قطع أعناق وقطع أرزاق
قطع أعناق وقطع أرزاق…ليس غريباً أن العرب كانوا، قبل ألف سنة، أكثر تسامحاً. بالمقارنات مع اليوم . مثلاً ، وصلنا من تلك الحقبة البعيدة أفكار وأصوات ونصوص وأشعار، ليس ممكناً السكوت عنها اليوم.
ومع أن الكثيرين، وبالمئات صُلبوا وعُذبوا (الصوفيين والمتهمين بالزندقة) إلا أن وجود البيئة التي يتغلبون فيها على خوفهم…فيبدعون… يدل على نوع التسامح. وطبعاً لا ننسى أن التسامح هذا غير ممكن في التنازع على السلطة.
اليوم في معرة النعمان…يقطعون رأس هذا العبقري الشاعر الفيلسوف الذي ألًف ” رسالة الغفران” قبل دانتي الايطالي بمئات السنين “الجحيم” إشارة إلى إعادة نظر قصير في منجز الرجل ومواقفه. ومن قبل مسلحين قد لا يكون أحدهم قرأ بيتاً واحداً له .
لقد كتب المعري ارتيابه، في عصره، وأفكار أسلافه، ولم يقتل. في البيئة السورية تلك الأيام ، قبل ألف سنة.
اسمعوه وهو يقول بعد زيارة لمدينة اللاذقية:
في اللاذقية ضجّة ما بين أحمد والمسيح
هذا بناقوس يدقّ وذا بمئذنة يصيح
كلٌّ يمجّد دينــه ياليت شعري ما الصحيح؟
لم يشنقه أحد، ولم يفقأ عينيه ويصلبه أحد… وهو القائل أيضاً :
أتى موسى، وراح، وجاء عيسى وقام محمد بصلاة خمس
إذا قلت المحال رفعت صوتي وإن قلت الصحيح أطلت همسي
وطبعاً… لم يكن اليقين هو الذي أبدع فكر و أشعار وقيمة المعري. فمع اليقين الدنيوي يكون على الخرق الواضح لقانون الجماعة ، أما حسابهم الديني ، فيكون على الاعتناق الصحيح،أ و الخاطىء لقانون الله. وهذه وظيفة أخروية بامتياز واضح.
إن الموجة الحالية من التعصب الأعمى، يطال كل شيء، ليس فقط قيماً رمزية، وتماثيل، تشكل بمجموعها الجزء الحي والواقعي من تراث الأمة. فالأمم تراكم صوابها كمواليد للأخطاء والتعثر. وبدون هذه المراكمة… لا تاريخ أبداً.
لكن اللافت، أيضاً، هو التزامن بين قطع رأس المعري، ونهب وبيع وتهريب القطع الأثرية… فيما يشبه لصوصية الأيام الأولى لاحتلال بغداد ! فهل تكون بيئة معاداة الثقافة والحرية هي نفسها البيئة الحربية التي تدمر كل شيء، في سبيل أي شيء ؟
يصبح من العبث الانتباه إلى رأس المعري المقطوع، فيما كل أدوات القتل أمامنا تفتك بالأحياء في كل الأحياء… وتصبح الحياة نفسها بلا معنى، فكيف تنجو الثقافة والتراث وعلامات الحضارة السورية… من فقدان المعنى؟
لقد حطمت الثورة الفرنسية سجن الباستيل، ولم تقترب أبداً من اللوفر ونوتردام. وكنائس الحلف المغشوش بين الملك والكليروس. وذهب لويس السادس عشر وماري أنطوانيت إلى مقرهم المذموم في التاريخ، وكذلك نابليون نفسه، الذي اعتبر في لحظة تاريخية، أهم إنجازات الثورة…ليكون بعدها… واحداً من حمقى التوسع الامبراطوري المبكّر !
جمال عبد الناصر، قام بانقلاب، سمًي ثورة 23 يوليو 1952 وفي الانقلابات يسهل تحطيم ما قام لأجل تحطيمه… وهو الواقع القديم ورموزه. وذات يوم سأل مدير الإذاعة: لماذا لم نعد نسمع أم كلثوم في إذاعة صوت العرب؟ فقال المدير: نحن منعناها… فهي من العهد القديم، وقد غنت للملك. فقال عبد الناصر: اذهب وحطم الهرم الأكبر، وأبو الهول، إذن، لأنهم من العهد القديم!
السيء في قتل المعري هو فكرتان موجودتان وراء العملية: الفكرة الأولى توجيه تهمة ” الصدفة التناسلية” للمعري: أي أنه شيعي : وسياسياً الشيعي مجوسي (دينياً) وفارسي (قومياً)… وهذا قتل على الهوية.
والفكرة الثانية: العودة إلى فتاوى منع الفنون البصرية، ومنها النحت والرسم والتصوير والموسيقى ( ما عدا الميلويات).
والأسوأ من الفتاوى المختبئة في جبة المعرفة بالحق، هو تحول اللحى الميدانية، وبلباس عسكري إلى مرجعيات “فتوى ميدانية” تشبه المحكمة الميدانية، ذات الدقائق الخمس… وبعدها الموت .
والذين يعرفون ما جرى للمعري…يتأكدون أنه حكم ميداني صادر منذ بداية الأحداث، وقد حال الأهالي ـ جيران هذا الضرير ـ دون تنفيذه. إلى أن جاء الوقت الذي لم يعد هناك جيران ليحموا الرجل نتيجة الهجرة والموت والدمار!
وأختم أسفي. بهذين البيتين المليئين بالحسرة … للمعري:
ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة وحق لسكان البسيطة أن يبكوا
تحطمنا الأيام حتى كأننا زجاج، ولكن لا يعاد له سبك