«كابوس الدولار»: مصر نحو قرارات قاسية!
أصبح انخفاض قيمة الجنيه المصري أمام الدولار عنوان الأزمة الاقتصادية في مصر، ولكنه في الحقيقة لا يمثل كل الكابوس، ويشكل جزءاً من تجليات الاقتصاد المصري المتراجع. أما اسبابه فعديدة، من تآكل احتياطي النقد الأجنبي وتراجع موارد الدولة من العملات الصعبة بسبب ما تعرضت له السياحة وتراجع عائدات قناة السويس وفشل الرهان على الإستثمار الأجنبي، وخصوصاً الخليجي. اما معالجة هذه الأزمة عبر قرارات قاسية، فلن تصيب شظاياها ككل مرة سوى.. الفقراء.
وبالأمس، ثبّت المصرف المركزي سعر الدولار أمام الجنيه بقيمة 8.76 جنيه للدولار، بحيث يتم تداوله في المصارف بقيمة 8.83 للبيع، و8.88 للشراء، وذلك في العطاء الأسبوعي الذي يطرحه المصرف المركزي بقيمة 120 مليون دولار كل ثلاثاء للمصارف لتلبية احتياجات المستوردين. السعر الرسمي الذي ثبّته المصرف المركزي أصبح ينخفض عن سعر التداول في السوق السوداء الموازية بنسبة تزيد على 40 في المئة بعد أن بلغ 13 جنيها للدولار.
ولا يمثل الفارق الكبير في السعر كل الأزمة، فالمشكلة الحقيقية أصبحت نقص المعروض من الدولار، وعدم قدرة المصارف وحتى السوق الموازية على تلبية احتياجات السوق من العملة الأجنبية، ما جعل سعر الدولار في السوق الموازية يتغير في اليوم مرات عدة، ويختلف من مكان إلى آخر، بحسب كثافة الطلب وحجم العرض.
ولكن مجموعة العوامل التي تتفاعل لتنتج سعرين متباينين للدولار تُمثّل بحد ذاتها أزمة أعمق بكثير من أزمة الدولار.
فمن جهة، تآكلَ احتياطي النقد الأجنبي في مصر من حوالي 36 مليار دولار في العام 2011، إلى حوالي 17 مليار دولار مؤخراً، ما أضعف بشدة قدرة الدولة على التحكم بسعر الدولار في السوق، بدعم قيمة الجنيه وبضخ كميات من الدولار لتغطية الاحتياجات.
ومن جهة أخرى، تراجعت بشكل جماعي موارد الدولة من العملات الصعبة، بحيث أصبح من الصعب تعويض الاحتياطي.
فالسياحة، التي كانت تُعّد من أهم موارد النقد الأجنبي، تراجعت عائداتها بشدة خلال السنوات الماضية، ووصلت لما يشبه الانهيار عقب سقوط الطائرة الروسية في شرم الشيخ الخريف الماضي. وقدّر وزير السياحة هشام زعزوع خسائر السياحة في مصر بـ300 مليون دولار شهرياً عقب سقوط الطائرة الروسية، ووصلت خسائر قطاع السياحة في بعض التقديرات لأكثر من 60 في المئة عقب سقوط الطائرة الروسية، وقرار وقف الرحلات الجوية الروسية لمصر.
قناة السويس، والتي كانت تعد مصدراً مستقراً للعملة الأجنبية، تأثرت هي الأخرى إيراداتها وإن بشكل طفيف من 5.465 مليار دولار في 2014 إلى 5.175 مليار دولار في 2015، نتيجة تراجع حركة التجارة العالمية. ولكن الانخفاض في عائدات القناة، وإن كان طفيفاً، إلا أنه خيّب الآمال التي انعقدت على التوسعات التي أنجزت في قناة السويس، وشهدت دعاية واسعة وبشّرت بمضاعفة عائدات القناة، فضلاً عن استهلاكها جزءاً من احتياطي النقد الأجنبي للإسراع في إنجازها. تحويلات المصريين في الخارج شهدت بدورها تراجعاً ملحوظاً نتيجة انهيار أسعار النفط، حيث تتركز العمالة المصرية في الخارج في دول الخليج.
التراجع في موارد النقد الأجنبي صاحبه عجزٌ مزمنٌ في الميزان التجاري، وإن كان تراجع بشكل طفيف مؤخراً، إلا أنه فاقَمَ من الإحساس بنقص الموارد من العملة الأجنبية.
ولم يسفر رهان الدولة على جذب الاستثمارات الأجنبية عن نجاحٍ حقيقي، فرغم الضجة التي صاحبت مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي في آذار 2015، لم يسفر المؤتمر عن التدفقات الاستثمارية التي توقعتها الدولة. أما دعم دول الخليج للاقتصاد المصري، والذي نجح بالفعل في إنقاذ الموقف في 2013، بدا منذ العام 2014 أنه لن يستمر وأن شروطه أيضاً ستكون قاسية.
كل ذلك، مع عجز في الموازنة يصل إلى 11.5 في المئة، ودين عام يتجاوز 90 في المئة من الناتج المحلي، ومعدلات نمو تقل عن أربعة في المئة، تكون النتيجة أن الأزمة وصلت إلى حدود خطرة، وليست أزمة الدولار وجملة السياسة النقدية سوى بعض مظاهرها.
ولكن كون أزمة الدولار إحدى تجليات الأزمة الاقتصادية المصرية، فإنها بدورها تصبح لها تجليات أخرى. فالنتيجة المباشرة الأولى لأزمة الدولار وارتفاع سعره في السوق الموازية إلى 13 جنيها، في بلد يعاني من عجز تجاري، هي ارتفاع في أسعار كافة الواردات ومدخلات الإنتاج، بما يدعم موجة تضخم هي في الأصل قوية.
من جهة أخرى، يُمّثل السعر المرتفع للدولار في السوق الموازية وعجز الدولة عن توفير الطلب عليه أزمة في التشغيل، مع اعتماد الكثير من مدخلات الإنتاج والمعدات وقطع الغيار على الاستيراد، ما يؤدي إلى انكماش في الأنشطة الاقتصادية بشكل عام.
التأثير أيضاً واضح على تدفق الاستثمارات الخارجية، فرغم أن ارتفاع سعر الدولار يمكن أن يكون عامل جذب للاستثمارات، إلا أن وجود سعرين للدولار يعني عدم استقرار السياسة النقدية، وهو ما يعني مغامرة لرؤوس الأموال الداخلة للسوق المصرية، إضافة إلى ارتفاع تكلفة واردات الدولة نفسها، بما يعني زيادة في عجز الموازنة.
هكذا تُحل الأزمة في حلقة مفرغة، حيث تؤدي أزمة الاقتصاد إلى أزمة في الدولار، وتؤدي أزمة الدولار إلى تعميق أزمة الاقتصاد، وتصبح الخيارات ليست فقط محدودة، ولكن أيضاً قاسية جداً.
ويعتبر الباحث في السياسات النقدية أيمن هدهود في حديث لـ «السفير» أن «الأزمة أصبحت هيكلية، ليس فقط سعر الدولار، ولكن ندرته أيضاً، وتراجع التدفقات النقدية ونفاد الاحتياطي. قدرة السلطة النقدية على دعم العملة تقلّصت بالفعل، وصافي الأصول تحول للسالب، وهو وضع خطير».
ويضيف هدهود أنه «لا يبدو هناك حل للأزمة الحالية سوى اتخاذ قرار بتعويم الجنيه، وهو قرار صعب، لأنه سينتج آثارا اجتماعية وسياسية. وسيعني فترة من الاضطراب النقدي والاقتصادي. ولكن تعويم العملة ليس مجرد إجراء، ولكنه سياسة متكاملة، تشمُل مجموعة إجراءات لامتصاص الأزمة الاجتماعية التي ستنتج عن التضخم، ومجموعة إجراءات اقتصادية وسياسية وأمنية لتشجيع الاستثمارات. هناك دول مرّت بأزمات شبيهة مثل الأرجنتين والمكسيك وماليزيا وأندونيسيا، وتعاملت مع الأزمة».
ويؤكد هدهود «لا يبدو أن هناك بديلا في الأفق للإجراءات القاسية، وعدم اتخاذها سيعني استمرار الوضع القائم أي وضع الأزمة، ولكن حتى هذا الوضع غير قابل للاستمرار لأن الأزمة تتفاقم».
تعويم العملة المحلية هو أحد الشروط الأساسية ايضاً لصندوق النقد الدولي للإقراض، وهو المؤسسة التي تعطي شهادة الثقة للاقتصاد، ما يعني طمأنة رؤوس الأموال للدخول للسوق المصرية. ولكن ما قد يطمئن رؤوس الأموال والمستثمرين، سيعني ضغطاً غير مسبوق على مجتمع يُعاني بالفعل.
فبينما كان يثبت المصرف المركزي سعر الدولار بالأمس، كان الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء يعلن عن آخر إحصائيات الدخل والإنفاق في مصر، والتي أعلن فيها أن نسبة الفقراء الذين لا يستطيعون تلبية حاجاتهم الأساسية في مصر وصلت 27.8 في المئة من السكان، أي أن أكثر من ربع السكان في مصر وقعوا في براثن الفقر. ولكن الخبر الأسوأ هو أن هؤلاء بالذات سيتحملون الحصة الأكبر من تبعات القرارات القاسية التي قد تتخذ قريباً.