قاموس يُواكب العِلم والمُستجِدّات المعرفيّة

روحي البعلبكي، ابن عائلة لبنانيّة عريقة، اشتغلت وتشتغل في حقول الترجمة، وعلم اللغة، وصناعة القواميس والمعاجم. والده منير، صاحب التراجم التي قاربت المائة لروائع من كلاسيكيات الأدب العالمي، ومؤلِّف ’’قاموس المورد .. إنكليزي – عربي‘‘، وصفه العميد الكبير طه حسين ذات يوم بـ’’شيخ المُترجِمين العرب‘‘. أمّا لويس عوض، فقال فيه بعد اعتماده قاموسه: ’’إنّه خير مَن يُحاكي معاني ألفاظ العربيّة بالألفاظ الإنكليزيّة‘‘.

… شقيقه رمزي البعلبكي، المختصّ بالدراسات النحويّة العربيّة وعلم الساميّات المقارن، وصاحب ’’مُعجم المصطلحات اللّغوية” و”سيبويه ومنهجه التحليلي في ضوء الفكر النحوي‘‘، هو مَن أتمّ المعجم اللّغوي الموسوعي إنكليزي – عربي، الذي كان بدأه الوالد منير، (مؤسِّس ’’دار العلم للملايين‘‘ بالاشتراك مع بهيج عثمان في العام 1945) وصدر في أكثر من 2000 صفحة عن الدار عينها.

بدوره لم يشذّ روحي البعلبكي عن مدارات التأليف المعجمي الموسوعي، فكان أن أصدر ’’المورد الثلاثي: عربي إنكليزي فرنسي‘‘. وألّف أيضاً: ’’المورد المفهرس لألفاظ القرآن الكريم‘‘، و ’’معجم روائع الحكمة‘‘. وها هو يُصدِر اليوم: ’’المورد العربي.. قاموس اللغة العربيّة المعاصرة مع كلّ المترادفات‘‘، وهو عمل معجمي مُهمُّ ومُفارق للغاية، كونه يواكب لغة العصر الحديث بانفجاراتها العلميّة والمعرفيّة المتشعّبة (دار العلم للملايين – الطبعة الأولى 2016).

و ’’المورد العربي‘‘ كما نعرف من د. روحي نفسه، هو ثمرة جهود متواصلة استغرقته مدّة ثلاثة عشر عاماً، تأليفاً وتنقيحاً وضبطاً، ليولَد هذا القاموس الذي يقرأ اللغة بعَين العصر، ويُعِين القارىء على فهم دقائقها، كما تقتضيه متطلّبات الحياة المتطوّرة، ملبّياً تطلّعات الأجيال الحالية من القرّاء عن طريق إضافة الكلمات الجديدة والمصطلحات العلمية والتقنية المستحدَثة والمُلازِمة للتقدّم الحضاري من جهة، ومستجيباً أيضاً لاحتياجات المشتغلين بالّلغة، من خلال الإبقاء على أهمّ الألفاظ التي تُنسَبُ إلى الموروث اللغوي الأصيل من جهة ثانية، في مُوالفة مُتقنة بين الحداثة والأصالة.

وفي رأي د. روحي البعلبكي، أنّ الحاجة إلى معجم عربي عصري باتت أكثر من ماسّة وملحّة. فالقارىء المعاصر، غالباً ما لا يجد الكلمات التي يريدها في المعجم، وهي الكلمات نفسها التي تملأ مختلف وسائل التعليم والإعلام والتواصل، بل إنّه إذا عثر عليها، فسيُفاجَأ بأنّ المعجم يضع لها من المعاني غير المألوفة، ما يخالف ما تعنيه في الوقت الراهن، فيضيع ضمن متاهة ركامٍ فوضويّ من الصّيغ الغريبة أو المتناقضة. هذا فضلاً عن إهمال المعجم العربي التقليدي للعبارات الاصطلاحية، والمفردات التقنية، والمصادر، والمشتقّات، وكلمات النسبة، والمجاز، والتعدّد الدلالي والمترادفات، في اجترارٍ أعمى للمادّة القديمة أو نقلٍ حرفي سافر لمعانيها، غالباَ ما يعْرُوهُ الغموضُ في الشرح والسطحيّة في التعريف بالتماهي مع أزمنةٍ غابرة وفضاءاتٍ مندثرة.

وعليه، واحتراماً لمبادىء تطوّر الدلالة والتوليد اللغويّ والاشتقاق والقياس، ورغبةً في إصدار عمل نهضوي راقٍ يُشكّل مرجعاً مهمّاً ومضبوطاً للّغة، فقد حرص د. روحي على إدراج اللغة العربية المكتوبة حالياً باستخداماتها الواقعية، والتي تضمُّ عدداً كبيراً من المصطلحات والعبارات التي لا نجدها في المعاجم التقليديّة، وشَرْحِ مختلف معانيها المستقرّة الراهنة، بما تشتمل عليه من ألفاظٍ مولَّدة ومعرَّبة تمثّل بشيوعها مفردات الحضارة التي فرضتْ نفسها وصارت جزءاً لا يتجزّأ من اللغة، بحيث يشكّل إغفالها نقصاً فادحاً غير مبرَّر.

وفي سبيل ذلك، كان لا بدّ للمؤلّف من الاستعانة بمكْنزٍ معلوماتيّ مكثّف ينطوي على مسحٍ لغويّ شامل بشكل مَسْرَدٍ حاسوبيّ بالكلمات يوضح وتيرة ورودها وتكرار تداولها في الكتب والصحف والمجلّات الصادرة في المئة سنة الأخيرة، ويكون بمثابة قاعدة بيانات إحصائية لشيوع الكلمات تُبيّنُ مدى استعمالها أو إهمالها؛ كما تُعيننا على معرفة أدقّ مدلولاتها وظلال معانيها من خلال كيفيّة استخدامها الفعليّ، إذ إنّ الكلمة هي بنت الزمان والمكان، بوصفها مرآةً للحياة وتجسيداً لتطوّرها؛ وينبغي التعامل معها ككائنٍ حيّ يَخضَع لقانون النموّ والتجدّد. ومن نافلة القول هنا إنّ المؤلّف قد راجع مختلف المعاجم العربية التي صدرت قبل تاريخ اشتغاله على ’’المورد العربي‘‘، ناهيك بالمعاجم الثنائيّة اللغة والأجنبيّة.

والمُلاحَظ، في رأي مؤلّفنا، أنّه كما تستقبِل اللغة مفرداتٍ جديدة، فإنّها تُسقِط مفردات أصابها الصدأ، إذ مثلما تتطوّر المفردات وتتغيّر دلائلها مع الزمن لتتكيّف مع احتياجات الناطقين بها، فإنّ التعامل ببعضها قد يتوقّف فتغدو مهجورة أو مُماتة؛ وهذا هو الدليل على أنّ اللغة تتبعُ قانون البقاء، فلا يبقى منها سوى الأنسب والأقوى والأكثر استعمالاً وتداولاً.

ولمّا كان كلّ فكرٍ جديدٍ، يُولّدُ مفاهيم جديدة لها مصطلحات خاصّة أو مدلولات مستجدّة، فكيف يمكننا أن نتصوّر معجماً يُهمِلها ويرتضي بتكرار كلمات مَيْتة ومدلولات بائدة لم تُستخدم مرّة واحدة خلال عشرات السنين؟ إنّه بذلك ينعزل عن الجماعة المعاصرة، وينقلب شكلاً فوقياً عقيماً، ذلك أنّ المعجم الذي لا يُواكب عصره هو ليس لهذا العصر.

ثمّ مَن قال إنّ المعاجم القديمة لم تلحظ التطوّر الحضاري في زمانها، ولم تتكيّف مع المعاني السائدة في بيئتها؟.. يتساءل د. روحي البعلبكي ويجيب: ” لذلك كان بديهياًّ أن تتعلّق نسبة كبيرة من مفرداتها بالبادية والبداوة والإبل والمضارب وسائر ما يمثّل واقعها”.

إذاً، ليس نقاءً أصيلاً تقليد الماضي ونسْخ غرائبه واجترار مُماته، وليس عيباً أو شذوذاً أن نُجاري مسيرة الحياة بمعارفها وفنونها الحاضرة. إنّ توقّف المعاجم عند مرحلة معيّنة لا تتجاوزها، هو تحنيط للّغة عند زمنٍ ما، يمنع عليها حقّ التعبير عن الواقع الحالي ويُطيح وظيفيّة اللغة. وإذا كان البعض يريدنا أن نقضي القرن الحادي والعشرين نائمين على الماضي، وأن نُحِيل لغتنا مومياء متقوقعة بلا حراك ضمن صندوقٍ مغلق، فإنّ اللغة بطبيعتها تأبى أن تتجمّدَ أو تُجَمّدَ عند نقطةٍ زمنيّة معيّنة. إنّ اللغة طاقة متحرّكة نحو المستقبل، تنبو عن أيّ موقع سكوني، وإنّ حبْسها في عصر بعينه، يُناقِض طبيعتها ويُلغي مرونتها وتوثّبها، بل ويدمّرها.

مقطع القول، يمتاز هذا المعجم الجديد بميزات عدّة، بحسب د. البعلبكي، أبرزها:

أوّلاً، إنّه قاموس عصري يواكب العلم والمستجدّات الفكرية، ليلبّي المتطلّبات المتنامية لمستخدمي اليوم، ويتضمّن مختلف الكلمات والمصطلحات والعبارات التي أضحت بحكم التطوّر الحضاري مكرَّسة ومُتداوَلة ومستقرَّة، بحيث يشتمل على المادّة المعجميّة في عصرنا بمعانيها وتراكيبها وصيغها الجديدة، وفي استعمالاتها وسياقاتها وعلاقاتها الحيّة.

ثانياً، يغطّي القاموس مختلف المجالات المعرفيّة، وشتّى حقول العلوم والفنون ليكون مرآة للّغة في كلّ ميادينها.

ثالثاً، يحرص القاموس على الفصل الواضح بين معاني الكلمة الواحدة، وترقيمها، ليسهّل على القارىء التمييز بينها، والاهتداء السريع إليها.

رابعاً، يلتزم إيراد تعريف دقيق لكلّ فرع من فروع الكلمة يختصّ بمعنى مستقلّ أو بظلّ معنى، ويشرحه شرحاً وافياً، وبمنهجيّة منضبطة، بحيث تُصاغ التعريفات صياغة علميّة متطوّرة ترسم نطاق المعنى بشكلٍ حاسمٍ وبروحِ الحاضر، لا الماضي.

خامساً، يضبط المفاهيم لدرء الالتباس ويحدّد المصطلحات التقنيّة لمنع فلتانها وتضاربها.

سادساً، يدعم الشرح بأمثلة إيضاحيّة، وفي طليعتها شواهد من القرآن الكريم، كلّما كان ذلك ضروريّاً ومُلائماً.

سابعاً، يُعنى بإيراد أهمّ المفردات الخاصّة ببعض البلدان العربية.

ثامناً، يعتمد الألفبائي النّطقي فيوفّر على القارىء مشقّة العودة إلى جذر الكلمة.

تاسعاً، إنّه معجم شامل، غنيّ بالمواد، حافلٌ بالمعلومات، علاوة على كونه حَسَنَ التنسيق وخالياً من التكلّف والجمود والنّمطية.

عاشراً، يضمّ نماذج ومعلومات لغويّة مؤطّرة تُبيّن الأساليب المتنوّعة لاستعمال الكلمة في تعابير بلاغية مدبّجة رفيعة الأدب، ناصعة البيان، وفي قوالب صافية عذبة تُلْبس المعاني أفصح تراكيبها وأجزل مبانيها.

د. روحي بعلبكي، مؤلّف معجميّ جديّ وصارم في كلّ شأنٍ لغوي. تراه يدرس كلّ صغيرة وكبيرة تتعلّق بمفردات لغتنا، وما يعتريها من تحوّلات وسياقات ونحت وتركيب ومزج، عبر تنقّلاتها من المحسوس إلى المجرّد.. وبالعكس. أخاله، وعن جدارة واقتدار، يتابع مسيرة كبار لغويّينا في التاريخ ممَّن ألّفوا المعاجم أو القواميس، ابتداءً من الخليل بن أحمد صاحب ’’العين‘‘ (أوّل معجم منسّق للغة الضاد)، وأبي علي القالي، صاحب ’’البارع في اللغة‘‘، وابن منظور صاحب ’’لسان العرب‘‘، والفيروز أبادي صاحب ’’القاموس المحيط‘‘ مروراً بـ المعلّم بطرس البستاني صاحب ’’محيط المحيط‘‘ و الشيخ أحمد رضا صاحب ’’معجم متن اللغة‘‘، ووصولاً إلى علاّمتنا الكبير الشيخ عبد الله العلايلي، الذي عرِف كيف يجمَع، وببراعة، بين مفهومَيْ ’’المُعجم‘‘ و ’’الموسوعة‘‘ .

بوجيز العبارة، د. روحي بعلبكي لديه خصوصيّته أيضاً.. وأيضاً في مواكبة علم اللغة بشقّيه: القديم والمعاصر، من خلال جمع الألفاظ وترتيبها وتجديد معانيها واستطراداً “تطوير” الوعي بها، من خلال التمكّن من التقاط دلالاتها الوظيفية والمعرفية الجديدة والمستجدّة.

نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى