كبرنا مثل إشاعة
لا شكّ أنّ كلّ فعل إبداعي هو تلك الطفولة المستعادة قهراً أو قصداً.
نكتب و نشطب، نرسم ونمحو, نركض ونخفت، نشعل الشموع و ننفخ فوقها كي ننصت للظلام ثمّ نسعى إلى الضوء كفراش يريد أن يموت في أحسن حلّته. إنّنا أطفال… لو يدري العالم كلمة( أطفال).
كنّا صغاراً وكانت عصا المؤدّب في الكتّاب أطول من ألستنا جميعاً. كانت عصاه لا تستهدف إلاّ رؤوسنا الخضراء الصغيرة.
كنّا نستخدم الألواح ترساً لصدّ ضرباته فتتوجّع الحروف و تسّاقط همزات القطع والوصل وحروف العلّة والجر.. من يومها نشأت كلماتنا خائفة عرجاء.
كنّا صغاراً وكنت أقضم أظافري في السرّ قبل أن تتفقّد الراهبة العبوس أظافرنا ملوّحة بمسطرتها الموجعة على أطراف الأصابع وكنا نصلّي غصباً عنّا باسم الرجل الذي توجّع كي لا نتوجّع.
كنّا صغاراً وكنّا نصنع من أوراق الدفاتر مراكب وطائرات كي نسبق الكلمات التي خططناها فوقها…
كنّا صغاراً وكان الآخرون كباراً يخاطبوننا بلغة سمجة ويتوجّهون إلينا بأسئلة بلهاء من نوع: (تحب الماما أكثر أم البابا..؟)، (ماذا تريد أن تصير عندما تكبر..؟) كبرنا وصرنا ما لم نتمنّى أن نصيره (شخصيّاً كنت أتمنّى أن أصبح حلاّقاً أو مكيّساً في حمّام السوق).
كنّا صغاراً وكنّا نستمع إلى نمائم الكبار دون حقّ في الاعتراض ونتلصّص على ما يفعلونه دون حياء ونرقب دموعهم دون مجاهرتهم بالسؤال ..ونبكي معهم …كنّا صغاراً أمام تلك المعضلات و أولئك الكبار التائهين.
كنّا صغاراً وكنّا أصغر من البرّاد وأقصر من سنابل الحقول وأحذية الأب وفساتين الأم وأطول من أسئلة الكبار.
كنّا صغاراً دون صغار، كنّا نسعل أمام السجائر والأراجيل ونكشّر مع ارتشافة البيرة أو القهوة المرّة، وكانت ذائقتنا فقيرة ومخيّلاتنا غنيّة.
كنّا صغاراً وكبرنا. كنّا أمطاراً وتبخّرنا، وكنّا بحاراً وتصحّرنا. كنّا دون جوازات سفر، ودون أحقاد. كنّا نبكي في حضرة الحلاّق والمطهّر وطبيب الأسنان فصرنا نفرح ونضحك أمام أدواتهم المعدنيّة. كنّا نلعب بالأسلحة والسيّارات، وصرنا نكرهها ونخشاها..كم أصبحنا جبناء..
كانت أسناننا لا تعرف اللحم و لا الاصفرار ولا المعاجين ولا الحقد فاستبدلناها بأخرى تعرف كيف تكشّر .
كنّا نغمض عيوننا اتّقاء من الصابون والغرباء، صرنا نغمضها طلباً للحلم وخوفاً من الشمس والحقائق الموجعة.. ونفتحها ونحن نائمون.
كنّا صغاراً وكانت الحقائق أصغر منّا جميعاً. .والكبار أصغر منّا جميعاً والسّاعات أكبر من معاصمنا جميعاً.
ما الذي جعلنا نكبر كالإشاعة ، كفكرة، كقطعة خبز نسيتنا بين أصابعنا ونحن صغار…ما الّذي جعلنا نصغر أمام طفولتنا إلى هذا الحدّ..؟!
يقول الكبار: ما أثمر هذه الشجرة. ويقول الصغار: ما أجملها. يقول الكبار: ما أكبر هذا البنك! ويقول الصغار: ما أرحب هذه الحديقة التي تجاوره. يقول الكبار: ما ألطف هذا النادل، ويرد الصغار: لماذا يبتسم طول الوقت.. ولماذا لا يستريح! يستمتع الكبار بسجال سياسيّ بين ديكين منتوفين على قناة إخباريّة ويفضّل الصغار سجالاً آخر بين توم وجيري.
لو ينصت واحدنا ويتمعّن في جدل الصغار مع الكبار لاكتشف أنّ جمل الكبار قصيرة وحادّة وجمل الصغار طويلة ومقنعة.
سأل طفل والده :(لماذا تلبس العروس فستاناً أبيض في يوم فرحها يا أبي؟
ـ الأب: لأنّ الابيض لون النقاء والفرح والأمل يا ولدي
ـ الابن: طيّب، ولماذا يلبس العريس بدلة سوداء؟!
-الأب: ……………..
ما زال الصراع قائماً بين لحظتي الشرود والتأمّل، بين نزق الأطفال وادّعاء الأهالي، بين شعريّة الصغار و كذب الكبار، بين درّاجة الطفل الهوائيّة وسيّارة الأب البنزينيّة.
كنّا صغاراً وكانت الأقلام صالحة للتلوين والأوراق صالحة لصناعة الزوارق و كلّ الأشياء صالحة للأكل والسخرية ـ وكذلك الكبار ـ كانوا قادرين على كلّ شيء في أذهاننا بما أنّهم طوال.
قالت ابنة صديقي ذات السنتين لأمّها مهدّدة: (بس صير طويلة رح قول:(…) جكارة فيكم).
سنكبر يوما و لن نضع مفك البراغي في أذن صديق البابا الكاتب الغليظ، و لن نسكب العصير على فستان صديقة الماما الكذّابة والمتصابية ولن نطفىء شاشة التلفزيون عند نشرة الأخبار وسوف لن نستخدم (لن) بعد التسويف والإستقبال كما يريد النحويون.