قبلة الصحراء
لست أدري على وجه التحديد متى بدأت “قصّة حبّي ” مع الملكة زنوبيا والتي تطوّرت إلى غيرة شديدة المرارة من قائد جيوشها وعشيقها المتيّم “زبداي ” …
نعم، تذكّرت … حدث ذلك عند سنوات المراهقة الأولى في يوم شديد الحرّ، ثقيل الوقت من عطلة صيف قانط و كنت أنبش في كتب الرصيف عمّا يطفئ ذلك الظمأ الغريب للقراءة ….وسيلتي الوحيدة لتمضية القيلولة ومقاومة الملل آنذاك.
صنعت المصادفات علاقتنا مثل كل “قصة حب عاصف ” ، فلقد بدأت بالنظرة الأولى عبر كتاب قديم، أصفر الورقات ، مجهول المؤلّف ، باهت الأحرف ومتواضع الطباعة، لكنّه كان منعشاً مثل كوب من عصير الليمون في تلك الظهيرة القانطة .
صدق من قال ” إنّ الحب الحقيقي هو ذاك الذي يعترض سبيلك وأنت ذاهب لموعد تظنه غراميّاً ” ، وأعترف أنّي كنت في ذلك اليوم ذاهب كعادتي لاقتناء أجزاء جديدة من سلسلة مغامرات فرنسية شيّقة، لكنّ نكهتها سريعة الزوال. .
تطوّرت العلاقة مع زنوبيا ونسيت أبطالي الكرتونيين بسرعة فائقة، استفحل الغرام مع ملكة البادية فصرت أجوب المكتبات، أبحث في دكاكين الورّاقين، أقرفص الساعات أمام قوافل معروضاتهم تحت الشمس، أسأل الباعة، أقتفي الآثار وألتقط الأخبار بحثاً عن “حبيبتي ” كعاشق من ” ألف ليلة وليلة “.
جمعت ما تفرّق من سيرتها تحت مخدّتي بشغف وصل حدّ الهوس، انتصرت لكل حروبها وصفّقت لحكمتها ودهائها، ابتسمت في سرّي لمكرها حين بعثت برسالة سلام أمام الحاكم الروماني وهي تطلق ديكاً صغيراً على الحلبة لتوبيخ تاجر طمّاع حاول تشويه الصورة الوديعة لمملكة الشمس، تبنّيت عبارة قائدها ” إنّي لأشهّر سيفي حتى في وجه النسيم الذي يعبث بخصلات شعرك يا مولاتي ” ….شاهدت بعينيها الدامعتين مملكة تدمر وهي تلقي عليها نظرتها الأخيرة، تحسّست زرد سلاسل الذهب تبرق تحت الشمس في معصميها وحاولت تكسيرها …وكنت حارسها الوحيد في رحلة أسرها إلى روما، أروي لها حكايات “كليوباترا” وأطيل الطريق ….حاولت منعها من تجرّع السمّ دون جدوى ….ولن أحدّثكم عن آخر وصيّة قالتها لي ملكة الشمس وهي تودّع الشمس …إنّ مجالس الملوك الحقيقيين أمانات كما تعلمون ….فما بالك إن كانوا عشّاقا .
إنها المصادفات مرّة أخرى ـ أو لعلّه نجم سهيل ـ الذي هداني لاقتفاء أثرها، جعلني آتي إلى بلاد الشام ثمّ أسلك بعد سنوات طريق الصحراء في اتجاه ذاك الوشم البارز بين واحات النخيل، يرافقني كتّاب فرنسيون في ورشة عمل، أكتب نصّاً تحت أوابدها وفي ضيافة الإله “بيل ” وأسمّيه ” حرير الطريق “. أبصر أروع شروق شمس من قلعتها , ألتقي بأحفادها وهم الآن من أنبل الأصدقاء …..أمّا الأبهى من ذلك كلّه هو أن يصبح ” أحمد يوسف داوود” من أقرب أصدقائي الذين عملت معهم ….وهو ذاك الكاتب الذي سقط اسمه سهواً من كتاب مسرحية ” الخطى التي تنحدر ” والتي أعيد الآن قراءتها بنفس الشغف .
زنوبيا ….مليكتي الغالية …اقبلي بي حارساً على باب قصرك وغلاف كتاب يحمل اسمك …ولو دون صفحات .