«قضايا صغيرة» و»قضايا كبيرة»

اعتدنا على اعتبار أن الاستراتيجية هي علم يتعلق بموضوعات عسكرية صرف، أو أخرى ذات طابع جيوسياسي، حتى صار مصطلح «الاستراتيجية» مفهوماً مقعّراً لـ «قضايا كبيرة» يتبارى الكتّاب والمعلقون في إظهار أهميتها على طريقة إعادة تعريف الماء ـ بعد الجهد والتنظير ـ بالماء. ومن أمثلة ذلك التعليق على سير العمليات الحربية الجارية في أرجاء وطننا العربي من غير المتخصصين، أو الاستفاضة في التوقعات المنحازة سلفاً لهذا الطرف أو ذاك في قضية إسقاط الطائرة الروسية من طرف تركيا. ولا تكمن المشكلة التحليلية فقط في التعامل مع القضايا بانحياز، وإنما بنمط تعيين «القضايا الكبيرة» و»القضايا الصغيرة» في الأذهان. ومن الطبيعي أن تكون للأحداث الصاخبة المذكورة نصيب من التحليل، سواء بسبب تأثيراتها المتوقعة على المنطقة أو لجهة تأثيراتها على العلاقات بين الدول المعنية بالحدث. لكن، في المقابل، تغيب غالباً عن رادار التحليل العربي «قضايا صغيرة»، لكن لها نتائج استراتيجية خطيرة التأثير على مجتمعاتنا واستقرارها، بشكل يفوق في خطورته قضايا الساعة المستأثرة بالتحليل والاهتمام الإعلامي. تستعرض السطور القادمة مثالاً على «قضية صغيرة» ستؤثر في السنوات الخمس القادمة على التركيبة الاجتماعية لدول شمال أفريقيا، بشكل ربما يفوق في عمقه أحداث جارية تبدو «كبيرة» وملتهبة، ولم يأت الإعلام العربي على ذكرها حتى اليوم برغم أهميتها الفائقة.
النحل يبعث «الربيع العربي» من جديد
طالعت دراسة كتبها خبيران استراتيجيان ألمان، ضمن مؤلف أكبر حول أهمية التوقعات في رسم السياسات الاستراتيجية الأوروبية، وفيها موضوع فائق الأهمية عن «قضية صغيرة» تبدو للوهلة الأولى بحجم نحلة. وفقاً للدراسة، ستتعرض منطقة شمال أفريقيا وبالتحديد الدلتا المصرية ومناطق أخرى في ليبيا وتونس إلى تراجع حاد في حصاد الخضروات والفواكه بحلول العام 2020، بسبب انقراض ممالك النحل في هذه المنطقة من جراء بكتيريا وفدت من شرق أفريقيا كان لها القدرة الشاملة على إبادة تسعين في المئة من ممالك النحل البري الموجودة في الدول الثلاث. ومن المعروف أن النحل يلعب دوراً أساسياً في تلقيح النباتات والخضر والفواكه، ما سيؤثر سلباً على إنتاجية القطاع الزراعي، وما يعنيه ذلك من مخاطر على الاستقرار الاجتماعي في الدول الثلاث. ويعتقد الخبيران الاستراتيجيان بيتينا رودلف ونيلس سيمون ـ مؤلفا الدراسة ـ أن التأثيرات السلبية لانقراض النحل في شمال أفريقيا ستتسبب بقلاقل اجتماعية تشبه تلك التي حدثت إبان «الربيع العربي». تبدأ متوالية التأثيرات السلبية بعدم تلقيح النباتات بسبب انقراض النحل، ما يتسبب في تراجع الحصاد ومعه مداخيل المزارعين، بالتوازي مع ارتفاع حاد في أسعار السلع الزراعية والنتيجة المباشرة: قلاقل اجتماعية متوقعة. وتزداد المشكلة وتأثيراتها الاجتماعية والاقتصادية اتضاحاً، إذا علمنا أن مصر وحدها تنتج 6,21 مليون طن من الخضروات والفواكه سنوياً، أي ما يمثل خمس انتاج الاتحاد الأوروبي بدوله الثماني والعشرين. وحتى يمكن تقدير حجم هذه «القضية الصغيرة»، علينا ملاحظة أن الزراعة حول العالم تعرف 115 نوعاً من النباتات الأكثر استخداماً في الحياة الاقتصادية، منها 85 نوعاً تعتمد بشكل كامل أو جزئي على التلقيح بواسطة الحيوانات، في حين تلعب الرياح دورها في تخصيب الأنواع الأخرى من النباتات كالحبوب مثلاً. إجمالاً تعتمد نسبة 35 في المئة من الإنتاج الزراعي العالمي على التلقيح بالحشرات والحيوانات الأخرى بشكل مطلق أو جزئي. ووفقاً للإحصائيات، سيتراجع الانتاج العالمي من الغذاء في حال غياب التلقيح بالحشرات بنسبة تتراوح من ثلاثة إلى ثمانية في المئة سنوياً، الأمر الذي يعني خسائر تقدر بمبلغ 153 مليار يورو سنوياً، بحسب بيانات مؤلفي الدراسة.
نحل شمال أفريقيا واستقرار أوروبا
لا تتوقف النتائج السلبية لهذه «القضية الصغيرة» عند دول شمال أفريقيا وتركيبتها الإجتماعية فحسب، بل تتجاوز البحر المتوسط لتصل حتى أوروبا. ومرد ذلك أن تدمير البنى الاجتماعية الزراعية في شمال أفريقيا سيدفع بسكان الأرياف إلى المدن الكبرى المكتظة أصلاً، ومن هناك عبر البحر إلى أوروبا كلاجئين. هذه المتوالية البادئة بانقراض ممالك النحل في شمال أفريقيا، ستنتهي بإزدياد طوابير اللاجئين على الحدود الأوروبية خلال السنوات الخمس المقبلة، كما يتوقع مؤلفا الدراسة. ولأن دول شمال أفريقيا تصدر حصة تقدر بخمس استهلاك الاتحاد الأوروبي من الخضر والفواكه، فمن المتوقع أيضاً أن ترتفع أسعار هذه السلع داخل الاتحاد الأوروبي. وفي ألمانيا تحديداً يستهلك المواطن في المتوسط مئة كيلوغرام من الفواكه سنوياً، وتزمع الحكومة الألمانية إدخال الفواكه في النظم الغذائية بالمدارس لتحسين جودة المعيشة للتلاميذ كافة من مختلف الشرائح الاجتماعية. على هذا الأساس، يعتقد المؤلفان أن ارتفاع أسعار الخضر والفواكه سيؤثر سلباً في طريقة حياة المواطنين الألمان، بحيث تستبعد الشرائح الاجتماعية الأقل دخلاً من مستوى الاستهلاك الصحي المذكور، الأمر الذي سيجعل إدخال النظم الغذائية الصحية في المدارس أمراً صعباً. كما أن القضية ذاتها ستجبر الاتحاد الأوروبي على تخصيص موارد إضافية لمساعدة الدول المنكوبة بانقراض ممالك النحل، ويضرب المؤلفان مثلاً بالارتفاع الحاد الذي حدث في أسعار الحبوب قبل سنوات، الأمر الذي أجبر الاتحاد الأوروبي على زيادة معونات التنمية التي يقدمها إلى تونس، تحاشياً للمتوالية السببية التي يسببها هذا الارتفاع وتأثيراتها المباشرة على أوروبا.
«القضايا الصغيرة» و»القضايا الكبيرة»
تزداد مشكلة انقراض ممالك النحل في شمال أفريقيا تعقيداً بسبب غياب المعلومات الفادح عن هذه الممالك. ولئن تعرض بيانات منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) التابعة للأمم المتحدة زيادة عالمية في عدد المناحل المخصصة لإنتاج العسل، إلا أن البيانات الخاصة بشمال أفريقيا تعرف نقصاً فادحاً في المعلومات، خصوصاً الخاصة بممالك النحل البري التي تسهم بالنصيب الأعظم من عملية تلقيح الخضر والفواكه والنباتات في هذه المنطقة. وبسبب تراجع المساحات المزروعة في شمال أفريقيا نتيجة النمو السكاني المتزايد، يلجأ المزارعون إلى استعمال المبيدات الكيماوية لزيادة الانتاج الزراعي في رقعة متقلصة باستمرار، لكنها تؤثر سلباً بدورها على حياة ممالك النحل بشكل عام والنحل البري بشكل خاص. ولأن عمليات التلقيح تعد جزءاً لا يتجزأ من الأمن الغذائي العالمي، يمثل انقراض ممالك النحل في شمال أفريقيا مشكلة عويصة لهذه المنطقة وللاتحاد الأوروبي على حد سواء.
لم نقرأ موضوعاً واحداً عن هذه «القضية الصغيرة» لا في مراكز الأبحاث العربية ولا في وسائل الإعلام العربية، برغم تأثيراتها الاجتماعية السلبية شبه المؤكدة خلال السنوات الخمس القادمة على مجتمعاتنا نحن، قبل المجتمعات الأوروبية. عرفنا بـ»القضية الصغيرة» فقط من انتاجات منشورة لباحثين استراتيجيين أوروبيين يقدمون مصالح بلدانهم على ما سواها بتناول القضايا المؤثرة في مستويات معيشتها، حتى ولو جاءت من وراء الحدود. يعد تشخيص القضية المذكورة وطريقة تناولها وتحليل متوالياتها وتأثيراتها السلبية القريبة والبعيدة، عملاً استراتيجياً بحق يجب أن يستفزنا للتعلم من منهجيته وتناوله وتشخيصه للحجم الحقيقي الكبير للقضية المعنية حتى ولو بدت صغيرة وغير مهمة من الوهلة الأولى. على ذلك، يتناول التحليل الاستراتيجي الحقيقي القضايا ذات التأثير في المجتمعات، ملقياً الضوء على خلفياتها ومتوالياتها السببية وصولاً إلى استخلاص الدروس وتعيين طرق المواجهة، وبغضّ النظر عن حجم اهتمام وسائل الإعلام بها. قد تبدو قضية المقالة «قضية صغيرة» بحجم نحلة، إلا أن تأثيراتها تشبه بركان لا يني يتفاعل مخرّباً بنى اجتماعية بكاملها، ولا يتوقف عن عبور الحدود.
تفادياً لكآبة المنظر التحليلي، يمكن في هذا السياق استذكار الطرفة التالية. سأل أحد المقبلين على الزواج من أبناء جلدتنا العرب صديقاً له متزوجاً بالفعل عن الطريقة الأمثل للتعامل مع العروس المفترضة بعد الزواج. فأجابه صديقه الخبير باقتضاب: خذ «القضايا الكبيرة» واترك لها «القضايا الصغيرة». وعندما استفسر منه الراغب في الزواج عن ماهية «القضايا الصغيرة»، جاء الجواب: هي تقرر إن كنتم ستشترون بيتاً أم تستأجرون، وأين تمضون العطلات وأي نوع من المدارس مناسب لأطفال المستقبل، وكذلك الطريقة المثلى لاستثمار المدخرات إلخ. ندت صيحة اندهاش من راغب الزواج وسأل: إذا كانت تلك «القضايا الصغيرة»، فما هي «القضايا الكبيرة» إذاً؟ جاء الجواب سريعاً: فلتتحدث أنت في قضايا الشرق الأوسط مثل القضية الفلسطينية والأزمة السورية والوضع في العراق واليمن!
صحيفة السفير اللبنانية