الكذب هو من أشد الأفعال التي يمكن أن تشوه الحقيقة وتضلل الآخرين، والكذب حول قضية العدالة والمساواة بين البشر يعتبر من أخطر أشكال الخداع.
فعندما يقول أحدهم إن “البشر متساوون” دون أن يقدم على التفكير العميق في طبيعة الحياة البشرية المعقدة، أو في الفروق الحقيقية التي تفصل بين البشر على مستوى الفردي والاجتماعي، فإن هذا الشخص يغرق في نوع من الكذب أو الوهم الذي يضر بالفهم الصحيح للعدالة والمساواة.
على مر التاريخ، كان هناك جدل كبير حول مفهوم المساواة بين البشر. منذ العصور القديمة وحتى العصر الحديث، تباينت النظريات والأفكار حول هذه القضية. في الفلسفة الإغريقية، كان سقراط وأفلاطون وأرسطو يناقشون موضوع العدالة والفضيلة، وكان لديهم أفكار تختلف عن مفهوم المساواة الحديث. أفلاطون على سبيل المثال، رأى أن الناس ليسوا متساوين بطبيعتهم وأن المجتمعات يجب أن تكون مُنظمة بناءً على الكفاءات الفردية.
مع مرور الزمن، بدأ فلاسفة عصر التنوير، مثل جون لوك وجان جاك روسو، في تطوير مفهوم جديد للمساواة قائم على الحقوق الطبيعية التي يمتلكها كل إنسان بصفته كائناً عاقلاً. هذه الأفكار كانت الأساس لإعلان حقوق الإنسان الذي نص على أن “جميع الناس يولدون أحرارًا ومتساوين في الكرامة والحقوق.”
مع هذه الخلفية التاريخية، من المهم أن ندرك أن فكرة أن “البشر متساوون” قد تُفهم بطرق مختلفة. من وجهة نظر قانونية وسياسية، قد يُعتبر البشر متساوين بمعنى أن لديهم نفس الحقوق الأساسية. هذا هو الجانب الذي يتم تأكيده في الدساتير الحديثة والمعاهدات الدولية. ولكن على المستوى الفردي، البيولوجي، والاجتماعي، فإن القول بأن البشر متساوون بشكل مطلق هو نوع من الكذب.
من الناحية البيولوجية، البشر ليسوا متساوين. الفروق الجينية تؤدي إلى اختلافات في القدرات الجسدية والعقلية. هناك أفراد يولدون بأمراض وراثية أو إعاقات، بينما آخرون يتمتعون بصحة ممتازة. هناك من يولدون بقدرات عقلية فائقة تمكنهم من التفوق الأكاديمي، بينما آخرون قد يواجهون صعوبات في التعلم. لا يمكن تجاهل هذه الحقائق البيولوجية والادعاء بأن الجميع متساوون بشكل مطلق.
من الجانب الاجتماعي، الفروق بين الأفراد أكبر وأعمق. المولود في عائلة فقيرة يواجه تحديات مختلفة تمامًا عن المولود في عائلة غنية. الثقافة، التربية، التعليم، والفرص التي تُتاح لكل فرد تختلف بشكل كبير. هناك من يعيشون في مجتمعات تتيح لهم الوصول إلى تعليم متقدم ورعاية صحية عالية الجودة، وهناك من يعيشون في مناطق يعانون فيها من نقص الموارد الأساسية. هذا الواقع يجعل من الصعب الدفاع عن فكرة المساواة المطلقة بين جميع البشر.
الثقافات المختلفة تنتج أفرادًا بتصورات مختلفة حول الحياة، القيم، والدور الاجتماعي. على سبيل المثال، في بعض الثقافات يُعتبر التقدير للأفراد على أساس إنجازاتهم الشخصية هو المعيار الأسمى، بينما في ثقافات أخرى قد يُعطى الاحترام للأفراد بناءً على مكانتهم الاجتماعية أو العائلية. هذا الاختلاف الثقافي يؤثر على فهم الأفراد لمفهوم المساواة وعلى كيفية تعاملهم مع فكرة العدالة الاجتماعية.
يمكن القول إن فكرة أن “البشر متساوون” هي كذبة عندما يتم الترويج لها بشكل مطلق. السبب وراء ذلك هو أن هذه الفكرة تتجاهل الفروق الفردية التي تشكل هوية كل إنسان وتؤثر على مساره في الحياة. البشر ليسوا متساوين في القدرات، الفرص، أو الظروف التي يولدون ويعيشون فيها.
من ينادي بأن البشر متساوون بشكل مطلق قد يكون لديه نية حسنة، ولكنه في النهاية يغفل عن واقع الحياة المعقد. قد يسعى هذا الشخص إلى نشر فكرة العدالة الاجتماعية والمساواة أمام القانون، ولكن تحويل هذا المفهوم إلى حكم مطلق يؤدي إلى تجاهل التحديات الفردية والمجتمعية التي يجب مواجهتها بشكل واقعي.
من المهم هنا أن نميز بين مفهوم “المساواة” ومفهوم “العدالة“. المساواة تعني أن الجميع يحصلون على نفس المعاملة والفرص، ولكن العدالة تعني أن الجميع يحصلون على ما يحتاجونه وفقًا لظروفهم وقدراتهم. العدالة تأخذ بعين الاعتبار الفروق الفردية وتسعى إلى تصحيح الظلم من خلال توزيع الموارد والفرص بطريقة تناسب احتياجات الأفراد المختلفة.
على سبيل المثال، إذا كان لدينا شخصين، أحدهما غني والآخر فقير، فإن إعطاء كل منهما نفس القدر من المال قد يبدو عادلاً من منظور المساواة، ولكنه في الحقيقة غير عادل من منظور العدالة. الشخص الفقير يحتاج إلى موارد أكثر لتحسين وضعه مقارنة بالشخص الغني الذي لا يواجه نفس التحديات.
بما أن البشر غير متساوين في القدرات والفرص، فإن تحقيق العدالة يتطلب التعامل مع هذه الفروق بطرق مبتكرة. في عالم تسوده التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية، يجب أن نركز على توفير الفرص لمن هم في أمس الحاجة إليها. هذا قد يعني دعم الفئات المهمشة، تحسين نظم التعليم والرعاية الصحية في المجتمعات الفقيرة، وضمان أن جميع الأفراد يحصلون على فرص حقيقية لتحقيق إمكاناتهم.
خلاصة الموضوع إذا أردنا القول بأن “البشر متساوون” بشكل مطلق هو نوع من الكذب أو التضليل، لأن الفروق بين الأفراد على مستوى البيولوجيا، الفرص، والثقافة هي فروق حقيقية وملموسة. العدالة، وليس المساواة المطلقة، هي الهدف الذي يجب أن نسعى لتحقيقه. العدالة تعني الاعتراف بهذه الفروق والسعي إلى تصحيحها من خلال توفير الفرص المناسبة لكل فرد، بناءً على احتياجاته وظروفه الخاصة.
إن الحديث عن المساواة بطريقة سطحية ومطلقة يعيق فهمنا للطريقة التي يمكن أن نحقق بها مجتمعات أكثر عدالة وإنصافًا. إن الاعتراف بالفروق بين البشر والتعامل معها بواقعية هو الخطوة الأولى نحو بناء عالم يتسم بالعدالة الحقيقية.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة