قمّة ترامب وكيم: سقوط الأوهام المُتبادَلة

 

اختصر الرئيس الكوريّ الجنوبيّ “مون جاي إن” أهمّيّة القمّة التي عُقدت بين رئيس الولايات المتّحدة الأميركيّة، ورئيس كوريا الشماليّة عندما قال: “.. اتّفاق سانتوسا في 12 حزيران(يونيو)، سيبقى في التاريخ العالَمي كحدثٍ أنهى الحرب الباردة”. ربّما حمل التصريح مُبالَغة سياسيّة واضِحة، لكنّ حَذَر الرئيس الكوريّ الجنوبيّ مُتضمَّنٌ في وجود بلده، كوريا الجنوبيّة، في فوهة مدفع التوتّر المُستدَام بين السياستَين الأميركيّة والكوريّة الشماليّة، وفي أن أيّ انفلات لِزمام الأسلحة ستكون بلده أوّل ميدان له.

لوهلةٍ بدا أنّ ما تراكَم بين الزعيمَين المُجتمعَين، هو مجموعة من المقدّمات الإيجابيّة جرى تلخيصها وإعلان نتائجها في سنغافورة، وهذا غير ما كان عليه واقع الحال بين البلدَين اللّدودَين اللّذَين تَبادَلا الاتّهامات والتهديدات وإعلان النوايا الحربيّة، ما جَعَل كثيرين يعتقدون أنّ العالَم بات على مقربة من ساعة الضغط على زرٍّ نووي من هنا، وزرٍّ نووي من هناك، وأنّه سيراقب حجم الدمار الذي قد ينجم عن الرؤوس التي ستنقل عصفها النووي إلى الساحل الأميركي، أو إلى قلب بيونغ يانغ، عاصمة كوريا الشماليّة. ما حصل عمليّاً ووقائعيّاً لاحقاً، وما جعل عقد القمة بين الرئيسَين اللّدودَين، الحقيقة الوحيدة المُمكنة، هو مبدأ معروف في الاستراتيجيّات العسكريّة، يقول إنّ التهديد بالقوّة خير من استخدامها… هذا عندما يكون تحقيق المراد مُمكناً من دون تحريك القدرات العسكريّة المُتاحة. لقد اعترف ترامب لمحدّثيه، عندما سُئل عن القمّة التي كانت تبدو مستحيلة قبل فترة، فأجاب: ” لم يكُن هناك شيء آخر يُمكن أن نفعله في الوقت الرّاهن”. هو اعتراف صريح من الرئيس الذي يقود الدولة الأقوى عالَميّاً، باعتراف العالَم الذي يَحار من سياسات هذه الدولة، ومن انقلابها على الكثير من المبادئ التي كانت في أساس إعلان قيامها.

وممّا كان ذا دلالةٍ، ما حملته إعلانات الترحيب الصادرة عن عدد من الدول الأوروبيّة والآسيويّة، فالترحيب المُشار إليه لم يصدر في صيغ احتفاليّة، بل جاء ترحيباً سياسيّاً يتضمّن هواجس كلّ دولة مرحّبة على حدة، على خلفيّة فعلها وانفعالها بالوضع الذي كان قائماً بين السياسة الأميركيّة والسياسة الكوريّة، وعلى احتمال ما ستكون عليه السياسات والأوضاع التي قد تتمخّض عن تطبيق المعاهدة التي تمَّ توقيعها في سنغافورة، وذهب البعض إلى وصفها “بالتاريخيّة”. لقد أثنت الصين على القمّة، ودعت إلى نزع السلاح النووي بالكامل من شبه الجزيرة الكوريّة. هذا الموقف الصادر عن الحليف الرئيس لكوريا الشماليّة، يؤشِّر إلى منحى في العلاقات بين الصين والولايات المتّحدة الأميركيّة لا بدّ أن تظهر نتائجه اللّاحقة، مع بدايات وضع الخطط التنفيذيّة اللّازمة لبنود القمّة، وبعد المباشرة في تنفيذها.

من جهته، تحدّث رئيس الوزراء الياباني بثقة “من أنّ نزعاً كاملاً للأسلحة النوويّة في شبه الجزيرة الكوريّة قد تأكّد خطيّاً”. هذا الكلام المُتفائل، وَجْهُه الآخر هو القلق المُستدام الذي شكّله الخطر النووي الكوري الشمالي على اليابان، التي تقع في مدى الصواريخ الباليستيّة التي تشكّل ذراع “كوريا” الطويلة المدى نحو مَن تُصنّفهم في خانة خصومها.

