كارثة تشرنوبل .. الحقيقة كما حدثت

 

تعتبر كارثة تشرنوبل عالمياً أسوأ كارثة للتسرب الإشعاعي والتلوث البيئي شهدتها البشرية حتى الآن. وصنفت ككارثة نووية من الدرجة الـ 7. وقعت الكارثة في 26 أبريل/نيسان 1986 في القسم الرابع من مفاعل محطة تشرنوبل بالقرب من مدينة بريبيات في أوكرانيا التي كانت حينذاك واحدة من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق. لذا تعد واحدةً من أهم الأحداث العالمية البارزة التي يصعب تصديقها، وقعت خلال المائة عام الأخيرة، مع ذلك، هناك عددٌ قليلٌ من الناس فهموا ما حدث فعلًا هناك.

 بعد قدر من الخلط والتشويش، تم تحريف كل المعلومات التي تسربت عن هذا الحادث خلال الأعوام الخمسة التي تلت الحادث؛ كي تتوافق مع قصةٍ مختارةٍ، وهي أنَّ المسؤولية واللوم يقعانِ بالكاملِ على كاهل العاملين الذين كانوا يديرون هذه المحطة. من هنا، تحولت جزئياتٌ وقليلٌ من المعلومات إلى نوعٍ من الأساطير والأحاجي، بالرغم من وضوح وجلاء كثيرٍ من الأقاويل غير الدقيقة التي راجت سابقًا.

يتتبع الكاتب الإنجليزي أندرو ليذربارو في كتابه “تشرنوبل.. 01:23:40.. الحقيقة كما حدثت” كارثة تشرنوبل انطلاقا من تاريخ الطاقة الذرية ليبدأ رحلته قبل وبعد الكارثة وما خلفته من آثار مدمرة بيئية وإنسانية، ويوثق الكثير من الشهادات والمعلومات العلمية والسياسية والاجتماعية والبيئية في ثلاثة عشر فصلا، مصححا لأقاويل غير دقيقة راجت عن كارثة الانفجار، وكاشفا عن تفاصيل ولحظات مروعة لما جرى قبيل الانفجار وأثناءه، وبالنهاية لا يقف عند ذلك بل يذهب بعيدا ليتتبع المفاعلات النووية في الشرق والغرب، ويصيغ كل ذلك بشكل مبسطا مستهدفا القارئ غير المتخصص.

يلفت ليذربارو في كتابه الذي ترجمه سمير محفوظ بشير والصادر عن دار العربي للنشر إلى أن “كلَّ كتابٍ جديدٍ أو فيلم سينمائيٍّ، مقال في صحيفة، أو موقع علَى الإنترنت يدلي بشكل مخالف للقصة الحقيقية لهذه الكارثة، وهذه المفارقات ما زالت منتشرة حتى يومنا هذا. ليس هذا فقط، فأنا لم أستطع العثور علَى أي عنوان يركز علَى أجزاء القصة التي أهتم بها، معظمها يخصص جزءًا بسيطًا للحادثة الحقيقية، ثم يختار بديلًا، وهو الحديث عن الآثار اللاحقة. أما مَن اهتموا بسرد الأحداث الحقيقية بالتفصيل، مثلما ورد في كتاب “مذكرات تشرنوبل”؛ فإنَّ الكاتبَ تجاهل تمامًا الوقائع التالية للحادث. آخرون أصبحوا متورطين في عرض السياسات والتأثيرات البيئية، مع تسجيل أرقام وأعداد لا نهاية لها، لذلك، بعد بحثي عن الكتب التي أود قراءتها كي أكتشف بعض العناوين غير المسجلة، قررت أن أكتب كتابًا”.

ويضيف “لا أود هنا أن أصبغ نوعًا من الإثارة علَى هذا الحادث، فما وقع مثير حقًّا من وجوه عدة، لكنَّ كثيرًا ما تُحكى قصة هذا الحادث بنوعٍ من المبالغة لإضافة الشكل الدراميِّ عليها، وهذا أعتبره فعلًا غير أمين، وليس ضروريًّا؛ فالأحداثُ الحقيقيةُ فيها من الدراما ما يكفي. أيضًا، لن أحاول هنا أنْ أدين أو أبرئ أحدًا، فأنا لا أطيق ما يلجأ إليه كُتَّابُ المؤلفاتِ غير الروائية بفرض آرائهم علَى القارئ. هنا سوف أعرض الحقائق بكل بساطةٍ، وأوضحها كما تراءتْ لي. وبالرغم من أنني بذلت جهدًا حقيقيًّا؛ كي أتأكد من أنَّ كلَّ المعلومات المذكورة هنا صحيحة ودقيقة، فإنه في النواحي المختصة بالمفاعلات النووية، قمت بتبسيطها إلى حدٍّ كبير، بغرض أنْ تصبح القصة سهلة التتبع علَى القارئ. هذا، وقد وضعت قصص الشخصيات المتورطة في الحادث عند حدها الأدنى، تحقيقًا لمبدأ الإيجاز”.

يركز ليذربارو في قصته علَى الأشخاصِ الذين رأيت أنه كان لهم دورٌ رئيسيٌّ في هذا الحادث. يقول “شعرت أنه من الأهمية بمكان أنْ أجعل هذا السرد يهتم بشخوصها، ولذلك استخدمت عددًا من الاقتباسات من الناس الذين كانوا هناك وقت الحادث، ولكن، لأنَّ وقتًا طويلًا قد مرَّ، فعرفت أنه لن يكون في إمكاني أنْ أبني قصةً كاملةً ودقيقةً لما حدث بسبب تعارض المعلومات التي أدلى بها الشهودُ، لكنني جاهدت كي أتأكد من أنْ يكون هذا الكتاب صادقًا وحقيقيًّا بقدر الإمكان، وعندما أكون غير متأكد من معلومة ما، فإنني أضع عنها ملحوظة في الهامش. لذا، إذا اتضح أنني لم أكن دقيقًا في معلومة معينة ثم ظهر الدليلُ القاطعُ علَى صحتها، فأرجو من القارئ ألا يتردد في إخباري بذلك، حيث إنني لا أطيق أن أتورط في ذكر أيِّ حقائق غير موثقة”.

ويشير إلى أنه أراد من كتابه تضمين تجربة رحلته التي قام بها إلى تشرنوبل عام 2011، “أردت بها أنْ أدرس هذه الكارثة أكثر. كانت تلك الرحلة مفيدة للغاية لي، بل وأقول إنها غيَّرت حياتي بالكامل. وهذه هي القصة الثانية، التي هي في الواقع أقل إثارةً من الأحداث التاريخية، وأتمنى أنْ تضيف شيئًا للمنظومة. لا أتذكر كثيرًا المحادثات أو النقاط الجيدة التي صادفتني خلال رحلتي تلك، حيث إنني لم أشأ أنْ أحصل علَى معلومات معينة أضيفها إلى كتابي، لذا فإنَّ نقصَ التفصيلاتِ في بعض النواحي هو اختيارٌ متعمدٌ. كل الصور الفوتوغرافية – التي تبلغ نحو ألف صورة – الملتقطة لمدينة بربيات وتشرنوبل الموضحة في هذا الكتاب قمت بالتقاطها بنفسي أثناء تلك الرحلة”.

يقول ليذربارو “في الساعة 01:23:04 تم فصل المولد رقم 8، وبدأت قوته تخبو، لم يكن لدى المشتغلين أي فكرة عما سيحدث، لذا انشغلوا في تهدئة لغة الحوارات، مبدين ملاحظة أن عمل المفاعل قد اكتمل، ويمكن لهم الآن أن يغلقوه تماما. لكن ما حدث بعد ذلك ليس واضحا بدرجة 100%؛ ادعى دياتلوف ـ لاحقا ـ أن التجربة استمرت بشكل عادي بلا أي مشاكل، وأن أكيموف ضغط بكل بساطة على مفتاح مفتاح أمان الطوارئ EP-5 الذي يغلق المفاعل بعد اكتمال التجربة المخطط لها. آخرون قالوا إنه حدثت ـ حينئاك ـ صيحات، وأن أكيموف ضغط على المفتاح بعدما شاهد توبتونوف القراءات في لوحة مفاتيح الضبط التي بينت وقوع مشكلة خطيرة. وبالرغم من أن التفاعل النووي زاد قليلا بينما تهبط حركة التوربين، لكن بعض التقارير وعمليات المحاكاة استنتجت أنه لم تحدث أي ظاهرة غريبة قبل الضغط على المفتاح، وأن كل القراءات في ظل كل هذه الظروف كانت طبيعية”.

ويضيف “بغض النظر عن كل هذا، في الساعة  01:23:40 يوم 26 أبريل 1986، أصدر ألكسندر أكيموف (عمره 32 عاما) قراره المصيري عندما ضغط على مفتاح أمان الطوارئ رقم EP-5 لتبدأ عملية الـ “SCRAM” جاعلا كل قضبان الضبط الباقية في بداية نزولها البطئ نحو النواة، كان غلق مفتاح الطوارئ هو اختيار أيموف الواضح.. هناك جزء كبير من الأسباب التي نرى أنها تقف وراء مسألة أن النواة فقدت استقرارها؛ من ضمنها أن الـ 211 قضيبا للضبط كانت قد ارتفعت عن أماكنها المعتادة، مما جعل أكيموف ومعه زملاءه على قدر ضئيل من القدرة على التحكم في المفاعل، وربما يكون ـ إذا كانت تلك القصص التي راجت من أن توبتونوف كان يصيح فيه هي قصة صحيحة ـ هنا، اعتبار الرجل أن ذلك هو خياره الوحيد، إذا أخذنا في الحسبان أن هناك عديدا من أنظمة الأمان كانت قد تعطلت. للأسف ، وللحقيقة، كان ذلك أسوأ تصرف يصدر عنه؛ خلال ثوان معدودة، توقفت قضبان التحكم عن الحركة تماما”.

ويوضح ليذربارو “أصبحت مضخات المياة مصابة بما يسمى بالتكهيف أو التجويف ومملوءة بالبخار، بذلك خفضت من حجم وكمية مياه التبريد التي لا غنى عنها، كذلك سامحة لحدوث فجوات البخار “هي جيوب من البخار كان واجبا أن يكون بديلها هو الماء” أن تتكون عند النواة النووية، علما بأن غياب الماء البارد يحدث تسارعا رهيبا في القوة المنبعثة من المفاعل، بتعبير أبسط: مزيد من البخار = مياه تبريد أقل = مزيدا من الحرارة = مزيدا من البخار. ولأنه كانت هناك أربع مضخات من ثمان تهرب من التوربين المتباطئ، لذا حصل المفاعل على القليل من مياه التبريد، في حين أن الحرارة تزداد في الوقت نفسه، عبر كل مبنى المحطة الشاسع، كان يسمع صوت “طرقات” قادمة من اتجاه قاعة المفاعل الرئيسية، أما المؤشرات والقراءات التي ظهرت على لوحة الضبط أكيموف أوضحت بجلاء أن قضبان التحكم لم تتحرك كثيرا بعد تجمدها عن الحركة، لم تتحرك سوى 2.5 مترا من وضعها العلوي؛ لذا وهو يفكر بسرعة بالغة قام على الفور بتفكيك روابط القضبان من محركاتها، كي تتمكن هذه القضبان الثقيلة أصلا من أن تهبط سريعا نحو النواة، بسبب ثقلها الذاتي، لكنها للأسف لم تتحرك بتاتا؛ لقد انحشرت: “فكرت أن عيني قد برزتا من محجريهما، لم يكن هناك أي تفسير معقول لحدوث ذلك”، هكذا تذكر دياتلوف، بعد مرور ستة أعوام تالية: “كان واضحا أن ما كان يحدث أمامنا ليس طبيعيا، لكنه شيء أكثر رعبا، إنها كارثة”.

ويشير ليذربارو أنه “في عام 1973، صنعت روسيا المفاعل فائق القوة RBMK-1000 – المماثل للمفاعلات التي استخدمت في تشرنوبل، التي كانت تحت الإنشاء – حينذاك – وقد بدأ العمل في تصنيعها في لينينجراد. استمرت كل من أميركا ومعظم الدول الغربية في تزويد المفاعلات في تصميمها بالمياه المضغوطة للتبريد، وهي مياه مبردة كخيار أمان. مع نهايات عام 1970 حتى بدايات عام 2000، هدأ نوعًا ما بناء المفاعلات الجديدة؛ حدث هذا نتيجة للحوادث التي وقعت في مفاعلات كل من تشرنوبل الروسية، وحادثة جزيرة الثلاثة أميال الأميركية، مع ضرورة تحسين وتطوير مقدار الطاقة المنبعثة وكفاءة المفاعلات الموجودة فعلًا. 

بلغت مسألة توليد الطاقة الكهربائية باستخدام الطاقة النووية أقصى نشاط لها مع تعداد المفاعلات العاملة حتى عام 2002، حيث بلغ عدد المفاعلات 444 مفاعلًا في الولايات المتحدة وحدها، إلا أنه في عام 2006 بلغ إنتاج القوى الكهربائية من المفاعلات النووية أقصى حدودها، حيث ولدت تلك المحطات مجتمعة 2660 تيرا وات/ ساعة في هذا العام.

ويكشف أنه خلال عام 2011، ولدت المحطات النووية 11،7% من إجمالي كهرباء العالم، من 430 محطة مفاعلات نووية، تعمل في 31 دولة، جميعها استطاعت توليد 372 ألف ميجاوات كهرباء. الآن، تعتبر أكبر محطة مفاعلات نووية في العالم هي محطة كاشيوازاكي – كاريوا اليابانية، التي تستطيع توليد 8000 ميجاوات من سبعة مفاعلات، بالرغم من أنها متوقفة عن العمل حاليًّا. هذا، وبينما تعتبر فرنسا هي أكثر الدول اعتمادًا علَى الطاقة النووية لإنتاج الكهرباء، حيث تولد 75% من الكهرباء عبر محطاتها النووية؛ يترواح مدى اعتماد أميركا وروسيا علَى هذه النوعية من توليد الكهرباء بما يمثل فقط 20% من إجماليِّ توليدهما للطاقة الكهربائية. أما كل من سلوفاكيا والمجر فهما الدولتان الوحيدتان اللتان تولدان حوالي 50% من كهرباء المحطات النووية مع نهاية عام 2014، هذا بالرغم من أن أوكرانيا، حيثما تقع محطة تشرنوبل، ما زالت تعتمد علَى كهرباء الطاقة النووية بمقدار 49% من إنتاجها للكهرباء”.

 

ميدل إيست أون لاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى