كتابان في السينما يبشران بكسر النمطية والتمرد على قوالب الماضي

 

كأنه يقول للسينمائيين صناعا وعشاقا وأجيالا لم تأت بعد، تجددوا. تطوروا. اختلفوا. لا تكونوا نسخا من السابقين. تأملوا جيدا وتدبروا. ما تقدم مقلد، ولا تفوق تابع. شمروا سواعدكم وغيروا. لا جمال يولد دون تغيير للمشهد. لا زهور تنتعش دون تقليب للتربة. ولا عقول تنبغ بلا مخالفة للنمطية.

من دار بتانة للنشر بالقاهرة، طرح الكاتب والناقد السينمائي المخضرم أمير العمري كتابين جديدين عن السينما، كمحاولة منه لرسم الطريق لأجيال جديدة من المخرجين والسينمائيين العرب بحثا عن معرفة حقيقية ومتابعة صادقة لواقع الفن السابع، ما يمكن أن يدفعهم نحو التطور والنبوغ.

حمل الكتاب الأول عنوان “عالم سينما المؤلف”، بينما يحمل الثاني عنوان “السينما العربية خارج الصندوق”، وكل منهما يقدم رسالة واحدة، مفادها أن الجمال يعني الاختلاف، والخلود يستلزم كسر التقليدية.

يبدو الكاتب متأثرا بدراسته المبكرة للطب، إذ تستهويه الكتابة التشريحية فنجده يشمل بتحليلاته ونقده كافة أعمال المخرجين الذين كتب عنهم في كتابيه، فتشعر وكأنه يفتح بمشرط دقيق جسد وعقل كل منهم دالفا إلى ذاته، مستقرءا هواجسه ومشاعره. وعندما يفعل ذلك يفعله بلغة آسرة وعرض جذاب وسلس، وعندما يطلق حكما أو يرى رأيا، يتكيء على تحليل منطقي مقنع حتى لأولئك الذين لم يدرسوا السينما ولم يعملوا بها.

كان المخرج الأميركي فرانك راسل كابرا (1897ـ1991) يعتبر السينما لغة شاملة يتقنها العالم كله، مثلها مثل الموسيقى، ما يعني أن كل توجه سينمائي جديد ينتقل من بلد إلى بلد ومن شعب إلى آخر بسرعة أكبر من الأفكار والنظريات السياسية والاقتصادية. من هنا، فإننا لا نعجب أن نقرأ في الكتاب الأول نماذج لحركة سينما جديدة ولدت في السينما العالمية منتصف القرن العشرين، هي سينما المؤلف، ثم نتابع من خلال أكثر من أربعمائة صفحة من القطع المتوسط نماذج متنوعة لتلك الحركة على مستوى العالم.

سينما المؤلف

كانت البداية كما رصدها الكتاب لسينما المؤلف عندما كتب المخرج ألكسندر أستروك في مجلة “الشاشة الفرنسية” في مارس 1948 مقالا بعنوان “مولد سينما طليعية جديدة ـ الكاميرا قلم”، ليطرح فكرة تحول السينما إلى لغة، وتحول الكاميرا إلى قلم، ما يجعل المخرج هو الفنان الأول للعمل السينمائي، وليس مجرد منفذا لأفكار وهواجس الكاتب. وهذا ما التقطه الناقد أندريه بازان بعد ذلك وعبر عنه قائلا: “إن الفيلم يجب أن ينسب إلى مخرجه مادام المخرج يتحكم في مكونات الصورة والصوت، ولابد للمخرج أن يكون مؤلفا مثله مثل الأديب، سواء اشترك في كتابة السيناريو أم لم يشترك”.

يعني ذلك أن العمل السينمائي الحقيقي هو الذي يطرح أفكارا ورؤى وهواجس المخرج وليس مؤلف القصة، وهو الطرح الذي رحب به نقاد وسينمائيون كثر في فرنسا، منهم مثلا فرانسوا تريفو الذي كان يرفض الأفلام التقليدية بغض النظر عن مستواها الفني لأن المخرج فيها ينفذ سيناريوهات كتبها غيره دون أن يضمنها رؤيته.

وبدأت الفكرة تلقى قبولا خارج فرنسا وتنتقل رويدا إلى السينما الأميركية لتلمع أسماء مخرجين تلائم فكرة المخرج المؤلف مثل هيتشكوك، أورسون ويلز، نيكولاس راي. وفي 1968 أصدر اندريه ساريس كتابا عن السينما الأميركية اختار فيه 14 مخرجا اعتبرهم الأهم وهم الذين يعبرون عن الاتجاه الجديد كان من بينهم شارلي شابلن، جون فورد، فريتز لانج، وغيرهم. وفيما بعد انطلقت الموجة الجديدة إلى بريطانيا، ألمانيا، السويد، إيطاليا، أسبانيا، ثم إلى كافة أنحاء العالم.

يشير العمري إلى أن الفكرة واجهت بعض التحديات، خاصة عندما اعترض الفيلسوف الفرنسي رولان بارت، على عدم الفصل بين النص والمؤلف. لقد كان الرجل يرى أن النص منفصل عن المؤلف لتظهر بذلك فكرة موت المؤلف كإحدى أفكار ما بعد الحداثة، ما يعني انكار دور المؤلف والغاء حضوره في طيات العمل الفني.

وانتقلت سينما المؤلف إلى العالم العربي خلال الستينيات، وتأثر بها جيل العمالقة أمثال هنري بركات، يوسف شاهين، وتوفيق صالح، لكنها حضرت بقوة في الجيل الثالث للمخرجين مثل سعيد مرزوق، علي بدرخان، وأشرف فهمي، ثم الجيل التالي عند عاطف الطيب، رأفت الميهي، يسري نصرالله، وداوود عبدالسيد. كما تأثرت مدرسة الاخراج في المغرب العربي تأثرا بالغا بتلك المدرسة.

 

 

 

 

 

 

 

 

نبلاء متمردون

اختار أمير العمري 35 نموذجا لمخرجين عالميين عبروا بقوة عن سينما المؤلف، ورغم أن ميلاد التوجه كان في فرنسا، إلا أن استعراض النماذج كشف أن تأثير الحركة خارج فرنسا كان أكبر. فمن بين 35 مخرجا عالميا يتناولهم الكتاب نجد ثمانية من أميركا، وستة من إيطاليا، وخمسة من بريطانيا، وثلاثة من كل من ألمانيا، وفرنسا، وإثنان من كل من السويد والتشيك، ومخرج واحد من كل من الصين، يوغسلافيا، الدنمارك، المكسيك، فنلندا، أرمينيا.

نطالع في تجارب هؤلاء المخرجين، كيف هم متمردون على الواقع، مشتبكون مع التقليدية، فذلك المخرج السويدي إيخمار برجمان المولود سنة 1918، يحاول الاستغراق في البحث في ذاته وكأنها معادل للذات الإنسانية كلها، وكأنه يطبق مقولة جان بول سارتر الشهيرة “عندما اختار لا اختار لذاتي فقط، بل للآخرين جميعا”. إننا نجده في فيلم “سجن” 1949 يتناول قصة انتحار عاهرة ومن خلالها يطرح أفكاره الذاتية عن الله، الشيطان، الحياة، والموت، ثم نجده في فيلم “الختم السابع” يناقش قضية الموت بعمق شديد من خلال فارس يلعب الشطرنج مع الموت. وهذا المخرج الدنماركي لارس فون تريير يعترض على ما تقوم به إسرائيل من انتهاكات، ولا يجد حرجا في تشبيهها بهتلر، ما يؤكد تكوينه الإنساني الفذ الرافض للظلم العصري وهو ذات ما يطرحه فيلمه “المنزل الذي بناه جاك” 2018.

وذلك المخرج الإيطالي فرانشيسكو روزي الحائز على جائزة ماتييه الكبرى، يقف متحديا المافيا الحاكمة للسياسة وفاضحا فساد النظام الرأسمالي في فيلم “جثث متألقة” في الوقت الذي نجد آراءه الشخصية منحازة إلى قضايا الإنسان وآلامه، فيقف إلى جوار الشعب الجزائري في ثورته للإستقلال. كذلك عرض الكتاب تجربة الإيطالي برناردو برتولتشي وكيف جاءت ثائرة ومتمردة على القوالب، لنجده في فيلم “التانجو الأخير” معبرا عن قلق الإنسان الأوروبي المعاصر من طغيان النزعة العدمية.

في الوقت ذاته نجد المخرجة الألمانية مرجريتا فون تروتا تعبر في معظم أعمالها عن رومانسية المرأة ورفض الهيمنة الذكورية. ومثل هؤلاء تتكرر مواقفهم الذاتية المتمردة عند مخرجين آخرين يقدمهم الكاتب مثل الفرنسي جاك أوديار،الأمريكي تيرنس ماليك، السويدي روي اندرسون، والتشيكي ميلوش فورمان، وغيرهم.

عرب غير تقليدين

أما الكتاب الثاني (السينما العربية خارج الصندوق) فينقسم إلى قسمين، الأول يتناول أعمال ثلاثة عشر مخرجا عربيا يعتبرهم الكاتب خارج الصندوق، بثيماتهم غير التقليدية، وتطورهم الفني، وكسرهم للواقع، ومحاولاتهم المستمرة للتجريب والتجديد. ويقدم القسم الثاني 19 تجربة سينمائية جديدة من معظم البلدان العربية يرى فيها تبشيرا بجيل جديد من المبدعين الأفذاذ. وفي القسمين يطرح المؤلف رأيا جريئا إذ يقول صراحة إن غلبة الهاجس السياسي في النقد ترك تأثيرا سلبيا على كل من السينما والنقد معا، فلم يعد مقبولا أو مهضوما أن نتوقف في انبهار أمام عمل ما لكونه يتفق فقط مع قناعاتنا الخاصة الأيدولوجية أو السياسية.

ويرى العمري من حق السينمائي العثور على ما يتفق مع مفهومه الخاص سياسيا كان أم إجتماعيا، لكن من حق النقد بل ومن واجبه تحليل العمل طبقا لقدرته على الإقناع وما إذا كان متسقا مع طرحه الخاص من ناحية الأسلوب. ونلمح ذلك الرأي المطروح مطبقا في الفصل الثاني الذي يحمل عنوان “خالد يوسف من الكاباريه السياسي إلى البرلمان”، حيث أكد المؤلف أن يوسف رغم اختياره لنفسه مبكرا وصفة سينمائية تجمع بين التجاري المليودرامي، والواقعي الاجتماعي، والنقدي السياسي مع كثير من المناظر المثيرة، إلا أن أسوأ ما في أفلامه الخطاب السياسي الساذج الذي يصر على طرحه، ما يعني أن الموقف السياسي النقدي لديه أهم من الرؤية الفنية التي لا تدعو إلى الفعل.

من هنا مضى خالد يوسف في طريق الداعية السينمائي والزعيم السياسي تدفعه سيكولوجية الزعيم كونه في الأصل ابن عمدة، ثم رئيس لاتحاد طلبة الجامعة فيما بعد. وربما لهذه القراءة العميقة، فإن أمير العمري يرى أن أفضل أفلام خالد يوسف ليس “حين ميسرة” أو “هي فوضى” الذي اشترك فيه مع أستاذه يوسف شاهين، وإنما فيلم “الريس عمر حرب” الذي تخلص من الإحالات السياسية بفضل سيناريو احترافي لهاني فوزي.

إننا لا نجد ذلك الخطاب السياسي الزاعق في أفلام المخرج الفلسطيني ميشيل خليفي رغم موضوعاتها السياسية، فنجده يقدم في فيلم “الذاكرة الخصبة” فكرة الصمود الفلسطيني والتمسك بالأرض من خلال سيدتين فلسطينيتين واحدة من نابلس والأخرى من الجليل وكلتاهما تدافعان عن الهوية والأرض. وهنا فإن المخرج، كما يقول أمير العمري، لا ينتقد ولا يدين، لكنه يدعم فكرة الوعي بدلا من النضال المسلح. كذلك نجده في فيلم “نشيد الحجر” يقدم قصة رجل وإمرأة تربطهما قصة حب قبل عشرين عاما، لكن الرجل يقضي سنوات في سجن الاحتلال، وتغادر المرأة إلى بريطانيا، وعندما تعود لعمل دراسة موثقة عن الإنتفاضة تلتقي بالرجل في القدس ليسترجعا ذكرياتهما، ويكشتفا قسوة الاحتلال لتولد فكرة استعادة الحب كمعادل للتماسك ومقاومة النسيان. ويعد فيلم “زنديق” أكثر أعمال المخرج الفلسطيني تعبيرا عن سيرته وهو فيلم مشحون بالعذاب الوجودي والعالم المسدود الذي يدفع البطل دوما إلى التمرد والرفض والثورة.

