نوافذ

كان يا ما كان

اليمامة كوسى

كان يا ما كان، كانت هناك قرية صغيرة مليئة بالخيرات فيها بحرٌ وجبل وصحراء، اجتمع سكّانها في الساحة العامّة وبدؤوا يتنافسون فيما بينهم في مسابقة غريبة تدعى مسابقة “أكبر الخاسرين”. كانوا يريدون أن يحدّدوا مَن منهم الأشدّ خسارة، وكأنّ تلك النزعة الإنسانية إلى التفوّق تتجلّى لديهم في كلّ شؤون الحياة بما فيها خساراتهم!

كانت المسابقة حماسيّةً جداً فالجميع يريد أن يكون المنتصر، ولن يدّخر جهداً في المنافسة على اللقب. لكنّ المشكلة أنهم لم يكونوا ينظرون إلى بعضهم البعض كما لو أنّهم يعيشون في عوالم منفصلة. كلّ منهم كان يحصُر مجال نظره في الورقة التي يكتب عليها خساراته، وكلّ همّه ألّا يفوّت أية لحظة من وقت المسابقة في النظر حوله، فهو يعتبر النظر إلى أوراق الآخرين الممتلئة مضيعة للوقت. أمّا إن حصل وحاولَ أحدهم أن يشرح لآخر القليل من مرارة تجاربه، ترى هذا الآخر ينهره بعنف وقد يمزّق له الورقة ويرميها في وجهه!

وبينما الناس مشغولون في إحصاء وكتابة خساراتهم، وجد مختار القرية  المجاورة في ذلك فرصةً لا تعوّض بثمن ليثأر من أهالي القرية الذين رفضوا تزويجهُ إحدى فتياتها الفاتنات بسبب سوء سمعته الشديد، فما كان منه إلّا أن أشعل النيران في عشب القرية وبدأت النار تلتهم كلّ شيء رويداً رويداً، إلا أنّ أحداً لم ينتبه لما يحدث، إذ كان الجميع منهمكاً بالمسابقة مُعلّقاً بصره على أوراق خساراته، فلا رأوا أعمدة النيران المتصاعدة، ولا شمّوا أدخنتها.

في قلب ذلك المشهد المؤسف، كانت هناك امرأة واحدة فقط لا تحمل في يدها ورقة خسارات رغم أنها فقدت جميع أبنائها. كانت تقف مصدومة وسط الساحة وعيناها تحدّقان في الأفق بتوجّس. لم تكن تكترث للتنافس مع أحد، أو لأن تثبت مقدار ألمها لأحد. لفت ذلك انتباه جارتِها التي كانت تبحث عن قلم آخر لتُكمل فيه خساراتها بعد أن نفد حبرُ قلمها. قالت لها: “ما بكِ تقفين هكذا؟! لمَ لا تكتبين خساراتك؟! اعلمي أنك إن لم تفعلي ذلك فستحصلين على المرتبة الأخيرة في المسابقة رغم أنك تستحقين مرتبة عالية جداً بعد كل الفقد الذي عِشتيه!”

ناوَلَتها ورقة من جيبها بحكم الجيرة الطويلة بينهما ثمّ استعارت لها قلماً كما فعلت لنفسها، وأعطتها إيّاه. حدّقت السيدة في الورقة والقلم لبرهة ثم رفعت بصرها وأخذت تتأمّل وجوه أهالي القرية وتتذكّر بيوتهم. لم تجد وجهاً واحداً بلا ندبات، ولم تجد بيتاً لم يطرق الحزن بابه. جميعهم ارتشفوا من كؤوس الظلم والفقد والقهر، وإن كان ذلك بكميات متفاوتة.

اجتاحها شعورٌ بدا لها غريباً ومألوفاً في ذات الوقت، مُوجعاً ومفرحاً بنفس الدرجة، شعورٌ افتقدته طويلاً لكنه انسكب الآن في داخلها دفعة واحدة.

إنه شعور الأمومة الذي تعرفه جيداً مهما حرمتها الحرب منه. لقد شعرت بأنّ جميع سكان القرية هم أبناؤها الذين لا تريد أن تفقدهم مجدداً. كانت تعلم بأنها لا تستطيع أن تبكي ولا أن تنطق، فقد جفّت الدموع في عينيها واختنق الصوت في حنجرتها منذ زمن بعيد، لكنّها علمت ما ستكتبه على ورقة الخسارات خاصتها.

تناولت الورقة وبدأت تكتب: “أبنائيَ المظلومون المطليّون بالجراح حتى أخمص أقدامكم.. أعلمُ كم يصعب عليكم أن أضعكم في خانة واحدة وأن أصفكم بصفات واحدة بعد كلّ ما حدث، لكنني أُمّ، والأمُّ تعرف كيف تُطلق الأحكام والصفات على أبنائها دون أن تجاملهم، أو تميّز بينهم، أو تكذب عليهم.

أكتبُ إليكم في هذه اللحظة والنيران تلتهم كلّ بيوت القرية دون استثناء، وستصل قريباً إلى أطراف أثوابنا جميعاً؛ أدعوكم دعوةً ملأى بالرّجاء أن نتوقّف عن متابعة التنافس وراء المراكز الأولى في مسابقة الخسارات هذه. لتسألوا أي طفل في القريّة عن نتيجتها وسيخبركم بأنّنا جميعاً منتصرون وستكون قريتنا هي الخاسر الوحيد.

دعونا نشكّل مسابقة جديدة أنفع وأجدى، ليكن اسمها مسابقة “أكبر الخاطئين”. نتنافس خلالها على إعلان أخطائنا جميعاً، ونكفّ عن التفكير بمثاليّةِ مَن يقول بأنّه لم يرتكب الأخطاء في حياته.

أتخيّل الآن مدى عذوبة الجوّ التنافسي في هذه المسابقة؛ يتوقّف كلّ منّا عن رمي الأخطاء في حضن الآخر كما لو أنّها قنابل موقوتة منزوعة الفتائل، ونقتنع جميعاً بأنّ تلك القنابل لن تفجّر صاحبها فحسب بل ستفجّرنا معه.

وبعد ذلك لا بدّ وأن تتعالى الأصوات، فيقول أحدنا: “أنا أخطأت هنا وسأتحمّل مسؤولية ذلك”، فيردّ عليه الآخر: “لا بل إنه خطأي أنا، دعني أتحمّل المسؤولية عنك”، ونستمرّ هكذا حتّى نُصلح معاً كلّ ما يمكننا إصلاحه.

إذا لم تعجبكم هذه المسابقة وشعرتم بأنّ قواعدها صعبة للغاية، ما رأيكم بمسابقة أخرى أسهل قليلاً، لندعوها مسابقة “أكبر المتنازلين”، نتنافس فيها لنقدّم التنازلات أمام بعضنا على طبقٍ من الصدق والقناعة.

صحيحٌ أنّ غالبيّتنا ينظر إلى التنازل كنوع من الخسارة لكن تذكّروا أنّ المُحِبّ يتنازل مهما صعب عليه ذلك، لأنّه يعلم مُسبقاً بأنّ خسارته أمام مَن يحبّ هي ربحٌ في النهاية.

ليتنازل كلٌّ منّا قليلاً ولينظر في وجه الآخر، ليتمعّن فيه جيداً وليرى الخسارات في عينيه لا في الأوراق التي يكتبها بيده ولا يقرؤها أحد!

بهذه الطريقة سنرى خساراتنا معكوسة في عيون بعضنا البعض وسيكون كلّ منّا قادراً على أن يقول للآخر بصوت المنتصر: “ها أنا ذا أراك وتراني.. وها هي خساراتك تنعكس في عينَيّ، وخساراتي تنعكس في عينيك، لنبكيها إذاً معاً كي تزول من مآقينا إلى الأبد”.

أيا أبنائيَ المثقلون بالآلام.. اسمعوا صوت أمّكم التي تعرفكم وتشعر بكم..

لنمسك بأيدي بعضنا البعض ولنخرج من هذا السجن المظلم سويّةً، فلا رابح بيننا إن آثر أحدنا أن يكون سجّاناً للآخر، بل سنبقى بذلك محتجزين داخل جدران هذا السجن مرّة أخرى، ولن ينفعنا حينها الندم!

لنكفّ عن دحرجة كرة الكراهية التي باتت أكبر منا جميعاً، لنبعدها عن أرضنا ومحاصيلنا قبل أن نستيقظ ذات يوم ونحن جميعاً جياع لا نجد ما نأكله!

لنعلم جيداً بأننا ما دمنا نسكن في هذه القرية ففي قيدِ أحدنا قيدُنا جميعاً، وفي حرّيته حريتنا جميعاً. وبأننا إن أردنا ألا نكون مذنبين في حقّ كلّ الأطفال الذين سيولدون على هذه الأرض علينا أن نترك الماضي للماضي، فصدّقوني؛ الحقدُ إرث ثقيل يكتبه الأب لأتعس أبنائه لا لأسعدهم!

نظرت المرأةُ إلى طرف ثوبها الذي بدأ يحترق، رفعت عينيها إلى السماء، ثمّ ختمت: أمّكم التي لم تعُد تقوى على تحمّل المزيد من الخسارات.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

 

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى