قرارات مرسي.. فاتحة صراع أم ثورة تصحيحية (أيمن سلامة)
أيمن سلامة*
حادثتان مرتبطتان وجوهريتان شهدتهما مصر هذا الشهر أولاهما: حادث رفح الأليم الاحد الماضي الخامس من أغسطس، في مركز حدودي في مدينة رفح الصغيرة أقصى شرق مصر..
وثانيتهما: عصر الأحد الثاني عشر من أغسطس، في ضاحية مصر الجديدة في مقر الرئاسة المصري، في قلب قاهرة المعز العامرة، والتي تعد الأولى في تاريخ مصر، منذ إعلان الجمهورية في يونية 1953، جسارة مسؤول مدني، وحتى رئيس الجمهورية في الاقتراب من أركان الحصن العسكري العتيد – الجيش المصري – ويصدر قرارات رئاسية خطيرة كاسحة غير مسبوقة في تاريخ مصر المعاصر، باستثناء القرارات الشهيرة التي أصدرها الرئيس المصري الاسبق محمد أنور السادات في 15 مايو عام 1971، والمعروفة في مصر بقرارات ثورة التصحيح أو تصفية مراكز القوى وفقاً لتكنيه صاحب القرارات ذاته الرئيس السادات.
وسنحاول فيما يلي تفسير واستكشاف قراءة ما بعد هاتين الحادثتين وارتباطهما وتوصيفهما القانوني وآثارها على العلاقات المصرية الإسرائيلية حسب الأولى، أو على الداخل المصري وربما الخارج حسب الثانية…
أولا: حادث رفح الحدودي و تداعياته الخطيرة في الجسدين السياسيى و العسكري
تعددت الحوادث الارهابية في شبه جزيرة سيناء في العقدين الاخيرين، سواء استهدفت هذه الاعمال السياح الاسرائيليين في سيناء ، أو القوات الاسرائيلية علي الجانب الاخر من الحدود المصرية ، أو القوات المصرية ، أو حتي الرئيس المخلوع مبارك ذاته ، بيد أن الحادث الاخير في رفح ليل الاحد من الاسبوع الماضي فاق في حجمه كل تصور و تخطي في نوعيته و طبيعته كل تحرز و تدبر .
كانت عملية استثنائية في نوعيتها و طبيعتها و الاهداف المبتغاة منها، و التي أعد لها و من دون أدني شك تنظيم ارهابي ذو مهارة خاصة في التدريب و التأهيل و خبرة متميزة في التخطيط و ادارة و تنفيذ مثل هذه العمليات التي تتشابه لحد كبير بالعمليات النوعية الارهابية التي يقوم بها تنظيم القاعدة وفروعها في سائر عملياته في مختلف أنحاء العالم، وهو ما أصابه الكثيرون بالخيبة والكارثة الكبيرة.
لقد أكد هذا الحادث- من دون مواربة- علي الداء المتفشي في الجسد الحكومي الرسمي للبلاد منذ عقود خلت، و هو انعدام الشفافية و الصدق و المكاشفة، و عدم اعتبار لحق المواطن الاساسي في الحصول علي المعلومة و بصدق، و المثير للصدمة في مجال انعدام هذه المصارحة للشعب، أن يصرح المسئول الأول في البلاد عن جهاز الاستخبارات، أنه أبلغ السلطات التنفيذية في البلاد بالمعلومات المتاحة عن الحادث قبل وقوعها، و يقصد بذلك رئيس الجمهورية، باعتبار أن رئيس المخابرات أحد أهم الموظفين التنفيذيين التابعين مباشرة لرئيس الجمهورية، و أن المعلومات الخطيرة التي يمكن أن تهدد الامن القومي، و المصالح العليا للبلاد من الواجب عليه ألا يتوان في الابلاغ الفوري عن هذه المعلومات حماية للبلاد و حفاظا علي العباد، و الأكثر اثارة في مثل هذا القصة الدرامية ، أن " موافي " يزعم بأنه في السابق كان اعترض على قرار الرئيس بفتح معابر سيناء مع غزة لتوقعه حدوث الاعتداء من هذا الطريق.
أما الطامة الكبري في الامر برمته، فهو التصريح الذي فاجأ بل و صدم المصريين جميعا، والذي أدلي به أحد مستشاري الرئيس و يؤكد بمقتضاه أن رئيس جهاز الاستخبارات في مصر لم يبلغ الرئيس المصري بتفاصيل المعلومات التي توافرت لديه سيناء مع غزة لتوقعه حدوث الاعتداء من هذا الطريق.
إن التحضير و التخطيط و التدبير و التنفيذ للعمليات الارهابية في سائر أنحاء المعمورة أسهل و اقل كلفة من مكافحة هذه العمليات الارهابية، و المثل الذي يضرب في هذا السياق هو الحادث الارهابي الاشهر : حادث الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة الامريكية عام 2001، فوفقا لسائر التقديرات لم يكلف الحادث مخططيه، و منفذيه مئة ألف من الدولارات الامريكية، بيد أن الحادث ذاته كلف الادارة الامريكية خسائر في الارواح الامريكية ناهزت حروبها في حرب الخليج الاولي عام 1990 -1991 ، و الحملة الجوية العسكرية في كوزوفو و يوغوسلافيا السابقة عام 1999، و أخيرا الحملة العسكرية التي قادتها في ليبيا العام المنصرم في 2011 ، أما الخسائر المالية- فحدث و لا حرج- فقد تكبدت الخزانة الامريكية ألاف المليارات منذ غزوها لأفغانستان في اكتوبر عام 2001 وحتى اللحظة الانية.
وعودة علي أكبر حملة امنية اعسكرية شرطية مشتركة في تاريخ مصر ، لمجابهة فلول الارهاب في سيناء و تقطيع أوصاله و اجتثاث بؤره، و التي يتابعها القاصي و الداني في أنحاء مصر، فمن نافلة القول الاقرار و التكرار بأن الإرهاب لا يجتث عرضه، و لا يجابه ظاهره، بالحملات العسكرية ، فالفر و الكر الأمني الحاصل الان في سيناء لن يجدي فتيلا، فمجابهة الإرهاب يتطلب إعداد منظومة متعددة الجوانب في سيناء المهملة منذ عودتها لأحضان مصر في 25 أبريل عام 1982، ثم طابا في مارس 1989، عبر الاهتمام الكافي بالنوعية الاجتماعية و الدينية و الثقافية و غيرها ، فاقتصار الرؤية علي المواجهة الأمنية و اختزال القرار في المواجهة المباشرة، يفضي الي تولد و توالد بؤر جديدة من الارهاب، و اشتعال جذوة الحنق و الغضب و العنف المسلح من جديد، بدلا من شفاء لجراح المستمرة في سيناء .
لقد اشتكي المواطنون في سيناء مر الشكوى من الممارسات الامنية تجاههم و الغريبة، بل الشاذة عن معتقداتهم و أعرافهم و تقاليدهم الخاصة، فالمعاملة المهينة غير الانسانية التي تعاملت بها الاجهزة الامنية مع أهالي سيناء قبل ثورة 25 يناير عام 2011، دون مراعاة للحساسية المرهفة للمجتمعات البدوية والقبلية، ولدت لدي جيل كامل من أبناء سيناء شعورا بضرورة الانتقام دعمه مجموعات غير صغيرة من التنظيمات التكفيرية الارهابية الفلسطينية و المصرية التي قويت شوكتها في الفترة الماضية بعد ثورة 25 يناير، مستغلة الفراغ و الانهيار الامني غير المسبوق في مصر بشكل عام و في سيناء بشكل خاص.
جبل الحلال .. والمعركة المرتقبة في سيناء:
ان الامر الذي لا مرية فيه، أن الحادث الارهابي الخطير الذي استهدف قسم شرطة العرش ثان عام 2011، و الذي قامت به أحد أخطر التنظيمات الارهابية في سيناء، لم يلق الاهتمام الكافي من المسئولين المصريين، حيث وجه المجلس العسكري جل اهتماماته لأمور و مستجدات و تطورات، لا تقل في خطورتها عن مجابهة الارهاب في سيناء، بيد أن هذا الدرس المر لم يترك في حلق المجلس العسكري غصة، و لم تكن الضارة نافعة في العريش، فلم يتم اتخاذ التدابير الاحترازية، أو الاجراءات الوقائية الكافية لسد الطريق علي اقل تقدير أمام هذه التنظيمات الارهابية الخطيرة سواء في سيناء أو الاتية الي سيناء، و بالرغم من استعار المعارك في سيناء، إلا أن المعركة المرتقبة الحاسمة ، علي اقل تقدير في قابل الايام آتية لا محالة ، و هي معركة اقتحام جبل الحلال ، و الذي يأوي العديد من البؤر الارهابية في سيناء .
وهنا نورد بعض الملاحظات و النقاط المهمة التي تتعلق بالمعركة المرتقبة في جبل الحلال الذي لجأ اليه من اختار الارهاب و اعتنق الحرام :
1- الطبيعة الطبوغرافية المميزة للجبل سواء الارتفاع الشاهق ، و مدقات الاقتراب الوعرة ، و التغير المناخي في اليوم الواحد ، فضلا عن المغارات و الكهوف و السروج ، كلها عوامل تصب في صالح المدافع اي الارهابي المحتمي بالجبل ،و المتشبث بالطبيعة الطبوغرافية الخاصة للجبل .
2- الامداد اللوجيستي للقوات المكلفة باقتحام الجبل صعوبة
3- و السابقة التجهيز سيطرة الارهابيين علي النقاط و المزاغل الحاكمة الحصينة المرتفعة بالجبل
4- لمرة الاخيرة التي خاض فيها الجيش المصري معارك كبري في المناطق الجبلية كانت معركة جبل المر في حرب اكتوبر عام 1973 مما يشكل عبء كبير علي القوات ، من ناحية نقص القيادات و الكوادر ذات الخبرة في القتال في المناطق الجبلية
5- هناك خلاف جذري بين الجيش و الشرطة حول كيفية ملاحقة الارهابيين خاصة في سيناء حيث يعتنق الجيش العقيدة العسكرية النمطية خلافا للشرطة التي درجت علي اسليب و أنماط و تكتيكات مختلفة عن عقائد الجيش القتالية ، و التي تختلف تمام عن عقائد و تكتيكات الشرطة في مكافحة الارهاب ، و التي سبق أن مارسوها لعقد من الزمان في منتصف الثمانينات
6- العقيدة التكفيرية للإرهابيين تمثل أيضا عبئا كبيرا علي مناورة و تحرك القوات المقتحمة.
معاهدة السلام والمستجدات الخطيرة في سيناء:
منذ ابرام مصر و في مارس عام 1979 معاهدة السلام في الولايات المتحدة الامريكية و برعايتها و وساطتها، صب الكثير من المصريين جم غضبهم علي المعاهدة، بحسبان أن المعاهدة و بموجب التزاماتها المتبادلة، تنتقص من السيادة المصرية في سيناء، حيث قلصت المعاهدة من التواجد العسكري المصري في المنطقة (ج) داخل الاراضي المصرية في سيناء، و هي المنطقة المتاخمة للحدود المصرية مع اسرائيل و قطاع غزة في ذات الوقت .:
من المستقر عملا، أن كافة معاهدات السلام التي تنهي حالة النزاع المسلح الدولي، اذا وقع بين دولتين أو أكثر، أو النزاع المسلح الاهلي، الذي يقع في اقليم الدولة الواحدة، تنص علي ترتيبات أمنية معينة، و اعادة انتشار للقوات لأطراف هذه المعاهدات، و ذلك من أجل تخفيض التوتر علي الحدود بين أطراف المعاهدة ، فضلا عن بناء الثقة بين هذه الاطراف .
في هذا الصدد نحيل القارئ الكريم الي أهم هذه المعاهدات : مثل اتفاقية الهدنة التي أنهت الحرب الكورية 1950 – 1953 ، و اتفاقية السلام في باريس عام 1973 و التي أنهت الحرب الفيتنامية الامريكية 1964- 1975، فضلا عن اتفاقية نيفاشا عام 2005 للسلام التي أنهت أطول حرب أهلية شهدتها القارة الافريقية بين شمال و جنوب السودان 1955 – 2005 .
بيد أن الامر أصبح الان جد مختلف الان عنه في عام 1979 و هو العام الذي شهد إبرام معاهدة السلام المصرية الاسرائيلية، حيث كانت التطورات الامنية الخطيرة في سيناء و قطاع غزة عصية التوقع، و مستحيلة التصور لكل ذي لب.
يقر القانون الدولي بأن التغير الجوهري في الظروف التي دفعت الأطراف إلي قبول المعاهدة أو الاتفاقية الدولية، فإذا نتج عن التغير الجوهري لهذه الظروف، تقلب جذري في الالتزامات المتبقية، يمكن للطرف المتضرر من الاعتماد علي نظرية التغير الجوهري في الظروف كسبب للمطالبة بإنهاء المعاهدة أو إيقاف العمل بها، ولكن هذا لا يتعلق بالمعاهدات و الاتفاقيات العادية، حيث يستثني من ذلك معاهدات السلام و اتفاقيات الحدود ذات الطبيعة الخاصة، مثل معاهدة السلام المصرية الاسرائيلية المبرمة في مارس عام 1979، و التي تتيح للأطراف المراجعة و التعديل للالتزامات وفقا لهذا التغير.
ان التغير الجوهري الحاصل في الظروف الامنية يستلزم الاتفاق مع الجانب الاسرائيلي علي تعديل الملحق الامني لمعاهدة السلام المصرية الاسرائيلية الخاص بأوضاع القوات المصرية في سيناء، و يجب الوضع في الاعتبار أن العمليات الارهابية التي تحدث بين الفينة و الفينة في سيناء يستحيل علي الجيوش النظامية مكافحتها بفاعلية، في ظل الواقع الامني المصري غير الايجابي في المنطقة (ج) في سيناء، و هي المنطقة التي شهدت الحادثين الارهابيين يوم 5 أغسطس 2012 ، و يوم 18 أغسطس 2011 .
لقد أكدت محكمة العدل الدولية علي حقيقة قانونيه مهمة، وهي عدم جواز التحلل الانفرادي أو الانسحاب أو إنهاء الالتزامات التعاهدية تأسيسا علي قاعدة التغير في الظروف، حيث يستلزم الامر موافقة كافة أطراف المعاهدة الدولية علي التعديل المقترح بصدد النصوص المطلوب تعديلها وفقا لإرادة الملتزم المتضرر من تطويق ذات النصوص لعنقه دون النظر بعين الاعتبار للتغير الجوهري في الظروف المشار اليه.
إن معاهدات السلام، و اتفاقيات الحدود يكون الهدف منها الاتفاق علي وضعية معينه، وتنظيمها بصفة دائمة، وذلك لكونها تحتاج إلي استقرار أكثر من غيرها، ومن هنا جاء الاستثناء الذي يجعل قاعدة التغير الجوهري للظروف، لا تؤثر علي معاهدات السلام و اتفاقيات الحدود ، الا أنه يمكن تعديل و تنقيح هذا النوع من المعاهدات كما سبق الاشارة اليه وفقا لإرادة أطراف المعاهدة الثنائية أو الجماعية ، فإذا كان القانون الدولي يضفي علي هذه الطائفة الخاصة من المعاهدات مهابة ، إلا أن القانون الدولي لا يسبغ عليها أية قداسة .
مجمل القول أنه يجب النظر إلي قاعدة التغير الجوهري للظروف علي أنها مبرر لتنقيح المعاهدة و تعديلها، وليست سببا من أسباب إنهائها فحسب اللهم إلا في الحالات الاستثنائية التي تبرر ذلك.
ان الاصرار الاسرائيلي المستمر لرفض تعديل بنود الملحق الامني لمعاهدة السلام، و عدم النظر بعين الاعتبار للمتغيرات الجوهرية للظروف الأمنية و الاقتصادية و السياسية في مصر خاصة بعد ثورة 25 يناير 2011، و تجاهل ذات المستجدات في قطاع غزة تحديدا و بعد وصول حماس لسدة السلطة في القطاع، يعكسان بما لا يدع أي مجال للشك، أن اسرائيل لا تنفذ تعهداتها الدولية " بحسن نية "، و تحديدا وفائها و التزامها بمعاهدة السلام المبرمة مع مصر، و يعد ذلك انتهاكا من الدولة الاسرائيلية لمبدأ راسخ من مبادئ القانون الدولي و هو الالتزام بتنفيذ المعاهدات الدولية بحسن نية.
فالعلاقة القانونية الدولية التي تربط أطراف المعاهدات الدولية ، مؤسسة علي نية حسنة لتحقيق أهداف و مصالح مشتركة التي جعلتها توجه ارادتها لابرام مثل هذه المعاهدات، لذا فقاعدة " العقد شريعة المتعاقدين "، أو " التزام المتعاقد بتعاقده "، يفرض أن تتزاوج مع مبدأ حسن النية الذي يشكل عمودها الفقري .
وفي صدد التعامل مع الواقع الجديد في سيناء ، أقترح علي المفاوض المصري بعض المقترحات، بشأن مجابهة مثل هذه الحوادث الارهابية التي نزفت فيها أذكي دماء مصرية، و قضي أثرها نخبة من جنود الجيش المصري هي كما يلي:
أولا: التفاوض المباشر مع الجانب الاسرائيلي علي مراجعة الملحق الامني، و تحميله المسئولية القانونية في حال اصراره علي رفض المراجعة، و التي نص عليها الملحق الامني ذاته.
ثانيا: ضرورة التزام الادارة الامريكية " الراعي الدولي لإطار السلام ، و اتفاقيات السلام " كامب ديفيد "، و معاهدة السلام المصرية الاسرائيلية، بمسئولياتها القانونية بحث ودفع الطرف الاسرائيلي لهذه المواثيق الدولية كافة، بالوفاء بمسئولياته القانونية بموجب هذه المواثيق.
ثالثا: ضرورة تعديل الولاية القانونية للقوة المتعددة القوات في سيناء، و المتواجدة في سيناء منذ عام 1978، و ذلك بما يسمح لها بإعادة هيكلتها، بما يتواءم مع التغير الجوهري في سيناء عن الظروف التي انتشرت فيها هذه القوات، و تحديدا مهام المراقبة في سيناء .
رابعا: عدم التضحية بمقتضيات الامن القومي المصري، و المصالح العليا للبلاد، تحت زعم اعتبارات انسانية، أو أخلاقية، أو مبادئ حسن الجوار.
قرارات مرسي وهل انتهى الصراع بين الإخوان والعسكر:
بالعودة الي ساحة الحرب الباردة بين خصمي اليوم حليفي الامس، المجلس الأعلي للقوات المسلحة في مصر، و جماعة الاخوان المسلمين، فقد نصح مستشارو الرئيس مرسي القانونين الرئيس بالغاء الاعلان الدستوري المكمل، و الذي كان أصدره المجلس العسكري في يونيو الماضي، قبل اعلان نتيجة الانتخابات الرئاسية، أي قبل تولي الرئيس مرسي سدة الحكم مباشرة .
قبل توليه الرئيس المصري الدكتور محمد مرسي سدة الحكم ، أصدر المجلس الاعلي للقوات المسلحة الذي كان يدير البلاد اعتبارا من 11 فبراير عام 2011، اعلانا دستوريا مكملا، حدد فيه سلطات الرئيس القادم للبلاد لحين كتابة الدستور الدائم الجديد للبلاد وانتخاب برلمان جديد على أساسه بعد حل البرلمان السابق من المحكمة الدستورية العليا.
وفقا للمجلس العسكري حينئذ فان الضرورات الحالة، و مقتضيات المصالح العليا للبلاد هي التي استوجبت اصدار مثل ذلك الاعلان، و الذي قيد بعضا من اختصاصات و سلطات الرئيس القادم، و جعل المجلس العسكري الهيئة التشريعية المنوط بها اصدار التشريعات و القوانين في البلاد، بعد قرار المحكمة الدستورية العليا الاخير، الذي قضي ببطلان الانتخابات البرلمانية الاخيرة ، و من ثم انعدم وجود مجلس الشعب برمته، مما آثار حفيظة فريق المستشارين للرئيس الجديد ، حيث اعتبروا أن رئيسهم، و رئيس البلاد بالطبع نمر بدون أنياب، في مواجهة خصم قوي لدود و هو المجلس العسكري.
لقد ذهب فريق الرئيس الي أن الاعلانين الدستوري الصادر في مارس 2011 ، و المكمل في يونيو 2012 غير دستوريين، و لا يحوزا أية متكأ شرعي ، أو سند قانوني، حيث إنهما صدرا من غير ذي صفة، و أن الرئيس المنتخب هو السلطة الدستورية الوحيدة المنتخبة شعبيا و بإرادة الشعب و عن طريق ديمقراطي هو الانتخابات الحرة النزيهة التي لم يشكك في نزاهتها كائن ما كان .
وفقا لذلك الزعم والرأي، فان الفريق القانوني للرئيس يعدم أية شرعية استثنائية، أو شعبية حازها المجلس العسكري، و التي كانت قد تمخضت عن الظروف الاستثنائية التي عصفت بالبلاد منذ 25 . عام 2011 و حتي كتابة هذه السطور، و هي الشرعية التي خولت له ادارة البلاد في هذه الفترة، أيضا يجب ألا يغيب عن الاذهان أن الرئيس ذاته و جماعة الاخوان المسلمين و حزب الحرية و العدالة، شاركوا في سائر الاجراءات و الممارسات الدستورية التي أرساها و مارسها المجلس العسكري في مصر و ذلك اعتبارا من يوم 11 فبراير عام 2011 و حتى تسليم السلطة من المجلس العسكري ، في الاحتفال المهيب في القاعدة العسكرية " الهاكيستب "، شرق القاهرة و بثته سائر وسائل الاعلام العالمية ..
وفي معرض الحجج القانونية و الدستورية التي حاجج بها الفريق القانوني للرئيس مرسي، و التي استدعت ضرورة الغاء الاعلان الدستوري المكمل أن رئيس الجمهورية يحتاج السلطة التشريعية، فضلا عن السلطة التنفيذية، التي يترأسها، وأنه ليس من داع و لا حاجة لأن يستأثر المجلس العسكري بالسلطة التشريعية، كما أن البعض من المدافعين عن القرارات الاخيرة الكاسحة للرئيس، رأي أن ذلك هي من أعمال السيادة، و التي تخرج عن عباءة الرقابة الدستورية للمحكمة الدستورية العليا.
وقبل الخوض في مفهوم أعمال السيادة، و التي يسميها البعض بالأعمال السياسية، نشير لمسألة غير خلافية، لا يختلف فيها اثنان، و هي أن الدساتير، والإعلانات الدستورية، يستحيل دستوريا ووفقا للمبادئ الدستورية المستقرة، علي التشريعات أو القوانين أو القرارات التي تصدر عن السلطة التنفيذية، ومنها القرارات، واللوائح الجمهورية أن تعدل أو تغير أو تنسخ اية نصوص دستورية ، فالدستور سيد التشريعات و القوانين كافة ، فالدستور – سيد القوانين – يعلو و لا يعلي عليه، و إلا يصير المتبوع تابعا و التابع متبوعاً.
ان القواعد الدستورية لا تلغي و لا تعدل إلا بقواعد دستورية أخري، و هذه نتيجة طبيعية قانونية تترتب علي مبدأ سمو الدستور ، فالقرار الذي صدر عن رئيس الجمهورية في مصر، و الذي يقضي بالغاء الإعلان الدستوري المكمل، لا يعدو إلا أن يكون قرارا اداريا تنفيذيا يخضع لرقابة القضاء، سواء الاداري أم الدستوري .
لقد حسمت المحكمة الدستورية العليا في مصر ، مسألة دستورية مهمة متعلقة بقرار الرئيس الاخير الذي ألغي الاعلان الدستوري المكمل، و ذلك في حكمها الصادر في 21 يونيو عام 1986 حيث قررت ( ان مرتبة النصوص الدستورية لا يجوز تعديلها إلا وفقا للإجراءات الخاصة المنصوص عليها في المادة 189 من الدستور.)
أما المحاجاة من قبل مستشاري الرئيس لسلطة التشريع فضلا عن السلطة التنفيذية التي يترأسها، فربما خان التعبير مستشاري الرئيس، حين استخدموا عبارة : " الرئيس يحتاج " ، فمهما كانت العبارات و الالفاظ، فالنتيجة القانونية غير القانونية في الوقت ذاته، هي أن الرئيس اغتصب السلطة التشريعية، و التي يستحيل دستوريا علي أي رئيس أو حكومة أن تجمع بين سلطتين اثنتين، حيث إن هذه الجمع يعد انتهاكا لمبدأ دستوري راسخ و مستقر، و هو مبدأ الفصل بين السلطات.
لقد أصاب " مونتسكيو " ، حين قرر أنه " اذا أصبح في يد شخص واحد أو هيئة حكومية واحدة السلطة التشريعية الي جانب السلطة التنفيذية فلا يكون ثمة حرية "، فمن المؤكد أن المآل الوحيد لتركيز الوظائف و السلطات في يد هيئة واحدة ، الاستبداد و الطغيان .
لقد وصف الفقهاء الدستوريين كافة ، الحكومة الواقعية و هي التي تجمع بيدها كافة السلطات، و خاصة السلطتين التشريعية و التنفيذية، بالحكومة الديكتاتورية لان الحكم الديكتاتوري مثلما يمارسه فرد ( كديكتاتور فرانكو في اسبانيا ) يمكن أن تمارسه هيئة أو مجموعة من الافراد مثل حكومة العقداء الانقلابية في اليونان 1967 – 1974 .
أما أعمال السيادة، أو المسائل أو الاعمال السياسية، فهي المسائل المحصنة ضد سلاح رقابة القضاء، حيث تخرج عن نطاق رقابته، و غير قابلة للفصل فيها قضائيا، خلافا للتشريعات ، و القوانين، و اللوائح و القرارات التنفيذية.
لقد استطاع القضاء الامريكي أن يحدد قائمة بتلك المسائل، مثل المسائل المتعلقة بالعلاقات الخارجية، ( مثل الاعتراف بالحكومات الاجنبية ، تعريف حالة الحرب و السلم ، و تعيين بداية كل منها ، و شروط صحة المعاهدات ، و الوضع القانوني للمثلي الدول الاجنبية)، و ابعاد الاجانب ، و المسائل المتعلقة بالنظام السياسي الداخلي 🙁 مثل سلطات الحومة المركزية علي الاقاليم ، و تحديد المقصود بالحكومة الشرعية ، و تحديد معني النظام الجمهوري و الديمقراطي ) ، الا أن الامر يبقي في النهاية منوط بالرأي الاخير للمحكمة العليا ، و دون غيرها ، في تحديد ماهية الاعمال التي تخرج عن رقابة القضاء .
أما في مصر، فقد استقر قضاء المحكمة الدستورية العليا بالنسبة للأخذ بفكرة الاعمال السياسية، الي أن العبرة في تحديد التكييف القانوني للأعمال السياسية هي بطبيعة العمل ذاته لا بالأوصاف التي قد يخلعها المشرع عليه مهما كانت طبيعته تتنافي و هذه الاوصاف.
المثير أيضا في ذات الشأن، أن المحكمة الدستورية العليا في مصر، ما فتئت تضيق من هذه النظرية الدستورية، و رفضت المحكمة الاخذ بها في مجال الحقوق و الحريات الدستورية بصفة خاصة، مما يدعم دولة القانون في مصر .
فحين دفعت الحكومة المصرية عام 1986 ، بأن القانون رقن 33 لعام 1987 ، و المعروف حينها، بقانون حماية الجبهة الداخلية و السلام الاجتماعي، و الذي حظر علي جميع المواطنين المصريين مباشرة حقوقهم السياسية و المدنية، وهم الذين تقلدوا مناصب وزارية منتمية الي الاحزاب السياسية قبل ثورة يوليو 1952، يعد عملا من أعمال السيادة يخرج عن رقابة المحكمة الدستورية العليا، خاصة بعد تأييد ذلك القانون بموجب الاستفتاء الشعبي الذي أجراه الرئيس السادات لتحصين هذا القانون، بيد أن المحكمة قضت برفضه وبأنه : " لا يجوز أن يتخذ الاستفتاء الشعبي، ذريعة الي اهدار أحكام الدستور ، كما أن الموافقة الشعبية علي مبادئ معينة طرحت في الاستفتاء ، لا ترقي الي مرتبة النصوص الدستورية التي لا يجوز تعديلها الا وفقا للإجراءات الخاصة المنصوص عليها في المادة 189 من الدستور "
ان العبارات الاخيرة من حكم المحكمة المشار اليه، يوضح و من دون أدني شك الاصول و المبادئ الدستورية لتعديل الدستور، و ربما يكون ذلك الحكم التاريخي للمحكمة الدستورية العليا المصرية معينا دستوريا مهما، للمشككين في سلطة الرئيس مرسي في الغاء الاعلان الدستوري المكمل.
بين يوليو وتصحيح مايو و الإخوان:
ما فتئ المصريون يراهنون علي قيام الجيش بانقلاب عسكري وشيك لتصحيح أوضاع سياسية معينة، و لإعادة التوازن السياسي و الامني في البلاد، بين أطراف عديدة ، و لم يقتصر الرهان المصري الخاسر في جميع الاحوال، علي انقلاب الجيش، ضد هيمنة جماعة الاخوان المسلمين و حسب، بل انبسط هذه الرهان ليمتد الي حدوث الانقلاب الجيش ذاته ضد الجيش.
في هذا الصدد يغيب عن أذهان و ذاكرة العامة و الخاصة في مصر ، أنه اذا كانت سورية منذ استقلاها عن فرنسا في عام 1943 ، شهدت أكثر الانقلابات العسكرية قاطبة في الدول العربية ذات النظام الجمهوري ، فان مصر و جارتها ليبيا ، تكادا تكونا الدولتين العربيتين الجمهوريتين الوحيدتين، اللتان لم تشهدا انقلابا عسكريا منذ يوليو 1952 في مصر، و منذ سبتمبر 1969 في ليبيا.
لقد تواترت و تكررت أمال المصريين المعارضين للرئيس مرسي و جماعة الاخوان المسلمين ، من قوي و تيارات و اتجاهات عديدة، و حسب هؤلاء أن الجيش المصري هو الملاذ الوحيد لحمايتهم – وفق زعمهم – من استئثار الرئيس و عصبته من الانصار أعضاء جماعة الاخوان المسلمين، و تاقت تطلعاتهم أن يقود الجيش هذه التيارات و القوي المعارضة للرئيس ، و ذلك للتخلص منه .
ان المراقب المدقق للمؤسسة العسكرية، و خاصة في المبادئ الديمقراطية التي اعتنقتها هذه المؤسسة، و منذ اندلاع ثورة 25 يناير المجيدة، يدرك منذ الوهلة الاولي، انحياز الجيش للمطالب الشعبية المشروعة، و ارساء المؤسسات الدستورية في البلاد، و الاحتكام للقانون و القضاء في أدق و أخطر الحوائج و النوازل، فضلا عن التداول السلمي للسلطة، و ارساء مبدأ التعددية ، و التي تعد وفقا لبعض المدققين، أهم المبادئ و القيم الديمقراطية التي عجزت القوي السياسية المدنية أن ترسخها أو تعكسها .
و بالرجوع للحالة المصرية، يذكر المرء واقعتين شهيرتين شهدت فيهما البلاد مجرد محاولتين لقلب نظام الحكم ، الاولي ، أو بالا حري الصغيرة، حين حاول حرس المشير عبد الحكيم عامر، و قلة آخرين من الضباط المصريين المؤيدين لعامر، أن يفكوا أسر المشير الذي حدد الرئيس ناصر اقامته، و حمله مسئولية الهزيمة العسكرية، في نزاعه المستميت للتشبث بأهداب السلطة، في الايام القليلة بعد هزيمة يونيو 1967 .
أما المحاولة الثانية و الاكبر في الوقت ذاته، فكانت في مايو 1971، حين عارض العديد من الوزراء و المسئولين الحكوميين الناصريين في مصر، السلطة الجديدة في البلاد و التي ألت الي الرئيس الراحل السادات ، بعد وفاة الزعيم ناصر ، حيث كان السادات قد اتخذ العديد من القرارات و الاجراءات التنفيذية ، لإحكام سلطته و بسط سيطرته علي البلاد ، فاعتبرها هؤلاء انقلاب علي المبادئ الناصرية ن و خيانة لثورة يوليو عام 1952 .
فما كان من السادات إلا أن قام باعتقال جميع هؤلاء المسئولين، في عملية بوليسية خاطفة أيضا، و في لحظة واحدة .
ان المثير للدهشة في الحالة المصرية أن المتطلعين لانقلاب عسكري ضد الرئيس مرسي، يتناسون انهم في الوقت ذاته كانوا يلومون الرئيس المخلوع مبارك علي إبقائه لوزراء تخطوا الثمانينات و السبعينات من عمرهم، و منهم بالطبع وزير الدفاع المقال، كما أن هؤلاء و في معرض هجومهم علي المشير طنطاوي، كانوا يعتبرونه من أهم الرموز و الشخوص التي حمت نظام مبارك، رغما أن ما من أحد ينكر أن الجيش المصري بقيادة طنطاوي هو الذي حمي الثورة منذ بدايتها، و هو الذي رفض استعمال العنف المسلح ضد الثوار .
ولكن تبقى ميزة كبرى لهذه التغييرات وهي ضخ الدماء الجديدة في صفوف قيادات القوات المسلحة، والتي من المؤكد أن الجسد العسكري يحتاجها في هذه الفترة الحرجة التي مس الارهاب شرفه، و ران بسؤدده، فكان اختيار مرسي للجنرالين السيسي و صبحي، و هما اصغر عضوين في المجلس الاعلي للقوات المسلحة، كي يقودا القوات المسلحة في هذه الفترة له أبلغ الاثر في شحذ هم القادة ، و تقوية عزيمتهم لتنفيذ المهام و تأدية الواجبات الملقاة علي عاتقهم من قائدهم الاعلي للقوات المسلحة.
ختاما نرى أنه ما من شك أن الأوضاع الخطيرة الحاصلة الان في مصر تستوجب أول ما تستوجب ، الانسجام و التناسق بين المؤسسة العسكرية و مؤسسة الرئاسة في مصر ، فضلا عن ضرورة تألف و تكاتف الامة المصرية ، خلف رئيسها و جيشها ، لاجتياز معركة مهمة حاسمة ، و هي معركة استئصال جذور الارهاب في سيناء ، ثم خوض معارك البناء و التنمية و الاستقرار.
*أستاذ القانون الدولي بالجامعات المصرية وعضو المجلس المصري للشؤون الخارجية.
معهد العربية للدراسات والتدريب.
العربية نت.