قراءة ثانية في كتاب فادي بردويل: الماركسية العربية وعثرات التحرّر

 

يستهلّ د. فادي بردويل فصله الثاني من كتابه Revolution and Disenchantment: Arab Marxism and the Binds of Emancipation (ترجمتي للعنوان غير الوافية: الثورة وخيبة الأمل: الماركسية العربية وعثرات التحرّر) الصادر أخيراً عن جامعة Duke في نورث كارولاينا الأميركية بفقرة من كتاب Thinking Past Terror: Islamism and Critical Theory on the Left (التفكير بالإرهاب الماضي: الإسلامية والنظرية النقدية عند اليسار) لمؤلفته سوزان باك مورس الصادر عام 2003 في أعقاب أحداث الحادي عشر من أيلول 2001. يوافقها الرأي في ما تقوله ويقاسمها الحجّة في ما تدّعيه بأن «الإسلامية كخطاب سياسي يمكن اعتبارها مع النظرية النقدية نقداً للحداثة في شكلها المُطوّر غربياً»، فتدعو الكاتبة إلى ترجمة بين اللغات ما يلغي الفروق بين الـ«نحن» والـ«هم». هنا يرى بردويل والأرجح من وجهة الميتافيزيق أنها تفصل فصلاً مبرماً بين الإسلامية والأصولية المتزمّتة. يرمي مشروع ترجمتها إذن إلى إنقاذ الفكر النقدي عند سيّد قطب (1906-1966) وعلي شريعتي (1933-1977)، بالقياس إلى أدبيّات اليسار العالمي الجديد، فيما تلحّ صوب نهاية كتابها على أن التراث الماركسي العربي عالقٌ في شبكة الحداثة.

على هذا المتكأ، يرتكز بردويل في رصده حركة تنامي فكر تنظيم «لبنان الاشتراكي» منذ 1964 بلولبيه الديناميين وضّاح شرارة (مواليد 1942) وفوّاز طرابلسي (مواليد 1941). يعتقد بردويل إذن أن ترجمة سوزان باك مورس لنصوص قطب وشريعتي إلى الإنكليزية في نيويورك، تختلف جذرياً عمّا قام به ماركسيّو بيروت من ترجمة ماركس وجياب إلى العربية. هنا يرى بردويل بالعين المجرّدة فصاحة سوزان باك مورس، حين تؤكّد «أن إشكال نقدنا، لهي أفعال تؤثّر هي نفسها في التاريخ»، أي ما عجز عنه كانط وهيغيل من قبل وحتى ماركس من بعد، فها، ولله الحمد، وصلَنا الترياق في ظروف حلاوة نقدية، فلتكن الساق على الساق ولنهنأ بنعيم النقد ولطف دعته، طالما أنّ لا حاجة إلى جهد لشقّ نظريّة أو حفر رأي، فما أخفّ قدمها في النقلة من الفكر إلى الممارسة. لا بل إنها في مقاربتها مؤلّفات قطب وشريعتي مع نصوص Benjamin وAdorno تجزم أنه من الممكن في نهاية المطاف أن تؤدّي أشكال الترجمة إلى توفير أرضية مشتركة للنظرية النقدية، فما أحلاها في عناقها وما أبهاها في لقاها، وعلى هذه النظرية فليتكئ الكلاميّون.

يدور كتاب بردويل إذن حول اليسار الجديد هنا عندنا في بيروت، نجمتنا وخيمتنا، مع وضّاح شرارة وفواز طرابلسي وأحمد بيضون (مواليد 1942). في البدء، كان «لبنان الاشتراكي» معهم (1964-1970)، ثم اندمجوا مع «منظمة الاشتراكيين اللبنانيين»، التي أسّسها محسن ابراهيم (مواليد 1936) في 1968، أي الجناح الراديكالي لحركة القوميين العرب في نسختها المحليّة، فظهرت إلى النور «منظّمة العمل الشيوعي» عام 1970، ثمّ خرج منها وضّاح لجنوحه إلى الماويّة، فما أن كانت الحرب الأهلية عام 1975 حتى وجّه مدفعيته الثقيلة لقصف معاقل السياسة اليسارية المحليّة التي لم تنجُ من الوقوع في المطبّ الطائفي الذي قصم ظهر البلد.

اليساريون هؤلاء ومن آزرهم من أترابهم في سعيهم (عزّة شرارة بيضون، عباس بيضون، وجيه كوثراني، محمود سويد) هم فلسطينيو الهوى أساساً، وقوميّون عرب أيضاً: ناصريّون أو بعثيّون أو حركيّون، تعرّضوا إثر انفصال الوحدة بين مصر وسورية (1961) وهزيمة 1967 إلى هزّات عقائدية، زاد طينها بلّة الحرب الأهلية واجتياح 1982، ما حتّم الخروج بمفاهيم يساريّة جديدة ومغايرة للنهج اليساري الكلاسيكي. في محطّات عدة من كتابه، يلحّ بردويل على أن انغماس شرارة بالماويّة وسّع من دائرة تحليله الماركسي، فكشف عن الهوّة القائمة بين النظرية والممارسة. إذ رأى بوضوح أن تركيبة المجتمع اللبناني لم تشفَ من حمّى النزاع الطائفي، وأن جماعة اليسار الجديد ابتعدوا عن الجماهير. في حديثه إلى بردويل، يشير أحمد بيضون إلى أن شرارة تأرجح آنذاك بين تبنّيه لاستقلالية السياسي وخيبته من انزلاق السياسي إلى النسيج الاجتماعي، فرأى بيضون أن شرارة وقف وحيداً في موقع مهجور، وإن كنتُ لا أتفق تماماً مع هذا الرأي، فغداً حين يكتمل شكل الحياة ويهرم، يظهر تلقين التصوّر السليم، وهذا هو درس التاريخ الذي لا مفرّ منه، فالمعيار هو غربال الزمان.

الفصل الثالث من مؤلّف بردويل هو الفصل الأكثر تماسكاً لأخذه بنصوص متماسكة لثلاثة مفكرين متماسكين نهجاً وأسلوباً ومحتوى: صادق جلال العظم (1934-2016)، إدوار سعيد (1935- 2003)، مهدي عامل (حسن حمدان ــ 1936-1987)، في موقفهم الفكري إثر هزيمة 1967، لكن بعض التماسك ها هنا وافدٌ من مجرى الخلاف على موقع كتاب إدوار سعيد «الاستشراق» (1978)، وهو كتاب شديد التماسك في رؤيته وشرس التحدّي في انقلابه على معاصريه وقوي الشكيمة في جبهِهِ تمادي المتمشرقين في بعض الأحايين.

يرى بردويل هنا أن العظم تمسّك بالماركسية أكثر حين وقف إلى جانب مهدي عامل في النيل من استشراق سعيد. في البدء، أصدر العظم «الاستشراق والاستشراق معكوساً» (1981)، فأورد هفوات سعيد الماركسية، ثم نشر حسن حمدان «هل القلب للشرق والعقل للغرب» (1985) رأى فيه أن سعيد جنح إلى الطوباوية في ربطه الاستشراق بالفكر الغربي المحض وليس بجذوره التاريخية الطبقية. يفي بردويل العظم وعامل حقّهما وإن غمز بقناتهما، إذ فنّد موقف سعيد في استشراقه، فيما ألحّ في آن على أن العظم وعامل بقيا وفييْن لتراثهما الماركسي. العظم حتى وفاته في برلين (2016) بعيداً عن دمشق مسقطه، وعامل حتى اغتياله في بيروت (1987) بعيداً عن حاروف مدرج نشأته؛ شكّل الاثنان جبهة موحّدة في وجه سعيد من باب ردّ الاعتبار إلى ماركس فكالا له الصاع صاعين.

الفصل الخامس هو «فصل» شرارة، إذ أداره بردويل بمجمله على فكر وضّاح شرارة، فرأى أن هذا المفكّر الطلعة منذ صباه لم يبدّل ماركسيته العتيقة بليبرالية مستحدثة. غادر منصّته الأولى باتجاه فهم ترابط السياسي بالاجتماعي، فانتقاله إلى الماويّة أبعده عن رفاقه محسن ابراهيم وأحمد بيضون وفوّاز طرابلسي. رأى شرارة آنذاك أنّ السياسي عالقٌ في شباك الاجتماعي، ثم جاءت الحرب الأهلية لتميط عن سلطة المذهب والعائلة والحرفة والحزب، وتُظهر أن النزاع الطائفي جنح إلى بربرية دمّرت الجسد باعتباره مشتبَك علاقات الاجتماع برمّتها، ومن هنا وازى شرارة بين تركيبة الدولة والإنتاج الرأسمالي، وهو هنا في رأيي مصيب.

لعلّ كتاب بردويل هو الأول من نوعه في جمعه بين دفّتيه وثائق كان لا بدّ من جمعها لا سيّما أنّها تنتمي إلى مرحلة غَربتْ، إلا أنها أثْرتْ الفكر الحديث ومهّدت لنشأة تيّار يساري أجدّ نهض على إرثها. وقد أفلح بردويل في بحثه وتحليله وتقميشه وفهرسته وردّ النقاش إلى مصادره من باب «متى ضاعت الوثيقة ضاع التاريخ» مستهلّ كتاب أسد رستم (1897-1965) «مصطلح التاريخ» (1939). لا شكّ في أن توثيق بردويل بحث رائد، لكن كان حريّاً بصاحبه الإضاءة أكثر على يساريين ساهموا في إيقاظ اليسار التقليدي من كبوته وعلى رأسهم حسين مروة (مواليد 1930) وكريم مروة وطبعاً محسن ابراهيم صلة الوصل الأساسية بين فلسطين ولبنان إلى جانب كمال جنبلاط (1917- اغتيل 1977)، وجورج حاوي (1938- اغتيل 2005). لكن غاب عن الكتاب مفكّر يساري فذّ هو رئيف خوري (1913-1967) رأس يساري بنفسه، نزل من قريته «نابيه» إلى «أميركية بيروت» وهو في الثالثة عشرة والذاهب منها (1932) إلى المشاركة في ثورة 1936 في فلسطين والجالس إلى ستالين في كومنتيرن 1947 والمستقيل من الشيوعية المحلية إثر وقوف موسكو إلى جانب قرار تقسيم فلسطين، صاحب «الفكر العربي الحديث: أثر الثورة الفرنسية في توجيهه السياسي والفكري» [1943]، لهو راسخةٌ ذكراه في تاريخ اليسار اللبناني مثل رسوخ ذكرى محسن ابراهيم أبو اليسار عندنا. فمحسن كان في الثامنة عشرة في سكرتيرية حركة القوميين العرب حين حضر اجتماعها في 1952 (في محضر الجلسة: محسن ابراهيم. طالب في صفّ البكالوريا القسم الثاني. الكلية العاملية). إنه صلة اليسار الحديث باليسار الكلاسيكي وشبكهما بمنظمة التحرير الفلسطينية. ومن هنا كان من الضرورة الالتفات إلى سفر يساري هام هو «النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية» (1978) لحسين مروة (1910-اغتيل 1987).

الآن لا بُدّ من وقفتين كان على بردويل أن يفطن إليهما.

الأولى ذات صلة بتاريخ لبنان الحديث، أي الإطار الحاوي لنشأة لبنان الحديث من رحم القرن التاسع عشر. صحيح أنّ المؤلف يشير إلى مؤلّف كمال الصليبي (1929-2011) الجديد عن لبنان في مراجعه، لكن لا غنى عن القديم الصادر عام 1965 (ترجمه إلى العربية يوسف الخال) وهو القول الفصل في اعتباره أنّ المنطلقات العشائرية والعلاقات الجبلية لها أثرها على المجرى السياسي، أي أن التركيبة السياسية – الاجتماعية في القرن التاسع عشر لهي اليوم نفسها، إن لم تكن أسوأ وأدهى وأفكُّ رقبة، فيا سبحان الله ما أخفّ قدمنا نحن أيضاً في النقلة من قرن إلى قرن.

الوقفة الثانية ذات صلة بالعقيدة، وهي لها عندي ما لها، أعني مبادئ أنطون سعادة (1904-1949)، فهل يُعقل أن لا تكون في كتاب بردويل إشارة إليه، لا من بعيد ولا من قريب، ولا حتى على أنه مؤسّس النهضة القومية الاجتماعية ومشرّعها في بلاد الشام، أو لمحة عن انقلابه على النظام عام 1949، أو انقلاب حزبه أيضاً نهاية 1961- بداية 1962، وهما الانقلابان الوحيدان على النظام الطائفي، إلّا إذا كان أنطون سعادة هبط علينا من المريخ أو كانت ثورته الاجتماعية الأولى التي أعلنها من دمشق يوم 4 تمّوز 1949 هباء منثوراً.

حالفني الحظّ في صباي الهانئ في بيروت، فردوس الفكر العربي، أني لما نزلت إلى «أميركية بيروت»، درستُ على يد أستاذي الطيّب الذكر كمال الصليبي، فكان منطلقه في شرحه على الدوام أن التاريخ عنده موضوع يستوجب إعادة النظر المستمرّة في مادّته المتوفّرة، وأن هناك أصولاً لا يجوز الخروج عنها على الإطلاق.

هذا من حيث التاريخ وتدوينه. أما من حيث التأريخ لليسار ونشأته، فمما لا شكّ فيه أن الانتقال إلى الماركسية بصورة أعمّ وأشمل كان مع تحوّل حركة القوميين العرب من الناصرية إلى الماركسية اللينينية إثر هزيمة 1967 بزعامة جورج حبش (مواليد اللد في فلسطين 1925، حكيم من أميركية بيروت 1951). وعليه، فإن رديفه اللبناني محسن ابراهيم الذي أسّس «منظمة الاشتراكيين اللبنانيين» بدءاً من 1968 وإليه انضمّ «لبنان الاشتراكي» بهمّة وضّاح شرارة في 1970 فكانت «منظمة العمل الشيوعي». وعليه كان لا بُدّ للمؤلّف من إطلالة على ماركسية – لينينية حبش (وإن بقي قومياً عربياً يحنّ إلى الناصرية حتى وفاته في عمّان عام 2008)، وإطلالة أيضاً على الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين المنشقّة عن جبهة حبش بزعامة نايف حواتمه (مواليد السلط 1935) حيث هو في دمشق، وكلاهما عاش في بيروت حتى الاجتياح (1982) إثر خروجهما من عمّان (1970)، فلهما أيضاً علينا حقّ.

طبعاً سيأخذ عليّ بردويل إطالتي في نبش الهفوات في كتابه، ولكن ما هذا إلّا من باب العتب والعتب على قدر المحبة، فأنا عرفته طالباً مجليّاً وواعداً في «أميركية بيروت» يوم عدت إليها من المهجر قبل عشرين عاماً، وكان ولمّا يزل بحّاثة فهّامة، وأنا ما أشرت إليه هو من خانة التصويب والأرشفة، ليس إلّا، ولربّما، وليسمح لي بردويل، من باب التوجيه، فلليسار عليّ حقّ، من عدة وجهات؛ ولا أخفي أني لست خبيراً بالأدبيّات الماركسية، وإن كنت منذ الستّينات مهتمّاً بما يردُني عنها، وملاحظاً تنامي أنماطها: ما وقعت عليه منها من مقالات وأبحاث وما لاحظته وخبرته من ديناميّة جماعة اليسار هنا، وهذا من قرابة خمسين عاماً والزمان رغد والعقيدة هناء. ومع ذلك، جاء كتاب بردويل يسدّ على رفّ المكتبة اليسارية فراغاً كان لا بد له من سدّ، من حيث إحاطته باليسار اللبناني الناشئ بعد هزيمة 1967، فأعاد إلى جماعة اليسار هنا اعتبارها من حيث تأصيلها النقدي، في صياغة سليمة أمينة للنصّ العربي، ومن مرجعيته المستقبلية، إذ تبقى أول دراسة من نوعها، وبالإنكليزيّة، وعلى حدّ علمي بالعربية، تندرج تحت خانة دقّة البحث وشمولية الدرس. جهد مشكور وسعي طموح.

كلمة أخيرة عمّا يتوجب عليه إعادة النظر وكرّ البصر في التأريخ، وهي لأستاذي الجليل كمال الصليبي. إذ رأى أنه لو عاد إلى كتابة تاريخ الإمارة اللبنانية لأعاد النظر فيها وهو القائل إن الحقيقة التاريخية هي وليدة الزمن، وهو نفسه كرّ البصر في موقفه، فتدرّج من القومية العربية إلى القومية اللبنانية ثم نسخهما إثر هزيمة 1967 فأصدر «منطلق تاريخ لبنان» (1979) ليعدّل من كتابه «تاريخ لبنان الحديث» (1965)، ثمّ إنه بعد اجتياح 1982 زعزع الفكر التوراتي الغربي في «التوراة جاءت من جزيرة العرب» (1985)، وعاد إلى القومية العربية ورفع راية فلسطين ونكّس بيرق الأسطورة في تطريز صورة لبنان التاريخية المنمّقة في «بيت بمنازل عديدة» (1990)، وهو الذي أسمعني قبل رحيله، رحمه الله، «لاميّة العجم» للطغرائي وكان يتلوها عليّ عن ظهر قلب ويقف فيها مليّاً عند بيتين:

لم أرتضِ العيشَ والأيام مُقبلةٌ

فكيف أرضى وقد ولّتْ على عجلِ

غالى بنفسي عرفاني بقيمتها

فصُنتها عن رخيص القدر مبتذَلِ

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى