في مهب الروح..

ـ هو: ما حاجتك الآن لهذه اليد؟ مهلا.. هل تذكرين هذه اليد قبل أن يصيبها الوهن ويعصف بها الرعاش؟

قبل أن تلتفّ فوق عظامها أفاعي العروق اليابسة العطشى، ويحط عليها النمش وتتخشب فيها الأصابع.. ما حيلتك فيها الآن وقد ذوى الساعد مثل عنق إبريق يفرغ آخر ما في جوفه من بهجة وخمر.

أنظري إلى قبضتي هذه.. لا ليست هذه القبضة تماما.. هل تذكرين حين كنت أهوي بها فأقسم هذا العكاز إلى شطرين.. وأخلع بضربة واحدة باب هذا المأوى اللعين، أحرّر نزلاءه من كل هؤلاء المسنين، وأدفع بهم وعولا مهيبة الخطوات بين الأحراش، وقطعان أيائل تطوف في حواري المدينة، وتسابق الشمس إلى الضياء.. ثم نغني سويا.. هل تذكرين هذه الأغنية: ” …لاااا لاا..”.. اعذريني صار صوتي أشبه بحشرجة خلد جائع وعجوز قي جحر شديد الرطوبة والضيق.

ـ هي: لا تستل يدك من غمد راحتي يا مليكي، دعها تغفو قليلا، ودعنا نقاوم سويا عاصفة هذا الرعاش، اجلس إلي يا حديث الكل أحدثك، نتبادل عبارات الصمت، ولا تلوّح بعكازك هذا في وجه الفراغ هذا.. سفّاح وقاتل هذا الفراغ.. ما من عدو تقاتله هنا غير عقارب الساعة في الجدار، وما من زائر غير ملاك الموت المقنّع بالرحمة والمدجج بالنسيان.

العروق على ظاهر يدك عرائش ربيع آخر، ووشم ذاكرة تخضرّ تحت الجلد، أما النمش فآثار وخز، وبقايا عسل قطفته لي من أقاصي المناحل في أعالي أزمنة البطولة.

بحق ما يركض خلفنا من حب وأعوام، لا تستقو على وقار شيبك وجرار خمرك باستحضار بطولات الأغرار أيها الرحيق المعتّق.. قبضتك هذه لم تك تعرف عكازا لتكسره، ولا مأوى مسنين لتخلعه.. راحتك لم تكن تعرف غير حرير شعري الذي مازال ينام تحت زندك بكامل سواده الفاحش مثل ” قطيع ماعز يتسلق جبل جلعاد”.

ولأن أصابعك لا تتذكر غير طرقاتها على شباكي الثمل، فلقد فضّلت النوم في شرنقتها مثل فستق خجول ومدلل، أصابعك فستق ملكي يا سيدي.. أمّا صوتك فلا ينكسر ولا يرتد ولا يشيخ في مسمعي.. صوتك مخدتي يا سندي.. هل تعلم أن صار لصوتك ملمس وظل وطعم ورائحة؟.. صوتك تلاوتي قبل النوم ومدفني الأول والأخير .

ـ هو: كلامك هذا على كرسيك هذا في يومنا هذا، لا يكتفي بارتداء ثياب بيضاء، لا يتصنع اللطف ثم يعبس في وجهي كلّما آلمتني إبرة تحقن الوهم تحت الجلد وفي بقايا الوريد.. كلامك هذا هو كل زهور البراري التي خبأتنا، وحوّطت حبنا يوما ثم جاءت تزورنا هذا المساء، لتقول لقلبينا شكرا على وظيفة أخرى غير ضخ الدماء.

كرسي عرشك هذا يا مليكتي، لم يعد يتحرك أو يسير، كرسيك يطير بعد أن هجر مرآة الزينة وصالون التجميل.. الجميلون لا يتجمّلون ولا تصدقي ما يسمونها بالتجاعيد.. هي تموجات صنعتها أنفاس النرجس على صفحة بحيرة وجهك يا حلوتي.. هاتي يديك وعينيك نرقص ونراقص هذا المساء.

ـ هي: ها عينانا ترقصان من خلف سجن الزجاج السميك.. الدموع نظرات منكسرة، وتعرّق العينين في لحظات الإعياء.. هيا، كثيرا من الظلمة وقليلا من الضياء.. ما أودع الرقص في سفر الغروب.. وما أشد بأس هذين القلبين: يقرعان في تعب ممتع.. إنهما يتعبان.. لنقل لهما ” توقفا.. شكرا وكفى”.. هيا انفخ فيهما أيها النرجس البري بأنفاسك الأخيرة.. أنفاسك الأخيرة تجعلني أبدية الابتسامة، وتجعلك مرفوع القبضة مثل سيد الريح.. ها نحن نحلّق دون كرسي وعكاز و أنفاس وحقن وسيروم.. لكننا نغني أهزوجة الوعول الأخيرة وهي تسابق الشمس: “لاا.. لااا”.. صوتنا لم يعد كحشرجة خلد عجوز وجائع في جحر شديد الضيق والرطوبة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى