول والمضائق، ثم بادرت قوات إيطالية إلى احتلال أنطاليا، وأخرى يونانية إلى احتلال إزمير وغرب الأناضول. وفي مصر، اندلعت انتفاضة شعبيّة عارمة ضد الاحتلال البريطاني، بقيادة سعد زغلول باشا. أواسط الصيف، انطلقت المقاومة المسلّحة ضد الاحتلال اليوناني في غرب الأناضول، بقيادة مصطفى كمال، فيما تقدّمت القوّات الفرنسية ــــــ الأرمنية من الغرب للحلول محلّ البريطانية في مرعش وعينتاب وأورفا. بحلول الخريف، أكملت القوات البريطانية الانسحاب من سوريا (عدا فلسطين وشرق الأردن)، فيما نزلت القوّات الفرنسية بقيادة الجنرال غورو في بيروت، لتنتشر لاحقاً على طول الساحل السوري، فتصطدم على الفور بالمقاومة المسلّحة في جبال العلويين، بقيادة الشيخ صالح العلي، والدنادشة في تل كلخ، والفواعرة في مرجعيون والحولة، لتنضمّ إليها لاحقاً، ثورة إبراهيم هنانو في الشمال. وفي الشرق، مطلع 1920، تمكّنت قوات رمضان الشلاش، زميل العظمة في اسطنبول، من طرد الإنكليز من دير الزور، مُطلقة شرارة «ثورة العشرين» على امتداد العراق. بعدها، اندلعت انتفاضة القدس (النبي موسى) ضدّ الإنكليز والاستيطان الصهيوني، في نيسان/ أبريل 1920، لتعمّ كلّ فلسطين.
في نيسان/ أبريل أيضاً، أُعلنت مقرّرات مؤتمر سان ريمو الذي شرعن صفقتَي «سايكس ـــــ بيكو» و«جورج ـــــ كليمنصو»، و«إعلان بلفور»، وأقرّ مُسودة ما سيصبح «معاهد سيفر»، لتفتيت وتقاسم الأناضول التركي بالطريقة عينها، فيما بدأ الكماليون بطرد القوّات الفرنسية من مناطق أورفا، والضغط عليها في كيليكيا وكلز وعينتاب. وعليه، بات الجنرال غورو في أمسّ الحاجة إلى استخدام سكة حديد رياق ــــــ حلب لإرسال تعزيزات إلى تلك الجبهات، وطلب ذلك صراحة من فيصل، وهو ما رحّب به رئيس وزرائه، علي رضا الركابي، الذي رأى فيه «فرصة للانضمام إلى الفرنسيين في دفاعهم عن شمال البلاد، وتقوية الصداقة والمودّة معهم» (5). بيد أن غورو رفض دفع الأثمان التي طلبها فيصل لقاء ذلك، واضطر إلى نقل قوّاته بحراً ثم برّاً عبر ميناء اسكندرون.
بعد سان ريمو، شعر فيصل، وكان قد تُوِّج ملكاً على سوريا الطبيعية بقرار من المؤتمر السوري العام في آذار/ مارس، بخذلان حلفائه الإنكليز، وبدأ بالاستعداد للأسوأ. وعليه، استبدلَ حكومة الركابي بأخرى أكثر وطنية برئاسة هاشم الأتاسي، أُسندت فيها وزارة الحربية ليوسف العظمة، ورئاسة الأركان لرفيقه العراقي ياسين الهاشمي، مستبعدة بعض أزلام الإنكليز والفرنسيين أمثال جميل الألشي ونوري السعيد وجعفر العسكري.
أدرك العظمة والهاشمي أنّ المواجهة مع الفرنسيين آتية لا محالة، فباتا في سباق مع الزمن وشُحّ الموارد لتأمين مستلزماتها من الرجال والعتاد. وإلى ذلك، خرجا بجولة إلى الشمال لتجنيد المتطوّعين، وحثّ إبراهيم هنانو وصالح العلي على تصعيد عملياتهما بهدف مشاغلة الفرنسيّين لتأخير توغّلهم شرقاً لأطول فترة ممكنة. وشملت الجولة لقاءهما مع مصطفى كمال، زعيم المقاومة التركية، لبحث إمكانية تنسيق الجهود ضدّ العدو المشترك (5). يُقال إنّ استقبال كمال لرفيقَي السلاح القديمين كان ودياً ودافئاً، رغم كونهما ممثلين لحكومة فيصل الذي كان يَكُنُّ له الكراهية والاحتقار (2)، بيد أننا لا نعرف شيئاً عن مخرجات ذلك اللقاء. ولكن المؤكّد أنّ كمال كان، وقتئذٍ، يدعم ثوار الشمال السوري، هنانو والعلي، ولاحقاً حاجم بن مهيد الفدعان في الرقة، فيما كان يتلقّى مساعدات سخيّة، من أسلحة وذخائر وأموال وذهب، من الحكومة البلشفية في موسكو، والتي كانت بدورها تقارع تدخلاً عسكريّاً إمبرياليّاً واسعاً من قبل 22 دولة وكياناً، بقيادة أنكلوفرنسية.
الطريق إلى ميسلون
اقتضت تفاهمات سان ريمو توسيع رقعة الاحتلال الفرنسي للساحل ليشمل كلّ الداخل السوري. وكان للفرنسيين فيه يومئذٍ شبكة واسعة من العلاقات والعملاء، ينقلون المعلومات وينشرون الشائعات والفوضى، بل ومستعدّون للقتال إلى جانبهم، فضلاً عمّن كانوا أصلاً مجنّدين في جيشهم منهم (فيلقا الشرق والأرمني). كذلك، فإنّ معظم الأدوات التي استخدمتها بريطانيا في سوريا، كانت على أتمّ استعداد لموالاة الفاتحين الجدد؛ مثل، هجّانة لورنس من عشائر الرولة بزعامة الأمير نوري الشعلان التي دخلت دمشق مع أللينبي خريف 1918، وفرع مجحم بن مهيد من عشيرة الفدعان التي شاركت القوات البريطانية في احتلال حلب بعدها بأسابيع، والعديد من العائلات في دمشق وريفها، والكثير من رجال فيصل، أمثال، جميل الألشي وعلاء الدين الدروبي، وعبد الرحمن اليوسف، ونوري السعيد.
كان المجتمع السوري مُنهَكاً ومستنزَفاً بشريّاً واقتصاديّاً، بعد أكثر من أربع سنين من الحرب والمجاعات. كذلك، كان ثمة شعور بالضياع إزاء التغييرات التي عصفت به خلال فترة وجيزة، والأوضاع المستجدّة الآخذة بالتشكّل حوله. فحلب كانت تنظر بحسرة إلى اقتطاع فضائها الاقتصادي إلى الشمال، ومرفئها، اسكندرون، في الغرب. ومثلها دمشق تنظر بقلق إلى الخرائط التي تُعَدّ لجوارها اللبناني والفلسطيني. صحيح أنّ السياسات الكارثية للقوميين الترك، وآلام «السفربرلك» لم تترك للسوريين الكثير من المُسوِّغات للتأسّف على رحيلهم، ولكنّه صحيح أيضاً أنّ المظلّة العثمانية، على علّاتها، ظلّت تؤمّن لقرون وحدة الفضاء الحيوي للمشرق الكبير، وحاجزاً ضدّ الاجتياح الغربي السافر. وبطبيعة الحال، بدا النظام الفيصلي الذي جاء به الإنكليز عاجزاً عن تحقيق كل ذلك.
في مثل هذه الأجواء، جاء إنذار غورو بعد اكتمال استعداداته وتحشيداته العسكريّة في رياق وزحلة وأطمه. وبدون الدخول في تفاصيله المعروفة، فإنّ محتوى بنوده الخمسة كان يتلخّص بعبارة واحدة: الاستسلام بلا قيد أو شرط. وبطبيعة الحال، فقد توزّع المعسكر الفيصلي على طيف من المواقف، تراوحت ما بين رفضه أيّاً كان الثمن، والقبول به مع محاولة تخفيف غلوائه. وكان العظمة على رأس الفريق الأوّل، وبدأ باتّخاذ التدابير الدفاعيّة بالإمكانيات المتاحة، فيما الجدل محتدم في الحكومة و«المؤتمر السوري»، والشارع الدمشقي يمور غضباً وحماساً، والجهود الدبلوماسية مع غورو على قدم وساق. وهنا، عيّن الملك شقيقه الأمير زيد قائداً عامّاً للجيش، وياسين الهاشمي قائداً لجبهة مجدل عنجر، وضابطين آخرين لقيادة المنطقتَين الشمالية والوسطى. كان من الواضح أنّ العظمة لم يكن يُحكم قبضته على الشأن العسكري، وأنّ الملك وشقيقيه زيد وشلّة الضباط الذين جاؤوا معه من الحجاز يتدخّلون في كلّ صغيرة وكبيرة.
كانت مرتفعات مجدل عنجر المشرفة على طريق رياق ـــــ دمشق، وأمامها الليطاني، تمثّل خط الدفاع الطبيعي الأوّل والأهمّ، ويرابط فيه آلاف الجنود، مزوّدين بالعديد من الرشاشات والمدفعية. وكان من شأن هذا الحصن، رغم شُحّ العتاد والذخائر، أن يمثّل عائقاً جديّاً أمام الزحف الفرنسي. بيد أنّ قبول فيصل بالإنذار في 17 تموز/ يوليو، وإيعازه بتسريح الجيش تبعاً لذلك، استدعى أيضاً الانسحاب الفوريّ من مجدل عنجر. كذلك، عمد فيصل إلى تعطيل جلسات «المؤتمر السوري» بحجة إثارته للرأي العام بما قد يتسبّب بالصدام مع الفرنسيين.
يوم 21 تموز/ يوليو، تصاعد الغضب الشعبي إزاء تخاذل الملك، وانضمّ الجنود المُسرَّحون حديثاً إلى الحشود، وسرعان ما تحوّلت إلى مصادمات عنيفة، ونهب لمخازن السلاح. وفي إحدى الوقائع، أمر الأمير زيد رجاله بإطلاق النار على الثائرين عند باب القلعة، فقتلوا نحو 200، وفق ما ذكره مرافقه الشخصي صبحي العمري في «أوراقه» (5). والأنكى أنّ كلّ تلك التنازلات، لم تُثنِ قوات غورو عن التقدّم نحو مجدل عنجر، بقيادة الجنرال غوابيه، ضارباً عرض الحائط بتعهّداته لفيصل. كانت الأعداد الضئيلة من الجنود المتبقّين في عنجر بانتظار العربات لسحب ما تبقّى من الذخائر والعتاد الثقيل إلى دمشق، عندما انقضّ عليهم الفرنسيون واستولوا على كلّ أسلحتهم، فيما تُرك الكثير من السلاح الثقيل على جانبَي الطريق.
هنا أمر العظمة بإيقاف تنفيذ قرار الحكومة بتسريح الجيش، الذي كان يضمّ نحو 10 آلاف جندي، وباحتشاد الجنود المنسحبين عند خطّ الدفاع الثاني غرب خان ميسلون، ثم توجّه بنفسه إلى هناك، بعدما ودّع زوجته وطفلته الوحيدة، ليلى، وأوصى فيصل بهما خيراً من بعده. فيما أوفد الملك وزير المعارف، ساطع الحُصري، إلى الجنرال غورو لمعالجة الموقف. وعندما مرّ الحُصري بميسلون في طريقه إلى عالَيّه، طلب العظمة منه أن يراوغ الجنرال لأطول وقت ممكن، ليُتاح له تعزيز جبهة ميسلون قدر الإمكان. مع نهاية مهمّة الحصري يوم 23 تموز/ يوليو، أدرك فيصل أنّ كلّ مناورات غورو كانت مجرّد ذرائع لتنفيذ ما كان سيفعله على أيّة حال؛ احتلال سوريا والإطاحة بعرشه، بدون أن يترك له أيّ هامش للحكم، ولو كواجهة للانتداب. فكان أن توجّه إلى المسجد الأموي، وخطب في الناس مبرّراً تنازلاته المهينة، تاركاً لهم خيار الدفاع عن بلدهم، بعدما فرَّط بجيشهم. فاندفع المئات من الرجال بأسلحة فرديّة قديمة، وحتى بالعصي للانضمام إلى بقايا الجيش في ميسلون.
في ذلك اليوم أيضاً، احتلّت قوات فرنسية، غالبيتها من فلول الفيلق الأرمني المنسحبة من مرعش وكيليكيا، مدينة حلب، بعدما سبقها إليها بنحو أسبوع رجال مجحم بن مهيد الفدعان، عميل غورو، وعاثوا فيها فساداً ونهباً، متسبّبين في انفجار هائل في مسجد «المشهد» الذي كانت قوات الحلفاء قد حوّلته إلى مستودع للذخيرة، ما أدّى إلى مصرع المئات من المتطوّعين للدفاع عن المدينة.
فجر 24 تموز/ يوليو، كان العظمة قد جمع نحو 4000 جنديّ ومتطوّع، وقام بنشرهم على أفضل نحو ممكن، مقابل نحو 9000 جندي فرنسي، غالبيتهم من السنغاليين والجزائريين، بقيادة الجنرال غوابيه. ومع خيوط الضوء الأولى، بدأت المعركة بمبارزة مدفعيّة حامية وغير متكافئة؛ فبقدر ما كانت المعنويّات ملتهبة في الجانب السوري، كذلك كانت النيران المركّزة والكثيفة التي كان يُصْليهم بها عدوهم. وسرعان ما تدخّل الطيران أيضاً، ليعقبه تقدّم الخيّالة والمشاة والمدرّعات. وهنا بدأت خطوط المدافعين بالتصدّع، وكان أوّل المنسحبين من بقوا على قيد الحياة من المتطوّعين الأغرار، الذين لم يسبق لهم أن خبروا معركة من هذا الطراز.
حوالى الثامنة والنصف صباحاً، وبينما كان العظمة يدير المعركة من نقطة رصد مع بعض قادته، بدأت دبابة معادية بتسلّق المرتفع نحوهم. كان العظمة قد احتاط لهذا السيناريو بأن وضع مدفعاً في أعلى المنعطف يغطي كلّ المنحدر نحو الوادي، كما زرع ألغاماً على الطريق. فلمّا تأخر ذلك المدفع في استهداف الدبابة، ولم تنفجر الألغام، هُرع نحو طاقم المدفع لمعالجة الموقف. في تلك اللحظة، رمته الدبابة بقذيفة 37 مم فأردته على الفور. أدّى ذيوع نبأ استشهاد القائد، رغم محاولات التكتّم عليه، إلى المزيد من التصدّع في الصفوف، وبدأ التراجع بعد نحو 6 ساعات من القتال… والبقية معروفة.
لجأ فيصل إلى أصدقائه الإنكليز لينصِّبوه ملكاً على العراق، ثم جاء غورو من عاليه ليدخل دمشق محفوفاً بخيّالة نوري الشعلان، ومن تبقّى من رجال فيصل السوريين، والإمَّعات من وجهائها، وفي اليوم التالي، توجّه مع الجنرال غوابيه إلى ضريح صلاح الدين ليقول له شامتاً: Saladin, nous viola، ها نحن ذا، يا صلاح الدين! وكانت تلك ثاني زيارة «يحظى» بها ضريح البطل من ضابط محتلّ خلال أقل من عامين؛ إذ كان قد سبقه إليه، يوم 31 ت1/ أكتوبر 1918، الكولونيل لورنس، ليقتلع ويسرق الإكليل البرونزي البديع الذي كرّمه به القيصر الألماني فيلهلم (غليوم) الثاني، خلال رحلة حجِّه إلى القدس، في العام 1898.
خاتمة
عشية قيادته للهجوم المعاكس ضدّ إنزال قوّات الحلفاء في الدردنيل (جنق قلعة) في 25 نيسان/ أبريل 1915، وكان غورو أحد قادته، صاح المُقدَّم مصطفى كمال في جنوده: «أنا لا آمركم بالهجوم، بل آمركم بالموت! فخلال الوقت الذي سيستغرقه موتنا، سيتقدّم رفاق آخرون لنا لأخذ مواقعنا».
تلك كانت العقيدة العسكرية التي شبّ عليها يوسف باشا العظمة في جيش الإمبراطورية. كان الضابط الأكاديمي المخضرم، مدركاً لاستحالة مهمّته منذ البداية، وكانت لديه عدّة خيارات؛ مثل، الانحناء، موقتاً، أمام العاصفة، لمتابعة الكفاح المسلّح بأشكال أخرى لاحقاً، وهو ما ذهب إليه رفاق له، مثل، فوزي القاوقجي ورمضان الشلاش وسعيد العاص؛ أو يتّجه إلى النضال السياسي، كما فعل ياسين الهاشمي. ولكنه، وفي تلك اللحظة من الجدل، بين «عقلانية» الإحجام التي لاذت بها الحكومة، وروح الاندفاع إلى المواجهة بأيّ ثمن التي كان يضجّ بها الشارع الوطني، رأى التبعات الخطيرة لخيار خذلان الناس، والسماح للغزاة بدخول العاصمة بلا إراقة دماء. فخلافاً للاستعمار السافر، كان «الانتداب» متنكّراً بلبوس القانون الدولي، ممهوراً بمباركة «عصبة الأمم»، رافعاً شعاراً ظاهره نبيل: تأهيل الشعوب «المتحرّرة» حديثاً على حكم نفسها والسير في طريق المدنية… وإذا أضيفت إلى كلّ ذلك، مشهدية الدخول السلميّ، فإنّ من شأنه أن يزعزع الركائز المعنويّة لأية مقاومة تأتي. فكان لا بدّ من دمٍ يُراق. ولم يكن لقائد من معدنه وبموروثه أن يختار النجاة برأسه. لعلّه كان يدرك بحدسه التاريخي أن الشحنة الرمزية لمصرعه مع رفاقه على هاتيك البطاح هي أمضى وأبقى من أيّ انتصار عسكري، تكتيكياً كان أم استراتيجياً.
وقد برهنت الأيام صوابية رهانه. فبعد خمس سنين، تجسّدت روح ميسلون في الثورة السورية الكبرى، وسلسلة ثورات وانتفاضات ومقاومات لا تزال مستمرّة حتى الآن على امتداد المشرق. وفي أوائل حزيران/ يونيو 1982، دبّت روح ميسلون الكربلائية في كوكبة من شباب ضاحية بيروت الجنوبية، في مواجهة اجتياح إسرائيلي كاسح بعشرات الآلاف من الجنود والأسلحة الفتاكة، فنفروا خفافاً بأسلحهتم الفرديّة للتصدّي للغزاة عند مثلث خلدة، فكانت أولى بشائر المقاومة، ومنهم تكوَّنت لاحقاً النواة العسكرية الأسطورية لحزب الله. بعدها بأيام فقط، كان لجيش يوسف العظمة ملحمة مماثلة في «السلطان يعقوب»، على مسافة نحو 20 كم إلى الغرب من ميسلون، فأنزل بالغزاة هزيمة مذلّة، وأوقف تقدّمهم على طريق دمشق ــــــ بيروت. كذلك، حامت روح ميسلون فوق قلعة الشقيف، ومخيم جنين، ومفرزة جسر الشغور، ومطارات الطبقة ومنّغ وكويريس، وسجن حلب المركزي، وجرف الصخر… وهي لا تزال اليوم، حيّة متوثّبة أكثر من أيّ وقت مضى عشية معركتنا الكبرى لتحرير غرب آسيا.
ها نحن ذا، يوسف باشا!
* كاتب وباحث سوري
مراجع:
- 1. خير الدين الزركلي، الأعلام للزركلي، دار العلم للملايين، ص 1879
- 2. Michael Provence, the Last Ottoman Generation and the Making of the Modern Middle East, Cambridge University Press 2017,
p 33, 53, 106
- 3. أدهم آل جندي، تاريخ الثورات السوريّة في عهد الانتداب الفرنسي، 1960، ص 168
- 4. Philip Shukry Khoury, Syria and the French Mandate: The Politics of Arab Nationalism, 1920-1945, Princeton University Press 1987, p97
- صبحي العمري، أوراق الثورة العربيّة (3)، ميسلون نهاية عهد، رياض الريس، 1991، ص 119، ص 138
صحيفة الأخبار اللبنانية