“كأننا عشرون مستحيل…”
الاحتلال، لا يُرعبه شيء كهذه الوحدة الفلسطينية؛ كهذا الكسر لعقدة التيئيس؛ كهذا النفخ في الرماد وتأجّج النار.
“هي النار تحت الرماد، اشتعلت”، كتبت صحيفة غربية في افتتاحيتها، وأكملت: “رماد حلم “أوسلو” وحلم الدولة؛ رماد القضية السياسية التي استبدلت بها قضية تحسين ظروف الحياة، لتحوّل الفلسطينيين ببساطة إلى مجرّد محتاجين محبَطين ومنقسِمين. وعليه، كلما انتفض هؤلاء ورمَوا حجارة أو أطلقوا صواريخ فوجئ الإسرائيليون بعدم خضوعهم واستسلامهم. الأمر يتلخّص في نسيان مفهوم الكرامة. وذلك ما توظّفه “حماس” و”الجهاد” وتربطانه بالقدس. يجب أن تكون غائباً عن الوعي كي لا تفهم ذلك“.
في نصّ الصحيفة كثير من الحق وبعض من الخطأ، فأهم ما في الأول أن إحساس الكرامة ومركزية القدس هما حتمية الانتماء والحق بالنسبة إلى أي شعب يُسلَب حقَّه ووطنَه. وهما قبل “أوسلو”، وقبل جميع التنظيمات والفصائل التي جاءت تجسّده، ومنه وحده تكتسب مشروعية وجودها.
لذا، فإن هذه الهبّة الشعبية ليست مجرد تعبير عن إحباط من مشروع، وإنما هي وريثة سلسلة مراحل في ثورة لم تتوقف منذ بدأ الصهيوني ينفّذ “أسطورته الطوطمية” من خلال مُصادَرة هذه الأرض. هي هبّة نَفخت، حتى قبل أن تصل إلى المواجهة العسكرية، رمادَ من قالوا يوماً: “الكبار يموتون والصغار ينسَون”… الصغار، هم الذين يقاتلون اليوم. نَفخت رماد التيئيس الذي راهن عليه الصهاينة منذ مقولة جابوتنسكي في جدار الفولاذ: “سيظلّ هؤلاء الفلسطينيون يقاتلوننا كما يقاتل السكان الأصليون الاحتلال إلى أن نقضي على آخر بارقة أمل لديهم”.
ظهر الأمل والإيمان شعلةً غير قابلة للإطفاء، ولا ينفع معها كلُّ رماد القوى المؤيدة للصهاينة، من أجانب وعرب أجانب، وتخلّيهم عن هويتهم… نَفخت رماد برنامج نتنياهو منذ التسعينيات: ما كتبه بتفصيل في كتابه الإستراتيجي: “أمن وسلام: استئصال الإرهاب”عام 1995، ودعا فيه إلى وجوب حصر المقاومة في ما سَمّاه “جَيب غزة”، وإلى إبعاد الضفة وسائر فلسطين عنه، وتحويلها إلى رقع لا صلة لإحداها بالأُخرى.
لكنها صلة الروح والهوية، كالهواء لا يتمكّن من حجب حركته حاجز أو حصار، ولا خلافات سياسية وأيديولوجية. هواء تحوّل إلى ريح عاتية نفخت الرماد وأطلقت صوت توفيق زياد من تراب الناصرة “كأننا عشرون مستحيلْ… في اللُّد والرملة والجليلْ… هنا لنا ماضٍ وحاضر ومستقبل”، صرخة تصل إلى بدو النقب وساحات الشتات.
بعد “أوسلو” قال جورج حبش: “لا يمكن أن أتخلى عن حلمي بالعودة إلى اللُّد”… ليته عاش ليرى العلَم الفلسطيني على بلدية اللُّد، بعد سبعين عاماً من مجزرة اللد، وبعد 28 عاماً من “أوسلو”.
أصاب الذهول الوجوهَ الغربية التي اعتقدت أنها انتهت من هذا العبء، وضرب الوجوه العربية التي جَهَرَت بتقاسم ثياب يوسف. وتحرَّكت الدماء الحارّة في عروق الناس… الناس، التي كان يباس تآمر العقود الأخيرة قَطَع عنها الأوكسيجين.
بالتَّبَعية للساحة تدور معركة السياسة والإعلام. يذكر الجميع مقولة أن ما جعل الانتفاضة الثانية أكثر فعالية هو الإعلام الفضائي. ويعرف الجميع كم أدت معاول الإعلام دوراً في خراب “الربيع العربي”. ويقف الجميع اليوم أمام الإعلام المقاوم، ويراقب البعض التحولات في الإعلام العالمي.
الانتفاضة الثانية تُعيدنا عقدين وعاماً إلى الوراء، كأنّ ما بينها كان جملة معترضة بين قوسين. وفي دلالة غريبة تعيدنا دموع راميا الإبرهيم في “الميادين” إلى دموع جابر عبيد في “إخبارية أبو ظبي” وهو يغطّي مجزرة جنين، مع فارق أن راميا لم تبكِ فجيعة، وإنما فورة كرامة تعبت وهي تنتظر التعبير عن قضية مستعصية على الموت، على الرغم من كل ما فعله مهندسو “الربيع العربي” وصفقة القرن والتطبيع، لدفنها. فكيف يُقتلع حلم قذر بقرن جذورَ عشرات آلاف القرون من الوجود؟
أين جابر عبيد اليوم؟ وأين القناة؟ احتُلّ العراق فاعتقد الجميع أن السيف الأميركي الأوحد فرض “إسرائيل” وانتهى كل شيء. كان إلغاء “القناة الإخبارية”، التي بُنيت شهرتها على تغطية الانتفاضة، شرطاً من شروط الوراثة، ليعلن تحوّلاً سياسياً إزاء قضايا الأمة، وفي طليعتها فلسطين، في اتجاه معسكر العَمالة والخضوع. تحوّل لم يسمع رسالة حرب تموز 2006. لم يفهم أن تموز، منذ الأسطورة، يؤسر سبعاً ثم يتحرر، فيكون العيد. بالأمسِ كانت القيامة وجاء العيد مثلثاً. اختفت “قناة أبو ظبي” واختفت الإمارات من ساحة الكرامة، واختفى جابر عبيد ولم يعرف أحد مصيره، على الرغم من الحملات الكثيرة المطالبة به. اختفى كثيرون من ساحات الكرامة، لكن ليحتلها أهلها الصادقون، ويُطلقوا نداءهم فتزلزلَ الأرض زلزالها، وحكماً يرتدّ صداه في الإعلام.
عملية رصد الإعلام تقود إلى كمّ هائل ممّا بدأنا به من الملاحظات، التي سيكون علينا أن نعمل طويلاً وعميقاً لدراستها، وخصوصاً في الإعلام العالمي الذي يبدو مؤيداً للانتفاضة. وفيه هنّات تجاوزها الخطاب السياسي لقادة المقاومة. ونكتفي منها اليوم بأربع:
أولاً: قراءة التحوّل في خطاب بعض الإعلام العالمي؛ مثلاً، أن نقرأ في لوموند: “المأساة الفلسطينية الإسرائيلية، صراع اختار العالم أن ينساه، فجاءت الأحداث تذكيراً بالواقع الذي حاول العالم التخلص منه، إمّا مللاً وإمّا لحسابات ما… إن صراعاً غير قابل للحل لا يمكن أن يكون صراعاً قابلاً للتذويب… طوال سنوات حُرِم الفلسطينيون حقوقَهم وأرضَهم وحرياتهم… مصادرة أراضي الشيخ جراح، لن تشكّل إلاّ مرحلة في أزمة”.
هذا كلام ممتاز، لكنه يأتي مرفَقا بدعوة متكررة لإدارة بايدن إلى التدخل. بايدن لا يريد نتنياهو بالتأكيد، لكن ذلك لا يمس إخلاصه للكيان الصهيوني.
وتَتَتالى العناوين التي لا تتحدث إلاّ عن إيقاف التصعيد… لكن في مقابل ماذا؟ وبوساطة مَن؟ تنافُس بين وساطة مصرية وتركية قطرية. الأولى مرتبطة بالسعودية والإمارات، وبالتالي بواشنطن. كما أن حاجتها إلى التهدئة واضحة، لأسباب أهمها الخوف من امتداد النار وقلب الطاولات. والثاني أن السلاح يحمل دمغتين سورية وإيرانية، وبالتالي فإن الموقف يشكّل توسيعاً وتعميقاً لرقعة المقاومة على حساب رقعة الاستسلام.
أمّا الوساطة الثانية فمرهونة بما أعلنه مدير المخابرات التركية فيدان حقان، رسمياً، قبل فترة قصيرة من تمتين التعاون الأمني التركي- الاسرائيلي، وما يمكن أن يقدمه ذلك إلى العدو من إحداثيات، لن يكون اغتيال القادة وضرب المواقع بعيدَين عنها. واقع لا تغطّيه سُحُب تصريحات إردوغان الذي يوسّع يومياً احتلالاً لشمالي سوريا والعراق، وتعطيشاً للطرفين بحُجَج دينية وعرقية وعنصرية، لا تقل عن إجرام الاحتلال الصهيوني.
ثانياً: دقّة القدرة على الربط بين الحق الوطني وحقوق المقدَّسات. فما لا شك فيه أن المسجد الأقصى قائم في وجدان كل مسلم وكل عربي، محمديّ أو مسيحيّ، لأنه رمز ذو دلالتين: الأولى دينية إسلامية، والثانية وطنية سيادية فلسطينية. الدلالاتان لا تنفصلان في ذهن صاحب القضية على امتداد الأمة. لكن، بالنسبة إلى المطبِّعين، وإلى المسلمين غير المعنيِّين بالحق الفلسطيني في الأرض والسيادة، فإن حق الصلاة في المسجد الأقصى يصبح كحق الصلاة في مكة المكرمة أو في الفاتيكان، يمكن أن تؤمّنه “إسرائيل” إذا سيطرت على المدينة المقدسة، بتأشيرة من حكومتها (كذلك مع الأماكن المقدسة المسيحية). من هنا، ضرورة اليقظة الواعية جداً في الخطاب الإعلامي للحق في السيادة على المواقع المقدسة، وليس فقط على الصلاة فيها. ومن هنا، ربط هذا الأمر بتهويد القدس، وربط الأمرين بالشرط الإلزامي، وهو بقاء السكان الفلسطينيين في الأرض الفلسطينية. لذا، يجب تقديم موضوع الشيخ جراح في رمزيته، بل جَمعهما معاً.
إذا كان التأثير الإعلامي يعتمد علمياً، وبصورة أساسية، على ما يسمّى “الرموز المؤثّرة”، فلا شكّ في أن المسجد الأقصى هو قمتها. لكنّ رمزية الشيخ جرّاح هي أيضاً ذات دلالتين: الأولى طبيعة الاحتلال الإحلالية وتشبث المواطنين بأرضهم، والثانية اسم الشيخ جراح، أحد قادة صلاح الدين، وطبيبه الذي شاركه في تحرير القدس، وأسّس فيها طريقة صوفية لا تزال تكيتها قائمة إلى اليوم.
ثالثاً: المقاربة الدينية. أحياناً، يمكن افتراض عدم المعرفة، لكن غالباً ما يجب افتراض القصد. أن يسأل مذيع “الجزيرة” شاباً مقدسياً فلسطينياً مسيحياً: “هل جئت تتضامن مع المنتفضين”؟ فيصرخ في وجهه: “شو أتضامن؟ هل جئتُ أنا من الخارج؟ أنا فلسطيني هذه أرضنا يا رجل”.
لمحة قصيرة قد لا تستحقّ التوقف، لكن عندما نجد في موقع “الجزيرة”، في يوم واحد، ثلاثة مواضيع مترجمة تعكس إيحاءً واحداً:
مقال مطوَّل عن المسيحيين الإنجيليين في الولايات المتحدة، يدور كله حول أن هؤلاء يشكّلون العمود الفقري لدعم “إسرائيل” بفعل عقيدتهم. ويقول إن عددهم 50 مليوناً. وربطَهم بسِفر يشوع، المؤسس للتطهير العرقي. فإن هذا ما يجمع الصح والخطأ. صحيح أن كل ما فيه ينطبق على من يُسمَّون “المسيحيين المتصهينين”، وعددهم 25 مليوناً، لكنه لا ينطبق على الآخرين، مثل أتباع الكنيسة المشيخية مثلاً، والتي تقاطع رسمياً بضائع المستوطنات، وتعلن تعاطفاً مع فلسطين، وتقوم بأنشطة داعمة داخل فلسطين، وتتعاون في ذلك مع منظمة “كِير” الإسلامية في أميركا. فلماذا التعميم؟ لجهل؟ لتثبيت تهمة دينية؟ أم لإحباط المعنويات؟
في المقابل، ينشر الموقع نفسه ترجمة عن موقع “أل سي آي” (LCI) الإخباري الفرنسي، يحدّد فيها الموقعُ مراحلَ التوتر في فلسطين بسبعٍ، ولا يضع بيوت الشيخ جراح ومسألة المستوطنات إلاّ في آخرها، ليركّز فقط على الصلاة في المسجد الأقصى. وكأنّ الخلاف مجرد خلاف ديني.
وأخيراً، ترجمة مقال مهم لديفيد هيرست يبشّر بانتفاضة ثالثة، ويربطها بإرادة “إسرائيل” تهويد القدس، وظنِّها أن في إمكانها دفنَ الدولة الفلسطينية من خلال التطبيع مع بلدان عربية، معلقاً: “لا بد من أن قادة إسرائيل يدركون الآن مدى ضآلة ذلك.” ويصف معركة الشيخ جراح بأنها معركة وجود بلا حدود.
إلاّ أنه يقع في مغالطات مهمة:
الأولى أنه يربط إجرام “إسرائيل” بأوهام اليمين الإسرائيلي وترامب… لا، هذه هي الصهيونية والأمركة، بيمينهما ويسارهما، ولن تنتهي المشكلة بسقوط نتنياهو. فليس تبديل الإدارات ما يضع لها حداً، وإنما القوة، الأشدُّ إنباءً من كل شيء.
المغالطة الثانية قوله إن الفلسطينيين أدركوا الآن أنهم وحدهم، كما كانت الحال في الانتفاضات السابقة. والحقيقة أن كل شوارع العالمين العربي والإسلامي، وحتى شوارع العالم، تدلّل على أنهم ليسوا وحدهم، بل إن الانقسام العمودي بين محور مقاوم ومحور مستسلم هو القديم الجديد.
أمّا المغالطة الثالثة فقوله إن “كل الفلسطينيين يشاركون في هذه الانتفاضة على عكس سابقاتها… الاحتجاجات في الأقصى تجتذب المسيحيين، وكذلك المسلمين، والعلمانيين والمتدينين والقوميين والإسلاميين”. وهذا أيضاً غير صحيح، فالانتفاضة الثانية حملت اسم “انتفاضة الأقصى”، وكانت انتفاضة كل هؤلاء، بل إن هذه المشاركة الإجماعية هي ما عرفته المقاومة الفلسطينية تاريخياً منذ يومها الأول، من قياداتها وكوادرها إلى مناضليها. أمّا الجديد، والذي يستحق التركيز، فهو انتفاضة أراضي الثمانية والأربعين. من المدن، إلى بدو النقب الذين يخوضون صراعاً منذ عقود مع الحكومة الإسرائيلية التي تريد نقلهم من مَضاربهم ومنازلهم لأنها قريبة من ديمونا، وهم يرفضون ويقاومون، كأهالي الشيخ جرّاح.
في مقابل بلبلة كهذه، جاء كلام القادة الفلسطينيين واضحاً، كأنه يضع الأمور في نصابها. فركّز إسماعيل هنية في خطابه على مصطلحات واضحة: “الشعب الفلسطيني توحّد في كل مكوِّناته وتياراته في معركة الدفاع عن القدس”، و”لا أحد يمكنه أن يتخلّف عن معركة القدس”، وإن “جبهة القدس هي جبهة الأُمة وجبهة المسلمين والمسيحيين الأحرار”، وإن “كل محاولات التطبيع وتزوير الوعي ونشر ثقافة الهزيمة، تتحطم اليوم على صخرة الالتفاف حول الأقصى”. لكنّ الأهمّ فيما قاله عنوانان: إن معادلة ربط غزة بالقدس بالضفة الغربية وفلسطينيي أراضي الـ 48 تعني معادلة المقاومة مع الهوية. معادلة أضافت إليها “سرايا القدس”، الشتاتَ: “غزة والضفة والقدس والداخل المحتل والشتات”، وهو ما قاله كل القادة الذين سمعناهم خلال الإيام الماضية.
الاحتلال، لا يُرعبه شيء كهذه الوحدة الفلسطينية؛ كهذا الكسر لعقدة التيئيس؛ كهذا النفخ في الرماد وتأجّج النار. يهددون بالحرب البرية، لكن ألا تذكّرهم المعركة البرية بجنوبي لبنان، الذي سجَّل عام 2000 المنعطفَ التاريخي الذي شحن انتفاضة الأقصى، وطبع بختمه عام 2006 على هذا المنعطف؟
ألا تذكّرهم برعب امتداد النار إلى ساحات عربية أخرى، تزلزل ما بُنِي من ذلّ طوال عقود، وخصوصاً في ما يسمى دول الطوق؟
(زلزال أسمع أصواته الآن من غور الأردن، وجماهير الشعب تزحف إلى الحدود صارخة بفتحها، بعد 27 عاماً على “وادي عربة”).