قتل الأب بين «زقاق المدق» و«أفراح القبة»
الاهتمام الذي يبديه نجيب محفوظ بالأم، عبر تناوله العميق لشتى أنماط الأمومة التي ينتجها الواقع الإنساني، يقابله اهتمام ذو توجه متفرد بالأب. والسر في التفرد هو الابتعاد عن المعنى التقليدي المباشر لما تمثله مفردة الأب، على اعتبار أنها جزء من منظومة الأسرة بمفهومها الاجتماعي، والتوقف الجريء الجاد أمام الصراعات التي يخوضها الآباء مع أبنائهم، والمخاطر التي يتعرضون لها، ومردها إلى مزيج معقد من الأسباب والدوافع الاقتصادية والنفسية والثقافية، التي تفضي إلى أشكال متنوعة من التوتر والصراع، بدءاً من الضيق والمرارة وغياب الانسجام والتوافق، وصولاً إلى القتل أو الشروع فيه، مروراً بالعراك العنيف والكراهية المتبادلة والقطيعة التي لا تكون على هذا النحو إلا بين الأعداء الألداء.
فضلاً عن هذا الإطار المادي الصريح المباشر، الذي يقتحم أحد الجوانب المهمة المسكوت عنها، يكتسب الأب مغزى رمزياً في عدد من الأعمال الروائية لنجيب محفوظ، فيتجاوز الظاهر الشائع ميسور الفهم إلى الطابع ذي التشكيل الأسطوري والمنحى الرمزي والقيمة التي تقترب من فكرة الألوهية. وهذا التناول غير المسبوق في جرأته وعمقه، يكشف عن رؤية غير تقليدية للكاتب الكبير، الذي يتسم عالمه الثري بعناق لا نشاز فيه بين الاجتماعي المادي اليومي والفلسفي الوجودي غير المقيد بزمان ومكان.
لا شك في أنّ الأب يمثل قيمة اجتماعية ذات شأن بالغ الخطورة في الحياة الإنسانية. ومن خلال ثلاثية الأب والأم والأبناء، الأسرة، يستمر الوجود الإنساني المادي في سريانه العظيم. لكن المنظور العاطفي المثالي وحده لا يصنع وعياً متكاملاً، فالحياة حافلة بالكثير من الغرائب والتناقضات، وفيها ما لا يمكن فهمه واستيعابه بالمقاييس العادية الشائعة المألوفة.
لا غرابة في توتر العلاقات بين الآباء والأبناء، ذلك أنّ غياب الانسجام والتوافق وارد لأسباب شتى، ذاتية كانت أم موضوعية، مثل تباين رؤى الأجيال، واختلاف الطباع والسمات الشخصية، وتعدد الثقافات. التباين فطرة إنسانية لا تدفع إلى القلق والإدانة، لكن أساليب التعبير عن الصراع هي التي تفصل بين ما هو متحضر مشروع مبرر ينهض على أرضية الحب والاحترام، وبين التجاوز غير السوي الذي يتصاعد، فيصل إلى حافة الصدام والقطيعة والكراهية.
تتوزع المسؤولية في عالم نجيب محفوظ، كما هو الحال في الواقع الذي يعبر عنه ويستمد منه مادته، بين الآباء والأبناء. فقد يكون سلوك الأب العدواني غير المنضبط دافعاً للتوتر والاحتقان، وقد يكون انفلات الابن واستهتاره هو صانع الأزمة. الأمر لا يقتصر على السلوك وحده بطبيعة الحال، فالاجتهادات الفكرية والسلوكية، والسياسية أيضاً، بكل ما يترتب عليها من تداعيات، تلعب دوراً لا يمكن إهماله. ولأن الحياة تحفل بالكثير مما لا يقبل الفهم والاستيعاب، فإن التناحر يخلو أحياناً من المنطق والأسباب والدوافع، ولا يوحي الظاهر المباشر بالسر الذي يحيل الحب المفترض إلى كراهية بلا حدود.
العلاقة الصدامية المتوترة بين المعلم كرشة وابنه حسين، في «زقاق المدق»، تقدم نموذجاً بالغ الأهمية للصراع الحاد العنيف بين الآباء والأبناء، نتيجة تشابه الطباع وتقارب الأمزجة.
وفي «أفراح القبة»، يبدو التنافر والصدام منطقياً بين الابن عباس، ذي النزعة المثالية المتطهرة، والاب كرم يونس، الموغل في السلوك المادي الجشع، من دون اكتراث بالأخلاق والمبادئ والقيم. تشابه وتقارب الطباع يصنع الأزمة الطاحنة بين حسين كرشة وأبيه، والاختلاف الجذري في السمات مسؤول عن مأساة كرم يونس مع ابنه عباس!
خليل زكي، في «المرايا»، ممن يُضرب بهم المثل في الشر والعدوان، وعلاقته مع أبيه تتسم بقدر كبير من التوتر والعداء والكراهية الأصيلة المتبادلة في الرواية نفسها. يمثل التوتر والعداء سمة رئيسة في علاقة سيد شعير مع أبيه ذي التوجه الديني الصوفي.
لا شك في حب كمال عبدالجواد واحترامه لأبيه، لكن التحولات الفكرية العاصفة التي تطرأ عليه في «قصر الشوق»، حيث الطفرة الإلحادية وانهيار المقدسات جميعاً، تنعكس سلباً على عواطفه ورؤاه القديمة.
بالمخالفة للقواعد الراسخة المستقرة التي نشأ عليها، يعود كمال إلى البيت ثملاً بعد ساعتين من منتصف الليل، ولا يقتنع الأب الجبار المتسلط، الذي كان عائداً لتوه من سهرة حافلة بالخمر والنساء، بما يقوله الابن عن مشاهدة التمثيلية المقررة في المسرح كمبرر للسهر غير المألوف. تنهمر اللعنات والشتائم والكلمات الغاضبة، وينفرد كمال بنفسه في حجرته ليفكر وفق معايير مختلفة، تتوافق مع منظومته الفكرية الجديدة المتمردة: «هذه القوة الجبارة التي يخافها كل الخوف، يخافها ويحبها معاً، ما كنهها؟ ليس إلا رجلاً لولا مرحه الذي خص به الغرباء لم يكن شيئاً، فكيف يخافه؟ وحتى متى يذعن لقوة هذا الخوف؟ إنه وهم كسائر الأوهام التي أمتحن بها، ولكن ما جدوى المنطق في مقاومة العواطف الثابتة؟».
يجمع كمال في ثورته على أبيه بين الحب والخوف والسخط الذي يختلط بالعتاب، ولا يغيب يقينه بأن المنطق العقلاني الصارم وحده لا يصلح أداة للتعامل مع السلطة الأبوية، كما هو الحال في انقلابه غير المحدود على الله والدين والموروث الاجتماعي والثقافي. العاطفة ثابتة لا تهزها أعاصير الشك وزلازل التمرد، لكن الشجاعة الفكرية التحليلية لكمال، في مرحلته الجديدة، تتيح له أن يعيد تقييم أبيه وفق معايير عقلية موضوعية، لا متسع فيها للخوف الذي يكبل، ولا وجود للحب الطاغي الذي يروض الاندفاع غير المحسوب.
لا يختلف الأمر كثيراً بالنسبة للماركسي الشاب أحمد إبراهيم شوكت، في «السكرية»، فهو يمثل امتداداً لخاله كمال في الغضب والسخط، ويثور على أبيه وأمه بكل ما يمثلانه من انحياز إلى القيم التقليدية الموروثة البالية، وهي قيم لا تتوافق مع المنظومة الفكرية لأحمد، ذي التوجه الماركسي الذي ينعكس بالضرورة على جملة مفاهيمه السياسية والاجتماعية والثقافية.
سهام محمد حامد برهان، في «الباقي من الزمن ساعة»، تصطدم بأبيها المحامي الإخواني ذي التوجه السياسي والفكري المناقض لاختيارات الابنة اليسارية. التناقض بينهما لا يتوقف عند هذا الإطار الموضوعي بطبيعة الحال، ذلك أنّ تداعيات الانتماء تنعكس على السلوك والمنظومة الأخلاقية الثقافية لكل منهما. ومن هنا يسود التوتر والعداء المكتوم، الذي يفضي إلى المقت والخصومة والغربة.
الصدام والتوتر بين الآباء والأبناء، لأسباب متنوعة متباينة، لا يتعارض مع القواعد العامة الأكثر شيوعاً في المجتمعات الإنسانية، كما هو الحال في مصر وغيرها من البلدان، في العصر الحديث وغيره من العصور. ذلك أن الاختلاف وغياب التجانس والانسجام بين البشر وارد ومنطقي، وصلات القربى الحميمة لا تتناقض مع الحدة والشراسة التي تصل إلى حد الخصومة والعداء، لتشابه الطباع أو تعارضها الجذري، وللإسراف في التدليل أو المبالغة المتطرفة في القسوة، وللهوة التي تفصل بين الأفكار والأجيال والرؤى الثقافية والسياسية.
قد يقتصر الأمر على الغضب المكتوم والتنفيس بالكلمات الموجعة، أو يمتد إلى السلوك العملي وصولاً إلى ساحات المحاكم للحجر على الآباء، تحت مظلة الاتهام بالسفه وغياب الرشد واهتزاز التوازن النفسي، بل إنه يتجاوز ذلك كله، فيصل في عنفوانه إلى مرحلة القتل أو الشروع فيه. تنفرد رواية «السراب» بتقديم الصراع العنيف الحاد بين الآباء والأبناء، عبر جيلين متتاليين. رؤبة لاظ يسعى إلى قتل أبيه بدس السم في طعامه وينكشف أمره، وكامل رؤبة لاظ يحتد بدوره على أبيه، وتفوح من كلماته الانفعالية الغاضبة رائحة التهديد، وهو الشاب الانطوائي الخجول العاجز عن القيام بأفعال دون القتل بكثير!
تزداد رؤية الكاتب الكبير نضجاً وعمقاً عند النظر إلى تحليقه الشجاع ناحية الإطار الرمزي المستمد من تقديمه لعلاقات الآباء والأبناء. ويتمثل ذلك بشكل متميز في أعماله الروائية التي تمتزج فيها المعالجة الاجتماعية المادية بالعمق الفلسفي الوجودي، وهذه الروايات هي: قلب الليل (1975)، «الطريق» (1964)، «أولاد حارتنا» (1962).
فكرة «الأب» و«الأب الأعلى»، بتجلياتها المختلفة، بالغة الوضوح في الروايات الثلاث المشار إليها، حيث لا يقتصر الأمر على الظاهر المباشر، فيمتد إلى أعماق تنشد البحث عن مفاتيح تعين في فهم جوهر اللغز الإنساني.
العلاقة السوية بين الأب والابن هي الأكثر شيوعاً وانتشاراً في الواقع، ومن ثم في إبداع الكاتب الكبير، لكن الاستثناء قائم ويحتاج إلى دراسة تعين في تحقيق المزيد من الوعي بخصوصية نجيب محفوظ في معالجته لكل ما هو خطير ومسكوت عنه.
صحيفة الأخبار اللبنانية