كاريش.. تسوية أم خضوع؟
بدأت مفاوضات ترسيم الحدود البحرية بين لبنان و”تل أبيب” منذ عام 2012 بشكل غير مباشر عبر وسيط أميركي، في ظل إصرار إسرائيلي على أخذ قسم حيوي من حقل قانا أو ما يعرف بالخط 23 البحري.
وقد استغلت “تل أبيب” تفوقها العسكري والدعم الأميركي، في ظل اتفاقيتها مع قبرص على ترسيم الحدود المقابلة للطرفين، لتمضي في سياسة الأمر الواقع. وقد بلغت ذروتها بإعلان نيتها ضخ الغاز من حقل كاريش في بداية أيلول/سبتمبر 2022.
لكنَّ مستجداً دخل على خط التفاوض البارد بين لبنان و”تل أبيب”، في ظل اندفاع إسرائيلي أميركي لاستخراج غاز كاريش الغنيّ. على هذا المستجد وحده انتظم إيقاع التناقضات، لتخرج في صورة تفاهم طال انتظاره، فما هو هذا المستجد؟
شكّلت الحرب في أوكرانيا تحدياً لتوفير بديل يغني أوروبا من الغاز الروسي، فكان غاز المتوسط، ومنه حقل كاريش، واحداً من البدائل، على محدوديّته، بما خلق حافزاً للاندفاع بالضخّ من كاريش، لكنه لم يكن المستجد الذي فرض معادلة الخروج من العناد الإسرائيلي الذي دام عقداً من الزمن، وراوح لسنتين كاملتين منذ أن تم الإعلان عن اتفاق إطار بين لبنان و”تل أبيب”، في ظل القدرة الإسرائيلية على مواصلة فرض سياسة الأمر الواقع، وهي سياسة اعتادها العرب على امتداد البحرين الأحمر والمتوسط، وترسخت منذ فشل عملية إغلاق مضيق تيران البحري، والتي تسببت بالهزيمة العربية عام 1967.
انتظر العالم وفاء “تل أبيب” بخطتها في ضخ غاز كاريش في بداية أيلول/سبتمبر، وهو ما عجزت عنه بعدما دخلت المقاومة على الخط، بصيغة تهديد صريح أطلقه السيد حسن نصر الله، وتبعه بطائرات مسيّرة حلّقت فوق كاريش، في رسالة بعثرت أوراق اللعبة المعتادة، وفرضت انتظامها على غير العادة في واقع الاستكبار الإسرائيلي والخضوع العربي.
بضعة شهور كانت كافية ليصل فيها المبعوث الأميركي هوكستين الليل بالنهار، للخروج من الأزمة التي وضعت البلدين على حافة حرب في ظل تهديدات محددة بسقف زمني، وتعي واشنطن أن حرباً في هذا التوقيت ستخدم روسيا، ليس في منع غاز كاريش فحسب، إنما في ارتفاع إضافي في أسعار الغاز أيضاً، في وقت تصبح مياه المتوسط ساحة مواجهة، بما يتطلب توفير حماية إضافية لناقلات الغاز عبر البحر.
حقل قانا المتنازع عليه، وفق الأمم المتحدة، أصبح فجأة حقلاً لبنانياً خالصاً، وبإقرار إسرائيلي، فلا يمكن لـ”تل أبيب” أن تضخ الغاز من كاريش إلا إذا سُمح للبنان بالتنقيب عن ثرواته النفطية، وهو ما جعل الرئيس اللبناني يعلن بكل فخر أن لبنان دخل الخطوة الأولى في تنفيذ مشروعه الذي بدأه عام 2010 ليصبح بلداً نفطياً.
جاء ضغط المقاومة في توقيت حساس، والطرفان يعومان دون استقرار سياسي، فلبنان يمر بأقسى أزمة اقتصادية سياسية منذ عقود، و”تل أبيب” تخرج من انتخابات لتعد العدة لانتخابات لاحقة، وهو ما جعل الميدان الانتخابي عاملاً مرشحاً لتفجير الموقف، في ظل ما طغى من شعور عام في “تل أبيب” بأن “إسرائيل” خضعت لتهديد نصر الله.
هل جثت “تل أبيب” بالفعل على ركبتيها في مواجهة تهديدات المقاومة، بحسب ما جاء على لسان غالبية المعلقين الإعلاميين فيها، وهو ما قاله نتنياهو صراحة، وصدر عن مئات الضباط والجنرالات السابقين، وعنونت به “هآرتس” و”معاريف” وغيرهما من كبريات الصحف العبرية؟
ظهر لبنان موحّداً، وربما للمرة الأولى، في مواجهة انقسام حادّ في “تل أبيب”، وهو ما دفع السيد نصر إلى التحذير من الطيش الإسرائيلي المحتمل، رغم الدعم الأمني الرسمي الإسرائيلي لهذا الترسيم، باعتباره إنجازاً تاريخياً عبّر عنه رئيس الموساد بوصفه اعترافاً من حزب الله بـ”إسرائيل”، فهل الأمر كذلك؟ ولماذا يشغل رئيس الموساد نفسه باعتراف حزب الله بكيانه؟
تنبّه الرئيس عون، كما قائد المقاومة، إلى الالتباس السياسي بشأن عقد تفاهمات مع “دولة” ليس لها شرعية في القاموس اللبناني. لذا، حرص كل منهما على فك هذا الالتباس بالإشارة إلى طبيعة الترسيم، باعتباره انتزاع حقّ من دون الإقرار بشرعية السيطرة على المياه الفلسطينية، بقول نصر الله: “بالنسبة إلينا في المقاومة، بحرنا يمتد إلى غزة. وحين تتحرر فلسطين لن نختلف مع إخواننا الفلسطينيين على حدودنا البحرية”، في وقت أكد عون أن لبنان لم يقدم تنازلات جوهرية، ولم يدخل أدنى تطبيع مع المحتل، ولم يعترف بخط الطفافات.
شعور الخضوع السائد في “تل أبيب”، رغم مسرحية الضخ العكسي وما واكبها من تهديد إسرائيلي، مع الحرص على التأكيد الموازي الفوري أن ما يجري ليس ضخاً للغاز، عزّز الانطباع بأن كل التطورات اللاحقة بشأن ترسيم الحدود بين لبنان والكيان العبري جاءت تبعاً لتهديد المقاومة، وخصوصاً مع التراجع الإسرائيلي بشأن حقل قانا، رغم رفض الاعتراضات اللبنانية بشأن خط الطوافات، وهي اعتراضات لم تزل قائمة، وإن لم تؤدِّ إلى نسف الترسيم الجوهري المتعلق بالبعد الاقتصادي.
كل إسرائيلي، كما كل عربي، بات يعي بشكل لا لبس فيه أن هذا الترسيم ما كان ليتم بهذه السرعة لولا حصول التفاوض تحت ضغط المقاومة المحكوم بسقف زمني. ولا يخفى عن أحد أن الترسيم تم بخلاف الإصرار الإسرائيلي الجوهري السابق، كما أنه، وإن ضمن لـ”تل أبيب” الاستفادة السريعة من ضخ غاز كاريش، نظراً إلى تجاوزها العقبات الفنية، فإن لبنان المقعد اقتصادياً ضمن بلوغ عتبة البداية الزمنية والواقعية في التحول لبلد نفطي. هذه العوامل الثلاثة مجتمعة تؤكد أن الترسيم كان خضوعاً إسرائيلياً أكثر من كونه تسوية حدودية، فأيّ تسويات تقع تحت التهديد بالنار؟!
الميادين نت