قصة ياسمينة القبو الذي هاجر أصحابه!
في المكتب الذي أعمل فيه نافذة أطل من خلالها على ياسمينة في حديقة القبو الذي يقع المكتب فوقه، وتغطي الياسمينة مساحة واسعة من باحته، فتختفي وراءها بحرة البيت وأحواض الخبيزة والمحكمة وجذوع أشجار النارنج والكباد والمانوليا التي تتسلل إلى فوق في تعال أخاذ !
تعربشتْ الياسمينة على دالية العنب الزيني فغطتها، وصارت تبدو من فوق بساطا لعروس ارتدت ثوبها الأخضر وقد رسمت عليه أزهار الياسمين بياض قلبها، ومنذ اللحظة الأول شغفتني، وجعلتني أسيرا لها ..
لم تكن إطلالتي عليها كل يوم كافية، وكنت أسترق أي فرصة لأراها في كل الأوقات، إذ يفوح عطر الياسمين السحري، فيدخل القلب والأنف معا، وكأنه يتحدى عطور الدنيا بأناقته، أما أنا فأهم بأن أمد يدي نحوها لألمسها أو لأقطف شيئا منها، فلا أستطيع، كانت تبدو بعيدة أكثر مما أتصور..
كنت أشعر وأنا أطل عليها، وكأنها امرأة مستلقية تتأمل زرقة السماء، وكنت كطفل صغير، أعتقد أن كل هذا الطيب ينبغي أن يكون لي، فأستنشق بعمق وكأني كنت أسبح تحت الماء وقد خرجت لتوي أبحث عن هواء!
توطدت علاقتي مع الياسمينة. توحدت مشاعري معها. وإذا بها جزء مني يشغلني هذا الجزء بهواجس شتى يومية، فمن يسقيها، ومن ينظف التراب من حول جذورها، ومن يعتني بها لأن أصحاب البيت كما علمت سافروا أو هاجروا، أي أنها وحيدة!؟
صرت أرشقها بالماء من فوق كي لاتعطش، وأخاف عليها من أن يأكلها الزمن فتذبل، أو ربما يتأبط الهالوك جذعها، فيأكل روحها فتموت، وكنت أحاكيها أحيانا بكلام جميل وكأنها تسمعني!
جاءتني الفكرة على عجل، وهي أن أقفز من النافذة إلى القبو، فأكسر وحدتها، وأصنع لها قناة من الماء تأتيها من صنبور قريب بحيث تتوارد عليها المياه على مدار الساعة فلا تعطش، لكني خفت، فأنا رجل تجاوز الستين، وعندما أقفز إلى القبو، ربما أتعثر، فتكسر ساقي أو يدي، ولاتستفيد الياسمينة مني، وربما يشن أصحابها أو السكان المجاورون حربا عليّ عندما يظنون أنني سارق أتسلل إلى البيت بحجة الياسمينة، فمن سمح لهذا الرجل أن يقترب من الياسمينة؟!
تراجعت عن فكرتي، ورحت أرشها بماء نظيف صباحا ومساء. ووجدت نفسي أبثها كلاما همسا لايسمعه أحد، فأقول لها : اشربي، احذري العطش.. وأسألها : هل عطشت؟ وأغني لها أحيانا بصوت أجش : ياوردة الحب الصافي، فلا ترد!
والغريب أن عطرها، في الآونة الأخيرة، صار يزداد وبياضها صار يختلط مع خضرتها ليشكل تجانسا لونيا بين البياض الناصع والخضرة حتى لتخالها فرحة بما يفعله الرجل الذي يعمل في الطابق الأول، أي أنا ..
أصابني نوع من الهلوسة، فقررت أن أتوقف عن رشقها بالماء، وأرقب رد فعلها ، وانتظرت: رأيتها صباح اليوم الثاني مكفهرة الوجه وقد تراجعت نصاعة بياض الياسمين وخمد ألق الاخضرار .. واتخذت قراري : سأنزل إلى القبو!
خاطرت، ونزلت في ساعة مبكرة من ذلك الصباح.. أحسست أن جسدي أقوى مما توقعت. بل شعرت أن الشباب يتجدد فيه، وتحت، في القبو الذي نبتت فيه الياسمينة، بحثت عن مسار الماء الذي فكرت بحفره داخل التراب، فكان موجودا، تفقدت الهالوك والأعشاب الضارة فلم أجدها، كان كل شيء يوحي بأن الياسمينة لا تحتاج إليّ، فمن رتب لها طقوس حياتها، من يقوم بالمهمة التي تطوعت أنا لها؟!
صعدت إلى الطابق الذي أعمل فيه، وشغلتني الأفكار طيلة ذلك النهار ، فأمضيته شاردا، مهموما بأسئلتي التي لم تجد أجوبة لها، إلى أن حلّ الليل، وفي الليل قليلا ما أتردد إلى مكتبي، جئت على غير العادة، ومباشرة توجهت إلى النافذة، كانت الياسمينة تفوح بعطر آخّاذ، وتتوهج أزهارها كأنها فراشات الليل الفوسفورية البيضاء، كانت أكثر ألقا مما توقعت، فانحنيت بجسدي على حافة النافذة أرقب زهوتها وأشم رائحتها بسعادة ..
سمعت حركة في القبو .. سألت نفسي: “هل عاد السكان؟”
وشاهدته: كان شابا لم أره من قبل، يدور حول جذع الياسمينة النحيل فيزينه بشريط ملون يشبه الخاتم، ثم يبدأ بغسل أوراقها بالماء وجمع الأعشاب عن جذورها، وكان يمسح كل زهرة فيها، وكانت الياسمينة سعيدة يمكن ملاحظة سعادتها من الوميض الذي يرتسم على أزهارها ..
همست : “يا ألله !” ..
من أين أتى هذا الشاب ؟! سألت السكان عنه، فلم يعرفه أحد منهم، ولم يشغلهم الأمر كثيرا كما يشغلني، فقررت أن أقاطع الياسمينة لأنتهي من هذا الهاجس.. أغلقت النافذة وابتعدت عنها بإرادة قوية كسرت الفضول الذي عندي، ومع ذلك كانت رائحتها تتسلل إليّ من النوافذ المغلقة لتزيد من سحرها لي وتجعلني أكثر تعلقا بها ورغبة في العودة إلى فضولي..
ولا أعرف إلى الآن، من أين يأتي ذلك الشاب وكيف يدخل إلى القبو، ليعتني بها ويسقيها بتلك الطريقة السحرية التي شاهدته فيها تلك الليلة، ولا أعرف أيضا إذا كنت سأعاود فتح النافذة لأرقب حالها وأهمس لها شيئا ما تصنعه روحي ؟!