تجارب شبابية

يستعرض الكتاب تجارب مخرجين كبار مثل رشيد بوشارب ومرزاق علواش من الجزائر، وهاني أبوأسعد وإيليا سليمان من فلسطين، ومروان حامد ومجدي أحمد علي وداوود عبد السيد من مصر، لكنه يقف بحماس لتجارب شبابية حديثة، منها مثلا فيلم “وقائع قريتي” للمخرج الجزائري كريم طرايديه وفيه يطرح الرجل سيرته وطفولته خلال زمن الاحتلال الفرنسي، وكيف ذهب والده إلى الجبل للحرب مع جيش التحرير. وخلال الأحداث نرى الجزائر مضطربة، لها صورة مشوشة تختلط فيها القيم والأشياء ولا يمكن التفرقة بين الأبيض والأسود، ومعظم الشخصيات يمتزج فيها الشر بالخير لكنها مصورة بعناية وأسلوب أقرب إلى الواقعية السحرية.

يتعرض الكتاب باهتمام لتجربة المخرج العراقي قاسم حول في فيلم “بغداد خارج بغداد”، وهو الفيلم الذي يراه المؤلف عملا لا يشبه غيره، بل إنه بعمقه وبنائه الشعري وجمالياته يتجاوز كافة ما ظهر من أفلام في السينما العراقية، وبالطبع ما قدمه المخرج نفسه من أفلام سابقة. وقبل أن نسأل لماذا، يجيب أمير العمري مبررا بأن الفيلم يرتد إلى تاريخ العراق، وتاريخ الشعر العربي هناك، للتعبيرعن تجربة إنسانية خاصة هي تجربة العيش المحاط بالموت. وهنا يبحث الفيلم عن سحر بغداد، لكن خارج تلك المدينة التي شهدت عصورا ذهبية وشهدت الكثير من المواهب المحفورة في الذاكرة الثقافية العربية.

إن الأموات في هذا الفيلم ليسوا أمواتا بل أرواحا حية تعيش معنا، فنرى الشاعر معروف الرصافي يطل من شرفته يلقي قصيدة هجاء في الاحتلال البريطاني ونرى شخصيات ثقافية أخرى تحضر بشكل مباغت، حتى نشعر برحلة الوعي بالصورة والصوت وبالسينما والموسيقى والغناء والشر لتعبر عن الحس المأساوي الكامن في الحياة.

كذلك يتتبع الكتاب تجربة المخرج الإماراتي الشاب ماجد الأنصاري في فيلمه الروائي الطويل “زنزانة”، وفيه يبدو الرجل مخلصا لسينما المأزق العبثي حيث يصبح الإنسان سجينا ولا يعرف سبب سجنه، ولا ما الذي سيحدث له. ويرى العمري أنه إشارة واضحة لما يمارس في بعض السجون العربية من إذلال وقمع لكل من يقع في أيدي رجال الشرطة، لكن المخرج يجرد المكان من هويته فيجعل الحدث من الممكن أن يقع في أي دولة ويختار لعمله طاقما من الممثلين من دول عربية عدة وهو اختيار مقصود لاضفاء طابع يتجاوز الحدود ويعني أن الأمر قد يشمل الجميع.

وبتعبير المؤلف فإن الفيلم يتجاوز فكرة النقد السياسي وغمز واقع القهر العربي من خلال الأسلوب التجريدي الغرائبي الذي يجعل الفيلم عملا أكثر كثافة من خلال استخدام الكاميرا بزوايا تصوير مختلفة وعمل مونتاجي يحطم الصوةر الثابتة للمكان الواحد.

يتحمس الكتاب لتجارب مماثلة مثل “المختارون” للمخرج الإماراتي علي مصطفى، و”دشرة” للمخرج التونسي عبدالحميد بوشناق، و”واجب” للمخرجة الفلسطينية آن ماري جاسر، و”شلاط تونس” للمخرجة التونسية كوثر بن هنية، و”ربيع” للمخرج اللبناني الأرمني فاتشي بولغورجيان، و”يوم من الأيام” للمخرج المصري محمد مصطفى.

وتبشر تلك القراءات بلون جديد بدأ يضع أقدامه في ساحة الفن العربي، ما يدفعنا أن نكرر ما قالته غادة السمان يوما بأن الفن، والفن وحده هو القادر على أن ينقذنا من كل هذا الجنون المحيط.

مجلة الجديد اللندنية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى