قضايا اليوم ليست قضايا الأمس

 

عهد التميمي التي أفرجت عنها السلطات الإسرائيلية فجر يوم الأحد الماضي، بعد ثمانية أشهر من الاعتقال، لا تشبه إلا نفسها وباقي بنات جيلها المنتميات لهذا العصر والحاملات لكل مفرداته على الرغم من طغيان الخصوصية الفلسطينية التي ما تنفك بدورها تعيد تشكلها والتعريف بنفسها وفق المتغيرات المحلية والإقليمية والدولية.

الفتاة البالغة 17عاما، ذات الشعر الأشقر المنكوش والمظهر الشبابي الغاضب، لا تشبه مناضلات أخريات سبقنها ويشتركن معها في الوقوف تحت راية الدفاع عن عدالة القضية الفلسطينية، لا في زاوية النظرة والتقييم ولا في طريقة الاحتجاج والتصعيد، ولا حتى في درجات تفاعل الرأي العام المحلي والدولي.

عهد التميمي ليست شادية عبدالسلام التي تعتبر أول شهيدة عسكرية بعد نكسة 1967ولا دلال مغربي التي تمكنت عام 1978من الاستيلاء على حافلة تقل جنودا إسرائيليين في تل أبيب، ولا ليلى خالد التي تمكنت من خطف طائرة إسرائيلية عام 1969.

كل واحدة من هؤلاء الفتيات الفلسطينيات تنتمي إلى مرحلة تتميز عما يسبقها أو يأتي بعدها بأفكار وشعارات لا يمكن لها أن تعمّر بالضرورة وتبقى عابرة للزمان والمكان. وما تصنيف عهد التميمي ضمن قائمة النضال النسوي الفلسطيني إلا نوع من التوثيق أو الأرشفة التي قد تنفع وتفيد الذاكرة الوطنية الفلسطينية، لكنها تبقى خارج القراءة التي تأخذ التجربة الفردية والنفسية بالاعتبار، وذلك ضمن سياقها المجتمعي غير البعيد عن روح العصر ومعطياته ومستلزماته.

مغالطة كبرى للتاريخ والجغرافيا، وظلم لبعض الرموز النضالية ومن الجهتين، أن نجعل من بعض الأسماء ـ ومهما علا شأنها ـ مقاييس وتوصيفات نطلقها على تجارب تماثلها أو تقاربها في بقع أخرى من الأرض وأثناء فترات لاحقة من العصر، فنيلسون مانديلا الذي احتفل العالم منذ أيام قليلة بالمئوية الأولى لميلاده، لا يشبه، مثلا، آدم ديماتشي، الملقب ب “مانديلا كوسوفو، والذي ظل سجينا سياسيا لفترة طويلة في بلاده لنضاله ضد الحكم الصربي، ورحل منذ أيام عن عمر يناهز 82عاما.

كذلك لا يمكن لمانديلا أن يشبه المناضل اليساري السوري رياض الترك الذي قبع ما يزيد عن ربع قرن في المعتقلات السورية أيام حكم الرئيس حافظ الأسد ثم بشار الأسد من بعده، وقس على ذلك في مناطق أخرى من العالم. وليس هذا الأمر حطا من قيمة أحد المشبهين أو المشبهين بهم، لكنه نوع من الإنصاف والتقدير لخصوصيتي المرحلة والتجربة، كما أن القضايا النضالية ليست قيما ثابتة بالضرورة، فالكثير منها يتغير بتغير الظروف والمعطيات والمستجدات، علاوة على وجوب أخذ الاعتبار بوجود سياسات ومؤامرات وتشويهات تلعب بسلم المفاضلات فتعلي من شأن قضية لتحط في المقابل من شأن قضية أخرى.

ما تقدم من نقاش لا يعني أن نجعل من كل القضايا الإنسانية ” سلعة” توضع في خانة النسبية وميزان الأسواق السياسية والمصالح الاقتصادية لكن ينبغي لفت الانتباه إلى وجود مناضلين كثيرين لقضية واحدة وإمكانية وجود مناضل واحد في قضايا إنسانية كثيرة دون الوقوع في شيء من التناقض أو الانفصام.

هموم الإنسان كثرت وتشعبت، ولم تعد مختصرة في مفاهيم عامة وبدائية مثل العبودية وغيرها، فهذه القضايا أصبحت، ومع تقد التشريعات الحقوقية، مسائل بديهية لا جدال فيها، وصار من الأجدر أن تلتفت البشرية إلى ما يهدد مستقبلها مثل الاحتباس الحراري وتلوث الكوكب.

المناضلون الحقوقيون لم يعودوا اليوم أولئك المدافعين عن المظلومين والمسجونين والفقراء وحدهم بل أصبحوا يناضلون من أجل كل الكوكب وكل الكائنات التي تسكن هذا الكوكب، وصار بإمكاننا أن نتحدث عن قضايا كونية وعن أيقونات نضالية كونية فلم يعد النضال نشاطا استثنائيا يميز صاحبه لكنه صار واجبا إنسانيا ويوميا.

ولعل ما يميز نيلسون مانديلا أنه استشرف المستقبل وانتبه إلى البعد الكوني في مهمة المناضل فعمد على تأسيس جماعة “الحكماء” عام 2007، والتي لا تزال توجد أمانتها في العاصمة البريطانية لندن، وسعت للعب دور تجاه الكثير من الصراعات والقضايا والتحديات الدولية، بما في ذلك القضية الفلسطينية، وضم فيها الى جانبه شخصيات عالمية لها رونقها ووزنها ووراءها تاريخ من الإنجاز على الصعيد العالمي.

خلاصة القول أن القضايا النضالية ينطبق عليها مبدأ الثابت والمتحول، وتخضع لمعادلة تتغير بتغير الواقع والظروف المحيطة فالقضية التي كانت بالأمس أولوية في سلم المستحقات الوطنية قد تصبح اليوم ثانوية أمام مستحقات أخرى. وقليلون هم أولئك الذين تنطبق عليهم تسمية ” أيقونات”، ذلك أن مفهو الأيقونة يقتضي الاستمرار والديمومة، وهو أمر لا يتفق كثيرا مع طبيعة الحياة البشرية.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى