كامالا هاريس في آسيا: وعود أميركية لم تَعُدْ جذّابة
زيارة كامالا هاريس تهدف إلى التأكيد أن المنطقة ودولها تبقى ذات أهمية لواشنطن، استراتيجياً واقتصادياً. لكن من الصعب على تلك الدول أن تؤخَذ بالخطابات من دون التزام واضح من الإدارة الأميركية.
في ظل انسحاب مفاجئ من أفغانستان، وصور مرعبة لمتعاونين أفغان يتعلّقون بالطائرات الأميركية للنَّجاة بأنفسهم من انتقام “طالبان”، تزور كامالا هاريس، نائبة الرئيس الأميركي جو بايدن، آسيا، في رحلة هي الأولى لها، وتهدف إلى تعزيز التحالفات الإقليمية، وتهدئة مخاوف الحلفاء.
تبدأ هاريس زيارتها الآسيوية بسنغافورة، الشريك الأكثر موثوقية بالنسبة إلى الولايات المتحدة في جنوب شرق آسيا. فالاتفاقيات الدفاعية والأمنية الموقَّعة بين البلدين، تسمح للجيش الأميركي بالوصول إلى أراضيها ومياهها الإقليمية، والاستقرار فيها، والتحليق فوقها.
تحاول هاريس في زيارتها تلك، التشبُّه بالزيارة الخارجية الأولى لوزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون، بحيث تمّ التأكيد، من خلال تلك الزيارة، أن آسيا ستكون الوجهة الأساسية للاستراتيجية الأميركية في عهد أوباما. وكما أوباما، يحاول بايدن ونائبته تأكيد “أولوية آسيا” في الاستراتيجية المعتمَدة للإدارة الحالية، إلاّ أن تجربة الآسيويين مع إدارتي أوباما وترامب، وصُوَرَ أفغانستان المذلّة، ستجعل من الصعب على الأميركيين اختراق النفوذ الصيني المتصاعد في المنطقة.
ستكون أمام الأميركيين، عدة عقبات، منها:
– صورة الانسحاب الفوضوي من أفغانستان:
المشكلة بالنسبة إلى الأميركيين، والتي ستواجه هاريس، أن صورةَ تخلّيهم عن حلفائهم، والانسحابَ من دون الالتفات إلى الوراء، على نحو يذكّر بانسحابهم من فيتنام (التي تزورها هاريس أيضاً)، سيدفعان عدداً من الدول في المنطقة إلى اعتماد سياسة “منتصف العصا”؛ أي الإبقاء على التعاون مع الصين وأميركا معاً، في منطقة تشهد صعوداً للنفوذين الصيني والروسي، بالإضافة إلى النفوذ الأميركي.
– تراجع الموقع التجاري للولايات المتحدة:
بالرغم من كل الخطابات الواعدة للرئيس بايدن، فإن مركز الولايات المتحدة المتضائل في التجارة الآسيوية، لم يعد موضع شكّ. فالصين استغلّت انشغال الإدارات الأميركية المتعاقبة في الشرق الأوسط، لتطلق خطتها للمنطقة عام 2012، ثم أتى قرار دونالد ترامب القاضي بالانسحاب من الاتفاقية الشاملة لـ”الشراكة عبر المحيط الهادئ” في عام 2017، ليكرّس تراجع أميركا كلاعب مهيمن على السياسة التجارية في آسيا، ولتصبح الصين – وليس أميركا – الشريك التجاري الرائد لكل دولة في المنطقة.
واليوم، تحاول الولايات المتحدة، لضرورات جيوسياسية، إعادةَ تأكيد ريادتها الاقتصادية في آسيا، لكنّ بايدن يواجه عقبات داخلية تُعَوِّق قراراته في مجالَي التجارة والاقتصاد. فعلى الرغم من أنه أكد في البداية رغبته في العودة إلى اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ، والتي خرج منها ترامب، فإن شيئًا لم يحدث لغاية الآن، كما معظم وعود بايدن الانتخابية الأخرى، فيما خص العلاقات الخارجية، ومنها العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران.
– أخطاء تاريخية في التعامل مع جنوب آسيا:
الملاحَظ أن الولايات المتحدة، منذ عدة عقود، لم تضع سياسة إقليمية حقيقية لجنوب آسيا، بل تعاملت مع المنطقة انطلاقاً من نظرتها إلى الحرب في أفغانستان، والتي طبعت النظرة الأميركية إلى باكستان أيضاً، بالإضافة إلى الشراكة بين الولايات المتحدة والهند. لم تحتلّ الدولُ الأخرى في جنوب آسيا مكانةً بارزة في التفكير الاستراتيجي للولايات المتحدة، بل بقيت على الهامش بالنسبة إلى رؤية صانع القرار الأميركي. وظهر ذلك جلياً عندما كشف الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب النقابَ عن “استراتيجية جنوب آسيا” عام 2017 ، فكانت أفغانستان والهند وباكستان هي الدول الوحيدة المذكورة في تلك الاستراتيجية.
حتى من الناحيتين الإدارية والعسكرية، لا تبدو منطقة جنوب آسيا وحدة إقليمية متمايزة بالنسبة إلى الأميركيين. ونلاحظ ذلك من خلال دمج منطقتي جنوب آسيا وآسيا الوسطى في وزارة الخارجية، وقيام “البنتاغون” بتقسيم القيادة والسيطرة على المنطقة. فالقيادة المركزية تشْرِف على باكستان، والقيادة في الهند والمحيط الهادئ تشرف على الهند.
هذا يعني أن خروج الولايات المتحدة من أفغانستان سيعطي فرصة للصين في أن تصبح الشريك الاستراتيجي الأهم لدول جنوب آسيا، وسيجعل الولايات المتحدة مرغمة على أن تعطي أهمية استراتيجية أكبر لدول جنوب شرق آسيا، والتي كانت حتى الأمس القريب تعتبر هامشية.
انطلاقاً مما سبق، يبدو أن زيارة هاريس تهدف إلى التأكيد أن المنطقة ودولها تبقى ذات أهمية لواشنطن، استراتيجياً واقتصادياً، لكن من الصعب على تلك الدول أن تؤخَذ بالخطابات من دون التزام واضح من الإدارة الأميركية، عسكرياً واقتصادياً. إن الضغوط الداخلية، وصور أفغانستان المذلة، وعدم إقدام بايدن وإحجامه عن العودة إلى الاتفاقيات السابقة، ستجعل ما سيعرضه على الشركاء الآسيويين أقلَّ جاذبية مما تعرضه الصين. لذا، من غير الممكن، بالنسبة إلى الولايات المتحدة، أن تستعيد موقعها المهيمن على التجارة الآسيوية من خلال أنصاف حلول، وأنصاف إجراءات، كما يحاول بايدن أن يفعل.
وهكذا، في منطقة تتَّسم بتزايد نفوذ الصين، لا يمكن للولايات المتحدة الأميركية الاستمرار في السياسة التي كانت تنتهجها سابقاً في تلك المنطقة. وهذا ما سيحوّل المنطقة إلى مناطق تنازُع نفوذ، وسيجعلها أقلَّ استقرارًا وأقلَّ أمناً، الأمر الذي قد يخدم خطة الولايات المتحدة لتقويض مبادرة طريق الحرير الجديد.
الميادين نت