قراءة أخرى في ‘أول الجسد .. آخر البحر’
رغم ذلك الفيض من ألوان وصنوف الصور التي رسمها في نصوصه وحاكاها مثلما يحاكي أيما موجود من موجودات الطبيعةِ، فالضوء في الجسد وغير المرئي والعطش والحقول والنوافذ والهجير والفلك والفيض والصحراء والهياكل والفأس وغيرها الكثير من المفردات التي تتدرج في النص الى أن تصل حد الدفن في الجسد أو النعي عليه.
كما أن أدونيس يختار المناطق الأكثر تقاربا أو ضيقا للتعبير عن أوسع الدالات التي تهييء للقارئ مناخه المعتدل والذي يقرا من تحته برؤية ما يأتي من االجمل الشعرية اللاحقة الفعالة والمثيرة.
وقد جعل أدونيس الجسد مركزا للإستقطابِ عند اشتغاله على هذا المحور حيث نشط من خلاله فعاليات كثيرة كادت تصبح لذاتها نصوصا كبيرة، أي موضوعات تتصل بعلاقات أخرى خارج مركز الإستقطاب الذي ذكرناه، فالتأسيس هنا وبشكله المكشوف يبدو تأسيسا خبأ فيه أدونيس مرحلة إنتقالية أخرى أو أنه قد يكون قد أعدَ نفسه لإفتتاح مناخه الشعري لما بعد الجسد.
وسبق لنا حين أشرنا في مقال سابق عن هذه المجموعة الشعرية كون فعلها فعلا ترابطيا ولكنه يتسم بالتأثير غير المكرر، فهناك شعور ما يدفع بالقارئ نحو عدم الإكتفاء من لذة واحدة لأن أدونيس يمنح للقارئ أبعادا أخرى يحسن من خلالها إجادة مراكز إنتقالاته، وهي واحدة من الأسباب التي يمكن من خلالها قبول أي مفردة (أباحية) لأن النظر الى هذه المفردات لا يتم من خلال مدركها المألوف أو حتى توقع طبيعة استخدامها، فقد يكون “فرج المرأة” على سبيل المثال أحشاء الكون، وبذلك يكون الإطلاق غير محدد بالقضايا الجزئية التي نريدها نحن أو على أقل تقدير تلك التي كانت وأصبحت ضمن دالاتنا وموروثاتنا ضمن سياقها ودلالاتها المعبرة.
أي أن أدونيس يمزج في شعره بين قضيتين، قضية الشعر للشعر وتوظيف ما أمكن من المتحسسات الجمالية بين غاياته التي تحددها قواه الإنفعالية وبين قضيته الأخرى الضمنية وهي الوصول الى البعد الآخر في مفهومه التنظيري من خلال النص المطروح نفسه.
وهذا يتطلب المزاوجة ما بين العاطفة والمعرفة ولنقل الخيال ومعلوماتية التنظير وكأن هناك أدونيس الشاعر وأدونيس المنظر والحسنة في ذلك أن تنظيره الكوني يذوب الى حد ما في مكوناته الشعرية بقدرته الفائقة للإفلات من سيطره أحدهما على الآخر.
لذلك وكما ذكرت كان الجسدُ مصدرا لتصدير قضايا أخرى وأحيانا من خلال الإحتفاء بأنوثته تارة وتارة من خلال فيضه وتساميه في أيما مكتشف يود الشاعر الدخول من خلاله إليه.
إن تحول أدونيس السريع عن منطقة الإستقطاب (أو المركز) والذي هو الجسد والإنتقال الى تخوم حاجاته الحقيقية ذات الدافع الأكثر شموليةٍ والمتمثلتة في زمانه المرئي وغير المرئي وأماكنه التي أسسس لها بفعل قوة المخيلة ودوره الإستكشافي جعل من أهمية الجسد أهمية ثانوية إذا ما تم التركيز على مناطق الإشتقاق الأخرى التي ربطت الجسد بالبحر وأنوثة الجحيم بالثلج والرحيل بالغواية. وهو بمثابة الكشف المؤجل والذي طرق على الجسد وعاد الجسد للطرق على حاجات كثيرة خارج منظومة اللحظة التي جعل من الجسد قطب رحى الإنبعاث والتشيؤ تحت كميات ومديات الأضوية الكاشفة للمناطق المعتمه في هذه الحاجة أو تلك.
هبطت نَجمةٌ ..
تمشت خلسةً
في الزقاق المؤدي الى بيتنا
وأعطت قدميها الى عاشقٍ
وأعطت ليدي
نخلة شعرها
عجباً
لم يكن أحدٌ
في الطريق إلى بيتنا
يقتفي خطوَها.
إن متعة الجسد تكمن في متعة مخاطبة “المرأة” من خلاله، أي أن الفعل الوصفي يتحد بفعل الشراكة الروحية في الفعل الأول يبدو الوصف هدفا لإبراز قيمه ما غير محددة بمعيار غرائزي إشتهائي رغم صراخ الرغبات في إيما تجوال في حدود ذلك الجسد.
وهذا أيضا يضيف الى البعد الغرائزي إمكانية حشد مؤثراته المعبرة عن الحاجات الإنسانية وفق مفهوم الغريزة الفعالة، والتي ينمي الشاعر من خلالها غرائز أخرى في حاجات أخرى تبعا لتأثير المشهد المستخدم للبدء بالبناء عليه، أي أن حرية جنوح أي من المشاهد الى أي من المديات غير المقرونة بجوهر الموضوع واردة في أي حضور لأي مفردة ما، لأن هناك كما ذكرنا فعل الشراكة الروحية الذي أخلى بموجبه أدونيس الجسدَ من “فردانية الجسد” وجاء هذا الإخلاء معبرا عن نزاهة القصد:
ها هو الحب سهرانُ
والليلُ كالفجرِ
يمضي إلى كهفهِ
والمحبون يرمون أسماءهم
في محابر لا يعرف الحبرُ فيها
سوى موتهم
نجمةٌ تتنزهُ فوق القبور
التي لن يشارك حتى فم الريحِ
في ذكرِ أسمائِها
عانقتني
وغابت
لقد أثرى متخيل الجسد مُتخيل البحر التأمل والتركيب، وحل أدونيس ما بيننا من إشكال في فهم العلاقات المتشكلة من تباين المنظور، وتم تأمل الجميل المتصل بشيء، والجميل المتكون من انتظار شيء لتكون لغته قد نقلت لنا ما نريد.
ميدل ايست أونلاين