قمة جدة: دور سعودي وموافقة سورية واضطرار عربي
لو سقطت سوريا كما أريد لها عام 2011، لسقط النظام الرسمي العربي، ولرأينا نظاماً من نوع آخر، ولانتقلنا من عصر الدولة العربية الحديثة إلى عصر “تنظيم الدولة” الذي أسّس له باراك أوباما، كما أقرت بذلك هيلاري كلينتون في مذكراتها.
تشهد المنطقة العربية نشاطاً دبلوماسياً منقطع النظير لم تشهده منذ عام 2011، هدفه العودة إلى ما قبل هذا العام المشؤوم والسعي لإعادة دمشق إلى حضنها العربي لتعود قاطرة العمل العربي المشترك، كما كانت على الدوام.
اليوم، وبعدما اقتنع الجميع بفشل جميع المقاربات العربية لحل الأزمة في سوريا، لم تعد العودة إلى مقاربات تلك السنين متاحة، بل يجب البحث عن مقاربات جديدة تأخذ في حسبانها ما جرى على أرض الواقع. وقد ثبت عدم مقدرة أحد على فرض الاشتراطات على سوريا التي استطاعت الاستمرار والثبات في وجه تلك العواصف، وأفشلت كل المحاولات التي استهدفت بقاءها ووجودها.
أما المشورات العربية، فترحّب بها دمشق على الدوام، وهي التي أعلنت منذ اليوم الأول لأزمتها انفتاحها على أي تجربة عربية في الديمقراطية وتداول السلطة وكيفية تعامل تلك الدول مع المعارضة السياسية فيها. إن قطع العلاقات الدبلوماسية مع سوريا ينمّ عن عدم القدرة على معرفة المغزى من إقامة تلك العلاقات، فهي تقام بين الدول، لا بين سلطاتها، فالسلطة شيء، والدولة شيء آخر.
كل ذلك فرض على الجميع التفكير بشيء من الهدوء والروية، والابتعاد عن تضخّم الأنا الذي تسبب بعدم معرفة البعض وزنه وحجمه في الساحة الدولية، بعدما ظن أن دوره الوظيفي الذي رسم له قد يصنع منه قائداً في بيئته الإقليمية، وخصوصاً إذا تم تمزيق هذه البيئة وإضعافها.
قد لا يرغب البعض في الاعتراف بانتصار سوريا، فكيف لبلد دُمر أن يدعي النصر! تلك هي المقاربة السطحية لما جرى في سوريا. أما المقاربة الواقعية، فتخبرنا أن ما أريد لدمشق أكبر من ذلك بكثير. لقد استهدفت سوريا في تاريخها وحضارتها التي تفخر بها، لتعود كغيرها من الدول التي لا يتجاوز عمرها عمر الإنسان الطبيعي.
انقسام العالم وانتصار حلفاء دمشق
يشهد العالم تشكل أنماط جديدة من العلاقات بين الدول، هدفها سعي بعض الدول لتبوؤ مكانة أفضل في الساحة الدولية أو الاستعداد لمواجهة تحديات مقبلة تستهدف وجود الدولة وكيانها. ولا تشذ منطقتنا العربية عن هذه القاعدة.
يبدو أن المنطقة العربية مرشحة إلى أن تكون ساحة أخرى لتصفية حسابات الدول الكبرى في سعيها لصياغة نظام عالمي جديد، أولى ملامحه نهاية عصر القطبية الأحادية وبروز أقطاب أخرى. منذ الحرب العالمية الثانية، لم تعد الدول الكبرى تتقاتل في ما بينها (حروب مباشرة)، بل أصبحت تقاتل بالدول الصغيرة، وتسعى للمواجهة على أراضيها، وتحمّل شعوب تلك الدول فاتورة تلك الحروب.
قيام الحرب في أوكرانيا جعلها الساحة الأولى لتلك المعارك، لكنها قد لا تكون الأخيرة؛ فهناك مناطق أخرى في العالم مرشحة للانفجار في أي لحظة. أولى تلك المناطق هي منطقة بحر الصين الجنوبي ومنطقة الشرق الأوسط، التي كانت عبر تاريخها تدفع ثمن التجاذبات الدولية التي يفرزها شكل النظام الدولي القائم، سواء كان ثنائي القطبية أو أحادي القطبية في ما بعد.
لقد وقع الأوربيون في الفخ، وأصبحوا أول من يدفع ثمن الصراع على الهيمنة الدولية، وبدأت الشعوب الأوروبية تفقد الرفاه الذي عاشته منذ عقود، حين استطاعت دولها نهب ثروات الآخرين واستعبادهم.
أما الصين، وهي أكبر منافس للولايات المتحدة والخطر الحقيقي عليها، فما زالت تنجح في تجنب نقل الصراع الدولي إليها أو إلى البيئة الإقليمية المحيطة بها. دول منطقة الشرق الأوسط، وخصوصاً الدول العربية وإيران، وحتى تركيا، بدأت تستشعر هذا الخطر، وتسعى لتداركه أو الاستعداد لمواجهته، وهذا أمر جيد بكل تأكيد.
من هنا، جاءت المصالحة السعودية الإيرانية التي كانت المفتاح لحل العديد من القضايا الخلافية في المنطقة، وخصوصاً الموضوع السوري.
وبدأت الدول العربية بالسعي لرص صفوفها استعداداً لما هو قادم، وخصوصاً في ظل ما تعيشه “إسرائيل” من اضطرابات داخلية، وشعورها بالضعف بعد نجاح المبادرة الصينية، وعودة العلاقات بين إيران والدول الخليجية. تلك الدول بدأت تعيد حساباتها، وتبطئ هرولتها نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني الذي كانت ترى فيه حليفاً يقف معها ضد “التهديد الإيراني” المزعوم.
رغبة السعودية في أن تكون عاصمة القرار العربي
بدأت المملكة العربية السعودية بتغيير توجهاتها السياسية حيال سوريا لعدة أسباب، منها التغيير الكبير في قيادة المملكة بعد وفاة الملك عبد الله بن عبد العزيز عام 2015 ووصول الملك سلمان إلى سدة الحكم. وكان الملك عبد الله من الداعمين للتغيير السياسي في سوريا، لاعتبارات تتعلق بمقتل الحريري في لبنان، والتحالف السوري مع طهران، وعدد من القضايا الأخرى.
ومع وصول الملك سلمان، حدث تغيير في وزارة الخارجية السعودية، إذ تمت إقالة سعود الفيصل، وزير الخارجية الأسبق، وهو الذي كان قد احتفظ بمنصبه لأربعة عقود (1975 – 2015)، ما يعني رغبة الملك سلمان في إحداث نهج جديد في توجهات السياسة الخارجية للمملكة.
وكان الفيصل قد أدى دوراً كبيراً في تصعيد الموقف السعودي من سوريا، وكان آخر وزير للخارجية من الأسرة الحاكمة، إذ خلفه عادل الجبير الذي أقيل على خلفية قضية الصحافي جمال خاشقجي، ثم جاء بعده إبراهيم العساف، ومن ثم فيصل بن فرحان الوزير الحالي.
ومع وصول الأمير محمد بن سلمان إلى ولاية العهد، سعى لانتهاج سياسة خارجية تختلف تماماً عن السابق، فلم تعد الولايات المتحدة الحليف الوحيد للمملكة لاعتبارات شخصية ووطنية. وكان الرئيس بايدن خلال حملته الانتخابية قد تعهد عدم التعامل معه، على خلفية اتهامه بقتل خاشقجي، وهو سعودي يحمل الجنسية الأميركية.
بدأت المملكة بالتوجه شرقاً نحو روسيا والصين، بحثاً عن حليف قادر على أن يحل محل الولايات المتحدة مستقبلاً، لأن العلاقة مع أميركا هي علاقة إستراتيجية ومتجذرة، ولا يمكن أن تنتهي بسرعة.
وعندما جاءت الحرب في أوكرانيا، ازدادت أهمية المملكة بالنسبة إلى العالم، في ظل العقوبات الأميركية والغربية التي فرضت على موسكو، وحاجة العالم وأوروبا إلى النفط السعودي.
جاءت زيارة الرئيس الصيني إلى المملكة وعقد 3 قمم فيها (قمة صينية سعودية – قمة صينية خليجية – وقمة عربية صينية)، لتكرس أهمية المملكة زعيماً لدول المنطقة العربية.
المملكة والرغبة في تصفير المشكلات
شعر ابن سلمان بأهمية تصفير المشكلات مع دول الجوار، وخصوصاً العربية، لعدة أسباب، منها:
– إحكام سيطرته على المملكة وضمان انتقال الحكم إليه مستقبلاً بهدوء وسلاسة، وخصوصاً أن هناك معارضة له داخل الأسرة الحاكمة، إذ سيكون أول ملك من أحفاد الملك عبد العزيز المؤسس، وليس من أبنائه.
– العلاقة غير المستقرة مع الولايات المتحدة، والرغبة في البدء بتحقيق استقلالية أكثر للقرار السياسي للمملكة.
– استثمار انعكاسات الحرب الأوكرانية على أسعار النفط، وعلى تعاظم المكانة الدولية للمملكة.
– التفرغ للوضع الداخلي وتنفيذ رؤية المملكة 2030.
– العمل على تحسين سمعة المملكة في العالم عبر الشروع في سياسة انفتاح وتعزيز لمكانة المرأة.
دور السعودية في عودة سوريا إلى محيطها العربي
رغم الدعوات السابقة لعودة سوريا إلى محيطها العربي، والتي قادتها كل من سلطنة عمان والجزائر والإمارات، فإنها، ورغم أهميتها، لم تحقق نتائج كبيرة على الصعيد العربي، لمعارضة المملكة ربما حينها أو لرغبتها في أداء هذا الدور الذي يكرسها قائداً للنظام الإقليمي العربي؛ هذا النظام الذي تشكّل بعد تأسيس جامعة الدول العربية عام 1945، والذي كرّس مصر قائداً له لعقود مضت.
وأدت سوريا دوراً كبيراً في الحفاظ عليه وفي لملمة أعضائه، حتى تكرست مقولة أن “سوريا قلب العروبة النابض”، وهي المقولة التي ثبت للجميع صحتها بعد خروجها من الجامعة العربية عام 2012، إذ لم نعد نسمع بأي صيغة من صيغ العمل العربي المشترك، وأصبحت صورة الجامعة باهتة في نظر الكثير من أبناء الشعب العربي.
لقد أريد إضعاف سوريا، بل وحتى تدميرها، بعدما تم تدمير العراق وإخراجه من توازنات المنطقة كقوة فاعلة، بل عنصر توازن في المنطقة. اكتشفت المملكة أنها ربما لن تبقى بمنأى عن الأحداث في المنطقة، وخصوصاً أنّ خطط التقسيم باتت تستهدفها أيضاً، فكان لا بد من رؤية جديدة ومقاربة إستراتيجية توقف هذا التراجع والضعف العربي.
لقد كانت أولى نتائج “الربيع العربي” تدمير ما سمي اصطلاحاً “دول الشمال العربي” (العراق وسوريا ومصر)، لتنتقل مراكز القوى والثقل إلى دول الخليج العربي (دول الجنوب)، لاعتبارات تتعلق بالظروف الاقتصادية لهذه الدول والتشابك في علاقاتها الدولية.
واليوم، فإن عودة سوريا إلى محيطها العربي باتت حقيقة، بالنظر إلى التطور السريع في العلاقات الثنائية بينها والدول العربية. أما رفض عودتها إلى الجامعة العربية، فقد باتت تكشف الضعف في ميثاق هذه الجامعة والحاجة إلى إصلاحه، فكيف لدولة صغيرة أن تقف في وجه الإجماع العربي وتمنع سوريا من العودة إلى الجامعة العربية، وهي عضو مؤسس لها، عندما كانت تلك الدولة غير موجودة ربما!
سوريا والعرب.. تفاهمات وتوافقات لا شروط
بعد زيارة وزير الخارجية السوري فيصل المقداد الرياض، بدا من البيان الختامي المشترك كأن المملكة تسعى لصياغة خارطة طريق للحل السياسي في سوريا، عبر سعيها لاستثمار مكانتها الإقليمية والدولية وحاجة أطرف الصراع إليها.
وقد بدا واضحاً أن هذا البيان صيغ بالتشاور والاتفاق بين البلدين، ليكون بديلاً من المبادرة الأردنية التي سميت بمبادرة “الخطوة خطوة”، فسوريا تريد إيجاد حل لمشكلتها، وتسعى لإعادة أبنائها، وترى أن الدور العربي يجب أن يكون دوراً مشجعاً لا معرقلاً.
بعدها، جاءت القمة العربية التي عقدت في جدة، بمشاركة 9 دول عربية (6+3)، إذ جمعت دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والعراق والأردن، سعياً من المملكة لتصفير عدد الدول المعارضة حضورَ سوريا القمة العربية المقرر عقدها في الرياض الشهر المقبل، في ظل معارضة 5 دول لعودة سوريا إلى الجامعة، هي مصر والمغرب والكويت وقطر واليمن.
ورغم عدم نجاح القمة في تحقيق هدفها، إذ لم يصدر بيان مشترك، بل صدر بيان عن الخارجية السعودية فقط، فإن ذلك لن يثني المملكة عن سعيها لتعزيز عودة سوريا إلى الجامعة العربية، وخصوصاً أنها، وبحكم نفوذها الكبير، تسعى لإيجاد حل لذلك.
أكثر الرافضين للمساعي السعودية هي دولة قطر، لكن ذلك سيحلّ في نهاية المطاف، وخصوصاً في ظل الانفتاح العربي على دمشق، الذي سيجعل من يريد عزل سوريا يعزل نفسه في واقع الحال.
ورغم عدم اتفاق المجتمعين على عودة سوريا إلى الجامعة العربية، فإنَّهم تبنوا البيان المشترك الذي صاغه الاجتماع الثنائي السوري السعودي، والذي أكد وحدة الأراضي السورية وتعزيز سلطة الحكومة السورية على كامل أراضيها.
بقي أن تؤدي المملكة دوراً في إقناع تركيا بضرورة الانسحاب من الأراضي السورية، وخصوصاً أنها أسهمت في إنقاذ الاقتصاد التركي عبر وضعها وديعة كبيرة تقدر بـ5 مليارات دولار في المصارف التركية، وكذلك السعي لدى المجتمع الدولي لرفع الحصار عن سوريا بعد حصولها على تفويض عربي بذلك، بحكم أنها ستكون رئيساً للقمة العربية المقبلة.
كل تلك المساعي ما كانت لتنجح لولا وجود سياسة خارجية سورية ثابتة ومبدئية منفتحة على العالم العربي ومتناسية جراح الماضي في تعاطيها مع شؤونها الإقليمية والدولية.
الميادين نت