قـبـل أن أمـوت
ها أنذا على عتبة باب التسعين … أدق الباب على بداية إكتمال قرن كامل ، بدأ مع أيام الاحتلال الفرنسي أو ما يسمى عهدئذ بالانتداب إلى أيامنا الأخيرة المريعة التي لم أجد إسما لائقاً بها بعد …
كنا مع عهد الإنتداب أطفالا ومراهقين ، أحالنا ذلك العهد إلى بلابل ناطقة باللغة الفرنسية ، وعشاقا لفيكتورهوغو ولامارتيني و بلذاك تم نسيناهم مع هجمة اللغة الإنجليزية التي لم نتقنها كالفرنسية حتى اليوم ، كما تعلمنا المعنى الواقعي للنضال الوطني ضد الإحتلال الأجنبي …
بلى … تعلمنا أيضا أشياء أخرى كثيرة كنظم الشعر مثلا موزوناً على الإيقاع الخليلي قبل أن نخوض في البحور العروضية … و كما تعلمنا معنى الدين والتدين الإسلامي خاصة عندما أقنعوني أنني سأكون من سكان الجنة إذ ما صرت معهم من الدعاة و الحماة للإيمان بالغيب و الطقوس الإحتفالية .
بلى … و في مطلع الشباب بهرتنا أضواء المعرفة من خلال مجلة ” الرسالة ” و ” الهلال” و ” الثقافة” و غرقنا في روايات الجيب و أقاصيص ألف ليلة و ليلة و مغامرات عنترة و سيف بن ذي يزن في الملاحم الشعبية إلى حين إنتسابنا لكلية الأداب و كلية التربية معا من خلال انتمائي مع آخرين إلى ” المعهد العالي للمعلمين ” الذي تخرجنا منه مدرسين للغة العربية و آدابها كمهنة لم نمارس سواها طوال حياتنا المريرة.
بلى … مع هذه الرحلة شبه الأسطورية في الحقول الثقافية و النضالات الوطنية حين صرنا نفهم ماذا تعني هذه المصطلحات الجذابة الإشتراكية والماركسية والقومية و الديمقراطية و كيف نعيش حقا الحياة الجامعية بكل أبعادها و حقولها عبر قراءاتنا و نقاشاتنا الحامية السياسية والمواقف الوطنية في التظاهرات والصدامات – الجارحة أو القاتلة أحيانا – مع رجال السلطة الحاكمة ، وعبر نشاطنا الثقافي المتنوع كممثلين في المسرح الجامعي ورسامين في المعارض وصحفيين في المجلات والصحف التي كنا نخترعها و نصدرها ثم نتوقف فجأة عن إصدارها كي نبتكر غيرها من الأنشطة و التسليات الثقافية ولا رقيب علينا في الجامعة سوى وعينا النامي بمعاني الحرية ، في مناخ لا أطرف ولا أبلغ منه حين أوصلنا إلى مقابلة رئيس الجمهورية شكري القوتلي في إحدى تظاهراتنا الطلابية ، والنقاش معه في دار الرئاسة بالمهاجرين وهو بصدره الرحب و إبتسامته الأبوية يناقش و عدنا المختار لهذه المقابلة من دون أن يأمر باعتقال أحد منا …
بلى … وحين قمنا بخدمة العلم و صرنا ضباطا نحمل السلاح و نتقن إطلاق الرصاص.. ثم فجأة نجد أنفسنا نهرع مع سكان دمشق إلى لقاء الزعيم الخارق جمال عبد الناصر في زيارته الوحيدة لسوريا تمهيدا لطوفان الراغبين في الوحدة بين سوريا و مصر لصنع الجمهورية العربية المتحدة ، حتى إذا تحققت إحتفلنا بها و نظمت أنا بها ثلاث قصائد في التغني بالوحدة وزعيمها الأوحد ” جمال..!!” ثم فجأة يدق رجال الأمن الباب على بيتنا و يقتادوني إلى سجن المزة العسكري بالرغم من قصائدي في مديح عبد الناصر .. و هكذا عانيت ما عانيت مع هذا الأسلوب التعسفي للسلطة الجديدة تسعة أشهر كاملة أخلي سبيلي فهربت مشيا على الأقدام عبر الجبال إلى لبنان حيث عانيت ما عانيت من حياة التشرد و الخوف والفقر إلى أن عدت إلى بلدي بعد ثلاثة أعوام مع إنهيار حكم الديكتورية في الجمهورية العربية ” الملفقة “.
بلى هذه ليست قصة حياتي كاملة بالتأكيد . إنها مجرد تجربة في إستحضار الذكريات مع تدفق التجارب الحديثة المروعة لسوريا و السوريين … فهل أعيش حرا كي أكتب مذكراتي بأكمل فجائعها و أمانيها الخائبة ..قبل أن أموت ؟!…