تصريح وزير الخارجيّة الروسي وتصريح نائبه، حمَلا “انتظاريّة” وترحيباً خجولاً في الوقت ذاته. فبين وصف حصول اللّقاء بالإيجابي، وبين التحذير من أنّ الشيطان يكمن في التفاصيل، يقيم التوجّس الروسي من خارطة سير رسْم النفوذ على الصعيد الدولي بين الولايات المتّحدة الأميركيّة وبين نظرائها، بخاصّة الصين وروسيا، فلقد بات معلوماً أنّ السياسة الروسيّة قد استفادت من توظيف التوتّر الذي أثارته السياسات الأميركيّة في أكثر من بلد، فقدّمت نفسها بصفتها حليفاً وشريكاً ومُعاوناً، حيث أمكن لها توظيف ردود الأفعال التوتّريّة؛ لذلك قد لا يبتعد الظنّ كثيراً إذا نحا منحى الشكّ بالحذر الذي تبديه دولة عظمى، أو بالاطمئنان الذي تفصح عنه، عندما يتعلّق الأمر بسياسات أندادها أو مُنافسيها أو خصومها من اللّاعبين الكبار على الساحة الدوليّة. التصريح الإيراني الذي حذّر كوريا الشماليّة من الركون إلى “توقيع دونالد ترامب”، ظلَّ بلا صدى، لأنّه بدا خارج السياق الدولي العامّ الذي يرغب بالتهدئة في الملفّ النووي الكوري، ويريد تعميم تجربته على مناطق أخرى تأتي إيران في مقدّمتها. ولعلّ في هذا يكمن سرّ التحذير الإيراني المَبني على أُسس الطموح الإيرانيّة الخاصّة التي باتت في “عَين المُراقبة” الدوليّة بعد ما آلت إليه الأوضاع في مدى “الشرق الأوسط الكبير”.

وإذا كان ما جرت الإشارة إليه هو الصفحة المَرئيّة من كِتاب القمّة الأميركيّة – الكوريّة، فإنّ السطور الطويلة المكتوبة بحِبر المَصالح وبمداد الاستراتيجيّات والأهداف البعيدة المدى لكلٍّ من الدولتَين المُتحاورتَين، ستبقى طيّ الكتمان، ولن ترى النور إلّا في سياق التطوّرات اليوميّة ذات السياق المتعرّج، التي ستتحكّم، أو ستكون ضروريّة لبلْورة ما كان خبيئاً وتجسيده وتظهيره، فتضعه على طاولة النظر والعمل والتحليل والتفسير والاستخلاص، في زمانٍ سياسي قد يأتي، وإن طالت فترة ارتقابه.

لكنّ ذلك كلّه لا يمنع من وضع تقدير سياسي أوّلي لما أمكن تحقيقه في قمّة سنغافورة. فالتقدير سواء أكان سياسيّاً أم عسكريّاً، يستند إلى ما في جعبة المُحلِّل من معطيات، ويُبنى على ما تقدّمه رؤيته من توقّعات، وغالباً لا يشذّ التوقّع عن النسق المنطقي السياسي العامّ، إذا كانت العِلميّة والموضوعيّة والاستقلاليّة في الرؤية، تشكِّل مجتمعةً هادياً لمَن يُقدِم على إعمال الفكر، ومن ثمّ على صوغ الخلاصات أو التوقّعات السياسيّة الأكثر ترجيحاً.

في سياق الاستدلال السياسي الذي جرى ذكره أعلاه، يمكن القول إنّ السياسة الأميركيّة في عهد دونالد ترامب، قد أضافت معطيات جديدة عن سقوط وَهم الأحاديّة العالَميّة، وعن تداعي فكرة “أمركة العالم”، وعن انهيار خطط “دمقرطة الشعوب” بالقوّة، وعن عقم الركون إلى مفاعيل القوّة العارية الساحقة، من دون الأخذ في الاعتبار حقيقة أنّ ما يُمكن تحقيقه على مساحة الجغرافيا، لا يُمكن ترجمة نتائجه كاملة داخل الديموغرافيا، وأنّ الإطاحة بنظام الحكم، أيّ حكم، وتحطيم مؤسّساته الرسميّة والأهليّة والشعبيّة، ليس كفيلاً بتمهيد الطريق، تلقائيّاً وفوريّاً، أمام إعادة بناء مؤسّسات بديلة، وتشكيلها بسهولة وسلاسة، كما هي الحال مع تصنيع “البيوت الجاهزة” وتوزيعها وتركيبها على الطريقة الأميركيّة، أو على أيّ طريقة إسقاطيّة أخرى.

ما جرى مع كوريا الشماليّة حتّى تاريخه، هو اختبار كفاءة القيادة الأميركيّة التي أرادها صنّاع قرارها قيادة عالميّة؛ وفي هذا المجال تقدّم الوقائع كلّ الأدلّة على فشل هذه القيادة في بندها العالَمي، أو العَولمي، فما ظهر من سياسات القادة، منذ جورج بوش الأب ومَن تبعه، أنّ الخراب كان الوجه الأبرز، ولعلّه الأوحد، لمجمل السياسات الأميركيّة عالَميّاً. لم يكُن لهذا الخراب وجهٌ واحد، بل إنّه ظهر على وجوه متعدّدة، منها الأخلاقي المتمثّل بالتراجع عن أُسس أخلاقيّة إنسانيّة كانت في صميم إعلان قيام الولايات المتّحدة، ومنها الإساءة إلى التعاون الدولي المُشترك، وخصوصاً في مجال المناخ والبيئة، وإلى التجاهل المتعمّد لحقوق الشعوب، وفي طليعتها الشعب الفلسطيني. وإلى ذلك يُضاف سياسات العزلة و”الانطواء” والمُطالَبة “بدفع ضريبة” ماليّة تحت مسميّات متعدّدة، من المكسيك وكندا ومن سائر المجموعة الأوروبيّة. لوهلة بدا ويبدو، أنّ “سياسات التحصيل والجباية” هي التي تقود التوجّهات الأميركيّة، هذه السياسات تُقدِّم كما هي، فجّة وصافعة، بعدما جرى إلباسها طويلاً، لبوس الديمقراطيّة والعَولمة والكونيّة.

في الخلاصة، سقط وَهْم تحقيق كلّ شيء لأميركا، بواسطة أميركا فقط، ومن خلال الأسلوب الأميركي الأوحد، والنظرة الأميركيّة الواحدة إلى العالَم، من دون الأخذ بالحسبان حقيقة وجود سائر المَصالح الدوليّة الأخرى، ما كان منها حليفاً، وما كان على مسافة خلاف واضحة.

في سياق سقوط الوهْم هذا، تُشارك كوريا الشماليّة بأوهامها القليلة، فهذه الدولة الصغيرة، ظنّت أنّها تستطيع الاستمرار بالسير على خطٍّ مفرد خارج شبكة خطوط سَير العلاقات العالميّة، وأنّها تستطيع أن تُمارِس الانغلاق والعزلة في ظلال سيوف إيديولوجيا تخطّاها الزمن منذ زمن طويل، ووفقاً لعلاقات اجتماعيّة يشكِّل الزعيم الأوحد ضمانة ثباتها الوحيدة. الآن، وبالقياس إلى سرعة استجابة الزعيم الكوري لتنفيذ ما هو مطلوب منه، يمكن القول إنّ مَطلب كوريا الشماليّة لم يكُن أكثر من تأكيد ثباتها على الخارطة العالميّة، وأنّ نظامها بعدما اطمأن إلى قبوله ضمن المجموعة الدوليّة، يتّجه راهناً إلى إعادة إنتاج “رأسماليّة اشتراكيّة” في ظلّ الحزب الحاكِم، أي أنّ العالَم قد يكون أمام “صين جديدة” في كوريا، حيث تنمو كلّ العلاقات الرأسماليّة ووسائل إنتاجها الماديّة، في ظل التوجّهات العامّة الماضية، للرئيس كيم إيل سونغ، الذي كان “محبوباً من أربعين مليون كوري”.

من كلّ ذلك، يجد المُتابِع نفسه أمام سقوطَين: سقوط وهْم الأمْرَكة، كما جرى تطبيقها حتّى تاريخه، وسقوط الاشتراكيّة “الزوتشيّة” التي تطبّقها كوريا الشماليّة. والثابت أنّنا في عصر تساقُط الكثير من الأوهام وعلى ضفَّتَي اليمين واليسار.

نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى