قهوة على بحر إيجه

ملأت تركيا الدنيا وشغلت الناس بطموحات أردوغان السلطانية وبنتيجة انتخاباتها والتغييرات التكتيكية المتوقعة على أثرها، ويمكن جداً أن تتغيّر التداعيات السياسية للانتخابات البرلمانية الأخيرة سواء عند إجراء انتخابات مبكرة؛ أو ساعة إبرام تحالف انتخابي ما بين حزب «العدالة والتنمية» وأحد الأحزاب الثلاثة الأخرى الممثلة في البرلمان. بالمقابل، لا تتغيّر الجغرافيا بسهولة مثل السياسة. أما تجارب التاريخ فتتشكّل على مدار زمني أوسع كثيراً من أي انتخابات على أهميتها. الأخيرة بحكم طبيعتها قصيرة العمر، أما الجغرافيا والهويات فعمرها طويل وتمسك دوماً بخناق السياسة، ولكن من طرفٍ خفي. لذلك تترك أنقره بعد انتهاء الانتخابات البرلمانية التركية بنتائجها المعلومة، متوجهاً إلى إزمير محاولاً استكشاف وجدانها وطبقاته المتعددة. والوجدان تَقُدُهُ الجغرافيا أساساً، ويرسم التاريخ ملامحه فيشكلان معاً ثقافة وهوية تحدد أنماط التفاعل مع الجوار والعالم. جغرافيا بلد ما مثل أجساد البشر، تتنفس وإن بشكل آخر ولها قوام وملامح مميزة، فتؤثر مع الخبرات التاريخية المتعاقبة على ثقافات سكانه وسلوكياتهم. لم يأت السؤال الأشهر عندما يتعارف البشر حول العالم اعتباطاً: «من أيّ البلاد أنتم؟»، لأن الاستدلال عن البلد يساهم إلى حد كبير في بناء صورة ذهنية لهوية الشخص الجالس أمامك. ومع توافر هوية أساسية لبلد ما ولسكانه، فهناك هويات فرعية ضمن البلد ذاته وهو أمرٌ ينطبق على جميع دول العالم وبضمنها تركيا.

تأمّلنا العام الماضي في الأناضول، جغرافيته وتاريخه ووجدانه (مصطفى اللباد ـ «رحلة إلى الأناضول: في حضرة مولانا جلال الدين» ـ «السفير» 18/8/2014)، وحــالفنا الحظ لنــتأمل هذه المرة في مدينة إزمير وسياقاتها البحرية والتاريخية وبحر إيجه الــــذي تقع عليه، كي نخرج في النهاية بخلاصات سياسية ذات صلاحية زمنية أطول نسبياً.

إزمير في سياقها الجغرافي البحري

تجلس مستمتعاً بقهوتك على شاطئ إزمير، إذ تأتيك ـ من دون أن تطلب ـ مع ما يلزم من وسائل التدليل المتوسطية (كأس من الماء البارد وصحن صغير من راحة الحلقوم). تقع إزمير في أقصى غرب الجغرافيا التركية، وتطل على بحر إيجه، مع أول رشفة تلاحظ ندرة الأمواج وزبدها الأبيض الواصل إلى الشاطئ. تختفي دهشتك عندما تراجع الخريطة، فتكتشف أن خليج إزمير البالغ طوله اثنين وثلاثين كيلومتراً وعرضه ستة عشر كيلومتراً، يحيط بالمدينة من الغرب والشمال الغربي فيحجز الأمواج عنها، وكأنه صدفة بحرية تحيط بلؤلؤة. وإزمير هي ميناء تركيا الأكبر على بحر إيجه، وأكثر المدن التركية كوزموبوليتانية على الإطلاق، وبشكل يتجاوز اسطنبول حتى. هوية إزمير البحرية خالصة من دون شوائب، طابعها الإيجوي والمتوسطي لا تخطئه العين سواء من عمارتها المميزة، أو شوارعها المسفلتة بالحجر الداكن، أو مطبخها الغارق في محبة زيت الزيتون، أو ملامح سكانها وانفتاحهم الغربي، أو فتياتها الحِسان ذوات الشعر الأسود الفاحم (مع ندرة الشقراوات والحجاب بينهن مقارنة بمدن الأناضول). أما اسطنبول الواقعة بين الشرق والغرب، فتراها حائرة بين هويتها البرية وامتداداتها الأناضولية من ناحية، وهويتها البحرية مجسّدة في مضائق البوسفور والدردنيل وبحر مرمرة من ناحية أخرى. تتذكر بعد الرشفة الثانية أن بحر إيجه يتفرع من البحر الأبيض المتوسط ويصب فيـــه، فيحده من الغرب والشمال اليونان، ومن الشرق الشاطئ التركي (ومدينته الأكبر إزمير). ومن الجنوب ينفتح بحر إيجــــه تقريباً على البحر المتوسط، وإن كـــانت جزيرة كريـــت تبدو وكأنها هبطت من السماء لتشكل عائقاً طبيعياً.

تنظر إزمير إلى نفسها وجوارها والعالم من خلال إطلالتها على بحر إيجه، ذلك البالغ طوله حوالي 650 كيلومتراً من الشمال إلى الجنوب، أما عرضه فيبلغ من الغرب إلى الشرق 390 كيلومتراً. اشتق البحر اسمه من اسم إيجوس ملك أثينا، على ما تقول الأسطورة الإغريقية. مفاد الأسطورة أنه عندما غادر تيسيوس ابن الملك إيجوس إلى جزيرة كريت لحربها وتحرير أثينا من التزامها بتوريد الصبايا والشباب إليها، فقد وعد تيسيوس أباه أن يرفع الشراع الأبيض بدلاً من الشراع الأسود التقليدي، كدلالة على نجاته من الموت عند عودته إلى أثينا. عندما وصل تيسيوس إلى جزيرة كريت، التقى أريادنه ابنة الملك مينوس ووقع في غرامها. أعطت أريادنه تيسيوس كرة حمراء من الصوف، ليجد بها طريقه للخروج من الجزيرة بعد هزيمة خصومه، ونجحت الخطة. لم يستطع تيسيوس الزواج من أدريانه، فذهب مغموماً إلى أثينا ونسي أن يرفع الشراع الأبيض على سفينته. عندما رأى أباه السفينة تلوح في الأفق والشراع الأسود عليها، اعتــــقد إيجوس أن تيســيوس قد مات، فرمى نفسه من حالق على صخور الشاطئ. مع الرشفة الثالثة تلحظ أن الحضارة الإغريقية تشكل مكوناً أساسياً من هــــوية إزميـــر الثــــقافية، لكن في صــــورة الهوية البحرية غالبة في حين تصلب الأتاتوركية بمعناها القومي والعـــلماني هوية إزمير السياسية.

إزمير في سياقها التاريخي الأتاتوركي

تعد إزمير ثالث أكبر مدينة تركية من حيث عدد السكان (أربعة ملايين) بعد اسطنبول وأنقره، ومعقلاً للعلمانية في تركيا. وحتى مع تراجع شعبية حزب «الشعب الجمهوري» العلماني في تركيا خلال العقدين الماضيين لأسباب متنوعة، يأتي الحزب مع ذلك أولاً في المدينة على الدوام. أينما وليت وجهك في المدينة يرفرف العلم التركي الأحمر وهلاله ونجمته البيضاء على السفن قبالة الشاطئ وعلى مراكب الصيد الصغيرة، وتلحظ بوضوح تماثيل أتاتورك وصوره في المطاعم والمقاهي والهيئات الحكومية والفنادق أكثر من أي مدينة تركية أخرى. وما تمثال أتاتورك الضخم بحجم تلة كاملة في الطريق الواقع من المطار إلى المدينة، أو تمثاله في ميدان الجمهورية ممتطياً صهوة جواده مشيراً بيده اليمنى اتجاه البحر، إلا مثالين على ذلك. يرتبط سكان إزمير بأتاتورك وبقيم الجمهورية التركية أكثر من أي مدينة تركية أخرى، ومرد ذلك أنه أعادها إلى سيادة تركيا بعد احتلالها من اليونانيين العام 1919 وإقرار «معاهدة سيفر» العام 1920 بتبعية المدينة إلى اليونان. بعد هزيمة السلطنة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، أنزلت اليونان قواتها إلى المدينة مختلطة السكان، ومن هناك شقت القوات اليونانية طريقها إلى الأناضول في العمق التركي. وهناك واجهتها الفرق التركية بقيادة مصطفى كمال وعصمت إينونو وألحقت الهزيمة بها، فدخلت أزمير في خريف العام 1922، متوجة «بويوك تعرض» أو «الهجوم الكبير» لقوات الغازي مصطفى كمال. وفي «اتفاقية لوزان» العام 1923 عادت إزمير باعتراف دولي إلى تركيا ومعها كامل الشاطئ الغربي لآسيا الصغرى، الذي يشكل الآن شــــواطئ الجمهورية التركية على بحر إيجه.

بالمقابل، فقد استمرّت سيطرة اليونان على كل جزر بحر إيجه تقريباً، حتى الملاصقة منها للشاطئ التركي باستثناء عدد محدود من الجزر يعد على أصابع اليد الواحدة، ما يشكل أرضية للاحتكاكات بين تركيا واليونان حتى الآن وفي المستقبل أيضاً. كانت إزمير تسمّى باسمها اليوناني سميرنا حتى العام 1930، عندما أجبرت الجمهورية التركية منظمة البريد العالمية على وضع اسم إزمير على المراسلات الواردة إلى المدينة، وهو ما تمّ بالفعل. تقلب فنجان القهوة وترشف ثمالته، وتستحضر كيف يطلق سكان الأناضول المحافظون والمؤيدون في غالبيتهم لحزب «العدالة والتنمية» اسم «غريبة الأطوار» على مدينة إزمير، بسبب هويتها البحرية التي تطبع سكانها بالانفتاح على العالم، في انعكاس واضح لعدم فهم كافٍ لهوية إزمير المستمدة من موقعها الجغرافي المميز وتجربتها التاريخية الخاصة.

الخلاصة السياسية

لا تلحظ محاولات أردوغان لتغيير نظام تركيا السياسي من برلماني إلى جمهوري، ما يزيد تعقيد الهوية التركية وهوياتها الفرعية بشكل كاف. ومرد ذلك أن النظام البرلماني الذي ارتضته الجمهورية الكمالية، لم يأت على خلفية تفضيلات أيديولوجية؛ وإنما لأسباب تتعلق بتمثيل أفضل لمكونات الموزاييك التركي المعقد وهويات البلاد الفرعية في السلطة السياسية، بما يضمن في النهاية شكلاً من أشكال الوحدة السياسية لتركيا. ومن شأن تحويل تركيا إلى جمهورية رئاسية أن تتأبد السلطة السياسية في رجل واحد يختصر أغلب صلاحيات النظام السياسي في شخصه، فيلغي ـ احتسب أم لم يحتسب ـ نصيب هويات تركيا الفرعية في السلطة السياسية.

لعل ذلك يفسر تفضيلات المواطنين الأتراك في مناطق جغرافية متباينة لأيديولوجيا حزب بعينه («حزب الشعوب الديموقراطي» في المناطق الكردية جنوب شرقي تركيا أو «حزب الشعب الجمهوري» في حالة إزمير غرب البلاد)، لأن هذين الحزبين يجسدان صفة هوياتية أكثر بكثير من القشرة الأيديولوجية التي تغطي سياستهما. تنوّع تركيا وهوياتها الفرعية يمكنه أن يكون مصدراً للتناغم والمرونة المؤسسية. أما المحاولات الأردوغانية الدونكيشوتية للقفز على حقائق الجغرافيا وتجارب التاريخ، فلن تؤدي إلا إلى المزيد من مقاومة الهويات الفرعية لمحـــاولات الصهر والإدماج القســـري، وما نتيجة الانتخابات البرلمانية الأخيرة إلا المثال الأوضح على ذلك!

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى